شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

اليهودي التائه

كثيرون أولئك الذين يقولون إن اليهودي التائه بطل أسطورة من الأساطير.. ولكن المؤرخين والكتّاب أجمعوا على أن قصته ليست خيالاً قط.. بل هي حقيقة واقعة.. وإن اختلفوا في مدى حياته وعذابه وتشرّده والأيام والأعوام والأجيال التي عاشها.. وهل قضت عليه الأقدار حقاً بالحياة الدائمة المتجددة يقضيها شريداً ضالاً بين مشارق الأرض ومغاربها رمزاً للعنة الأبدية. وسواء كانت الأولى أم الثانية فسنأتي بذكره وتاريخ حياته كما ذكر المؤرخون وكما وجد في السجلات الرسمية لبلدان كثيرة أثبتت أنه ظهر فيها بعض الوقت في أجيال وصور متباينات..!

قالوا إن جبل الزيتون المطل على القدس كان يموج بزرافات من القوم كلهم يحيطون برجل ترتفع فوقه هالة من النور. وكان الضجيج والصخب والصرخات تملأ المكان وتتحرّك مع حركة ذلك الموج الزاخر المنطلق في طريقه إلى أورشليم. وبلغ القوم قاعة المحاكمة حيث أرادوا أن ينتهوا من الأمر الذي بيتوا النيّة عليه سريعاً.

وفي داخل القاعة نصبوا قضاتهم.. قضاة رتبوا من قبل ذلك الحكم الذي سيصدرونه. ولم يكن ثمة من دفاع.. فقد كان كل ما يريدونه أن يصلبوا السيد المسيح لينتهوا من أمره.

ومضت ساعة. وانتهت القصة التي أرادوها وحاكوا خيوطها. واجتمع اليهود الذين ملأوا القاعة وراحوا يجرّون السيد من قاعة المحاكمة ليسوقوه إلى حيث يتمون نهاية القصة. وبينما هم يمروّن به من باب القاعة تعثّر على عتبتها حيث وقف (كارتا فيلوس) اليهودي حارس الباب. وبكل وقاحة انحنى كارتا فيلوس فدفع السيد ولكمه على ظهره بقبضة يده وهتف ساخراً:

ـ اسرع.. لماذا تتمهّل?!
والتفت السيّد المسيح ونظر إليه نظرة قاسية وقال في هدوء:
ـ سأذهب سريعاً.. أما أنت فستبقى..!
ومنذ تلك اللحظة انصبّت اللعنة على كارتافيلوس.. فقد ارتفع المسيح سريعاً.. أما هو فبقي طويلاً.. وطويلاً جداً.. ليكون رمزاً للإثم الأكبر الذي ارتكبه اليهود في ذلك اليوم وما تلاه من أيام.

دورة لا نهائية
راحت السنون تمر, وكارتا فيلوس في دورته اللانهائية فوق الأرض. وكلما بلغ المائة.. انتابه هزال فظيع ينتهي بغيبوبة طويلة يعود بعدها شاباً كما كان تماماً وقت أن انصبت عليه اللعنة.. وهكذا دواليك.

ويظل كارتا فيلوس يسير.وفي خلال اختفائه وظهوره يتبدل اسمه ويتباين.. فهو مرّة يوسف وأخرى ناشورش.. ولكنه في كل هذه المرّات لا تتباين طبيعته أبداً. فهو شديد التحفظ دائماً, قليل الكلام, نادر الحديث, قلما يبدي استياء أو يوجه إلى أي فرد من الناس لوماً.. ولعله يعيش في ذلك على أمل واحد.. هو أن رحمة الله وسعت كل من في الأرض.. وربما غفر الله له هو الآخر ذنبه الكبير.

وتمر القرون ولا يزال اليهودي التائه شارداً في أنحاء الأرض, وتروح قصته تتناقل عبر هذه القرون كلما اكتشف أمره في بلد من البلدان. وكلما نسي القوم أمره ظهر من جديد ليذكّر الناس بقصة اللعنة الكبرى.. ومن ذلك يتحدث (بول دنزن) العالم الديني وأسقف مدينة شلزفنج الألمانية عام