يوسف الشاروني.. 50 عامًا من الإبداع: لماذا القصة وليست الرواية? أمير الغندور

يوسف الشاروني.. 50 عامًا من الإبداع: لماذا القصة وليست الرواية?

يأتي صدور الكتاب رقم خمسين ليوسف الشاروني, (أجداد وأحفاد), عقب تجاوزه عمر الخمسين إبداعاً, والثمانين عمراً, ليضعنا أمام مهمة طال تأجيلها لمقاربة أعماله بما تستحق من تقدير طال انحجابه عنها.

ليس في هذا التوصيف مبالغة من مبالغات أهل الأدب, بل هو بالضبط ما تقوله الأرقام والإحصاءات.

فعدد الدراسات التي كتبت عن يوسف الشاروني بالعربية لم تتعد خمس دراسات, جاء أغلبها في فترة متأخرة جدًا من حياته الإبداعية - بعد مرور 40 عامًا على مسيرته الأدبية, حين ظهرت أول دراسة لم تتحرج من وضع اسم يوسف الشاروني على غلافها.

وقد درست هذه الأعمال قصص الشاروني وعالمه من جوانب شتى. ولكننا سنتجرأ هنا على دراسة شخصيته وأعماله من جانب جديد, حيث سنركز على تفكيك مضمون موقفه الأساسي الذي يصرح به دومًا: الالتزام بالقصة القصيرة والبعد عن الرواية. ففي أحد حواراته, يصرح بأن زمن الرواية انتهى, وأنه يفضل الالتزام بالقصة القصيرة. فهو لا يخفي إخلاصه للقصة القصيرة لدرجة تدفعه إلى معارضة الرواية.

فلماذا يا ترى يستأنس الشاروني بالقصة القصيرة ويتجنب الرواية?

بدأ يوسف الشاروني مشواره الإبداعي مع يوسف إدريس, حيث تزامن صدور مجموعته القصصية الأولى (العشاق الخمسة) مع صدور أول مجموعة ليوسف إدريس (أرخص ليالي), عام 1954.

وبينما بقي الشاوني مخلصًا لفن القصة القصيرة, انتقل يوسف إدريس إلى فن المسرح والرواية. وهذا الافتراق غيّر مسار حياة كل منهما بشكل جذري.

فقد لاقى يوسف الشاروني صعوبة كبيرة في نشره أعماله القصصية, لدرجة اضطر معها إلى النشر في مجلة الأديب اللبنانية, وهذا تسبب في أن كثيرًا من القراء حسبوه قاصًا لبنانيًا.

بينما اكتسب يوسف إدريس شهرة هائلة, نتيجة لازدهار فن السينما والمسرح وحاجتهما لمادة خام من الأعمال الإبداعية الجيدة, وبخاصة من مجال الرواية, لا من القصة القصيرة. فقد أنتجت السينما المصرية 11 فيلمًا عن روايات يوسف إدريس.

والحادثة الفارقة هي أن يوسف إدريس أودع المعتقل في عام صدور مجموعته القصصية الأولى, ليقضي عامًا كاملاً ويخرج من المعتقل ويكتب بغزارة منذ 1955 في المسرح (ملك القطن) (1955), ورواية (قصة حب) عام 1957 - التي تحولت إلى فيلم (لا وقت للحب), عام1963 - ومسرحية (اللحظة الحرجة) (1958), ثم رواية (الحرام) 1959, و(العيب) عام 1967, وتحولت كلتاهما إلى فيلم.

إن فهم هذا الافتراق الحاد, في المسار, يعيننا على فهم أعمال وشخصية يوسف الشاروني, بوضعه جنبًا إلى جنب يوسف إدريس - كما يفعل هو نفسه في كثير من لقاءاته وحواراته.

فمجال القصة القصيرة هو النشر, في الصحف وفي المطبوعات القصصية, وهي تتأثر بازدهار وانحسار الصحافة. وفي المقابل لا تصلح الصحف لنشر أغلب الروايات. فهي تستدعي النشر على حلقات متصلة, على عكس ما تمنحه القصة القصيرة من مرونة نشر عدة قصص في العدد الواحد فالمجال الأساسي للرواية هو إذن المسرح والسينما والتلفزيون, وهي تتأثر بحالة كل منها, ازدهارًا وانحسارًا. هكذا يرتبط عالم القصة القصيرة بعالم النشر والطباعة, بينما يرتبط عالم الرواية بعالم المسرح والسينما. وبهذا يصبح عالم القاص أكثر محدودية من عالم الروائي, وهذا ينعكس على شخصية كل منهما وشبكة علاقاته وسير حياته.

فإخلاص يوسف الشاروني للقصة القصيرة - بل ومعارضته الصريحة لفن الرواية - يمنحنا مفتاحًا مهمًا لشخصيته البسيطة السلسة الوديعة. وذلك على النقيض من الشخصية النمطية للروائي, الذي يتميز في أغلب الأحيان بالآراء الخلافية والشخصية المعقدة والنزعة السياسية.

تقابلات لا تداخلات

القصة هي ضرب من الكتابة أبسط بكثير من الرواية. أما الرواية فأشد تعقيدًا وأكثر احتواءً على الآراء الخلافية.

فيندر أن تجد رواية لم تثر خلافات شديدة في الرأي, بينما ليس هذا حال القصة القصيرة.

إن إخلاص يوسف الشاروني لفن القصة القصيرة يعبّر عن شخصية مشغولة بالصراع بين الخير والشر, والتناقض بين الصواب والخطأ, والتراوح بين الحب والهجر, والتأرجح بين العقل والجنون والتواصل بين الأجداد والأحفاد, والتقابل بين كسوف الشمس وكسوف القومية العربية.

وتجد ذلك في عناوين قصص يوسف الشاروني نفسها. فمنها (في مجموعته الأخيرة):

أجداد وأحفاد - بين الأحياء والأموات - الوسائل والغايات - حكاية الميتة الحية - حواء بلا جنة - قابيل وهابيل - الأديب والضابط - الكلمة والفعل - الضحك حتى البكاء.

فهنا تقوم الثنائية على التضاد بين عنصرين أو بين رمزين, لا على التداخل أو التمازج بينهما ولا على تولد أحدهما من الآخر أو تطور أحدهما إلى الآخر.

وهكذا يمكننا القول إن شخصية القاص يوسف الشاروني وسطية معتدلة ترى العالم بسيطًا مرتبًا وفق ثنائية الأبيض والأسود التي تسود التربية التقليدية للشخصية الشرقية الاعتيادية. فهو قد يتمرد في كتاباته, لكنه لا يتمرد أبدًا في حياته أو سلوكياته. وهو بالتأكيد له لحظات جنونه, ولكنه يعلم كيف يحتويها داخل عالمه الإبداعي الصغير, دون أن يترك لها العنان لتخرج من قمقمها وتسيطر على العالم المتعين. لكن هذا بالضبط ما يحدث لمن يفارق عالم القصة ويخوض في عالم الرواية. وهو المسار الذي يرفضه يوسف الشاروني.

فطبيعة الرواية تختلف عن القصة كثيرًا. فهي تتميز بتعددية الأصوات والشخصيات, بل وبمرور الشخصية الواحدة عبر أطوار مختلفة ومتمازجة. فلا يمكن للرواية أن تُختزل في لونين فقط, كالأبيض والأسود, وإلا أصبحت قصة. بل مجال الرواية هو ألوان الطيف المتباينة, التي لا تتضارب - تضارب الأبيض والأسود - ولكنها تختلف وتتمايز وتتمازج وتتداخل, في أشكال لا تقوم على التناقض, وإنما على التناغم. فما يشغل الرواية والروائي ليس هو الصراع بين الخير والشر, وإنما العلاقة بين الخير والشر, وتداخلات وتوافقات كل منهما مع الآخر.

خذ مثلاً شخصية (هيثكليف) في رواية (إميلي برونتي) (مرتفعات ويذرنج), أو شخصية (أنا كارنينا) في رواية تولستوي, أو شخصية (مدام بوفاري) في رواية فلوبير.

في هذه الشخصيات يتداخل الخير مع الشر, وتظل آراء النقاد تختلف بشأنها. فكل منها هو شرير ممتزج بخير, أو قاس بداخله عاشق, أو مذنب في جوهر قديس (وليس في ثياب قديس - فهذا تناقض, لا امتزاج).

بل إن الرواية المعاصرة تحرص على الخروج بشخصياتها من دائرة التحديد. فانظر مثلاً إلى شخصية (عوليس) لدى جيمس جويس أو لشخصية الزوجة في رواية (دون كازمورو) لعميد الرواية البرازيلية (ما شادو دو أسيس), حيث تنتهي الرواية دون أن يعرف القارئ هل خانت الزوجة زوجها أم لا, بينما هذا هو بالضبط محور الرواية.

فبطل الرواية يمتزج فيه الخير بالشر, لدرجة لا يتعارض فيها الاثنان ولا يتقابلان, بل يتداخلان ويمتزجان. أما بطل القصة فيقف دومًا في جانب ضد الآخر, فهو يقف في جانب الخير دون الشر, وفي جانب المنطق ضد سوء الفهم, أو هو في جانب الحب ضد الهجر.

يصعب تحديد موقع بطل الرواية - فهو بالضبط كموقع الإلكترون في العلم المعاصر. لماذا? لأنه لايُرسم بالأبيض والأسود. وتكمن مهارة الروائي في رسم صورة البطل بالألوان, دون تخطيط لحدوده بالأسود.

من هنا نقول إن يوسف الشاروني القاص هو واحد من القرّاء, الذين يكتب هو لهم. فهو يكتب بغرض التعبير, لا بغرض التغيير.

أما الروائي فتلقي به تجربته الجذرية بعيدًا عن ذهنية القرّاء, فيعتبر نفسه من النخبة المثقفة التي تكتب بغرض التغيير, لا بغرض التعبير. فهو يرى لنفسه دورًا قياديًا وطليعيًا ويتقدم الصفوف لتفعيله. أو قد يفارقها بشكل جذري, إذا عجز عن تفعيل هذا التغيير.

بين النقد والإبداع

يزدهر النقد لدى يوسف الشاروني في فترات الخمول القصصي, ويأتي على حساب القص. فإذا استعرضنا تراوح فترات النشاط بين النقدي والقصصي لدى يوسف الشاروني, فسنجد أنه يتأثر كثيرًا بالظروف والأحوال التي يمر بها المجتمع المصري. فقد مر بمرحلتين طويلتين للخمول القصصي لم ينشر فيهما مجموعة قصصية واحدة, وذلك في: (60 - 1969) (74 - 1979)

فقد شهدت هاتان المرحلتان ما يشبه انقلابًا لقيم المجتمع المصري. فالفترة الأولى هي فترة تحول الناصرية والثانية هي تحول الساداتية. لذا تأثر إبداع يوسف الشاروني وكمن وانقطع. وقد يكون ذلك لأنه شعر بانهيار الإصلاح, وأن الأوان قد أصبح أوان الثورة لا الإصلاح. لذا سكت وكمن.

العجيب أن هاتين الفترتين نفسهما شهدتا زيادة ملحوظة في نشاط (يوسف إدريس), القاص الذي تحول إلى المسرح والرواية والسينما. فقد حوّل قصصه ورواياته إلى أعمال مسرحية وسينمائية. حيث تحولت قصته (قاع المدينة) إلى فيلم عام 1974. و(النداهة) المكتوبة عام 1969, و(على ورق سوليفان) إلى أفلام عام (1975). وقصة (5 ساعات) إلى فيلم في الفترة 1966 إلى 1976.

وبينما خبا يوسف الشاروني قصصيًا, ازدهر نقديًا, فأصدر دراسات بدلاً من القصص.

وهذا ينقلنا إلى جانب جديد من شخصية وأعمال يوسف الشاروني. فالدراسات تقوم على التحليل والتنظير العقلاني, بينما يقوم إبداع القصة على الاستبصار والرؤيوية اللاعقلانية والحدسية.

لذا, فمن الواضح أن مراحل الانقلابات المجتمعية دفعت يوسف الشاروني إلى التوجه نحو التحليل والتنظير العقلاني, وهذا يؤكد استواء شخصيته وعقلانيته واعتداليته الشديدة, وخلوه من الانفعالية غير السوية التي تسم أغلب الروائيين.

مفترق الطرق

مسيرة القاص تقوده إلى مفترق طرق: فإما إلى الرواية والمسرح والسينما, مثل حالة يوسف إدريس, وهذا يقتضي ذهنية سياسية وثورية وشخصية انفعالية ترفض الوسطية والاعتدال; وإما تقوده نحو الدراسات والترجمة والالتزام بالقصة القصيرة, مثل حالة يوسف الشاروني, وهذا يقتضي أن يتمتع القاص بسكينة ذهنية وقدر كبير من الثبات الانفعالي والاعتدال وعزوف عن السياسة.

ويؤكد ما نذهب إليه هنا المسيرة الإبداعية لقاصين وروائيين آخرين من جيلهما نفسه, مثل الفلسطيني (إميل حبيبي) والجزائري (الطاهر وطار), اللذين تحولا إلى الرواية عقب القصة القصيرة, وكلاهما معروف بنشاطه السياسي وذهنيته الثورية. فالأمر إذًا أن تحول القاص إلى الرواية يقضي قدرًا من التوتر الشديد في الذهنية النفسية, وهو ما يدل في أغلب الأحيان على وجود مقاومة عنيفة للواقع الذي يحيا فيه المبدع الروائي.

أما القاص الذي يتحول إلى النقد ويستمر في كتابة القصة, كحالة يوسف الشاروني, فهو في أغلب الأحيان صاحب توازن نفسي واستقرار يقيه شر التمرد والثورية الجذرية, بالمعنى الذي شرحه (ألبير كامو) في كتابه العمدة (الإنسان المتمرّد), حين يصل التمرد إلى أقصاه, فيخرج صاحبه من دائرة السواء إلى دائرة المغالاة.

القصة أقرب إلى لمحة عابرة في مرآة الوعي, بينما الرواية أقرب إلى إمعان النظر والتحديق في تفاصيل الشخصية ومكوناتها.

القصة صرخة مثقف, أما الرواية فميدان معركة, والقصة رأي, أما الرواية فجلسة نقاش, والقصة سيارة صغيرة, أما الرواية فحافلة عامة فسيحة, القصة وطن محدود, أما الرواية فعالم متسع.

تتطلب كتابة الرواية زمنًا طويلاً ومعاناة شاقة قد تتوغل إلى نفس صاحبها, فتخترقها وتدفعه إلى الهاوية, على غرار (سكوت فيتزجيرالد), الذي ورد في أسباب انتحاره تحيره في إنهاء قصته الأخيرة.

وهكذا ينتمي القاص إلى بيئته المحلية بتقاليدها وأعرافها وظروفها. أما الروائي فهو ينتمي إلى المجال الأوسع للإنسانية والكونية التي تسعى دومًا لاختراق إطارها المحلي والإقليمي.

لذا, فالروايات تقرأ عبر العالم العابر للإطار القومي, أكثر مما تقرأ القصص القصيرة, أما داخل الأقطار والأقاليم القومية, فتنتشر القصص القصيرة أكثر من الروايات.

إن جل ما يريده القاص هو الإصلاح, بينما يريدها الروائي ثورة دائمة. فالقاص أكثر وسطية واعتدالاً وارتباطًا بظروف مجتمعه من الروائي, الذي ينفعل بدراما الشرط الإنساني والوجودي ككل.

الخيار الأول المعتدل هو ما يتبناه يوسف الشاروني, عندما يصر على القصة القصيرة ويرفض الرواية. هذا ما قرأناه في التصريح البسيط الذي يكثر يوسف الشاروني من التأكيد عليه في حواراته.

خدريني بنغمة تقتل اليأس وتهمي بالمسكرات عليا
حسنا تفعلين, غني, أعيدي اخفضي الصوت تمتميه إليّا
اتركيني على ذراعك أغفو وأذيبي الأصداء شيًّا فشيا


(عمر أبو ريشه)

 

أمير الغندور 





الشاروني قاصا .. وناقدا ومجددا





أحدث كتاب أصدره الأديب يوسف الشاروني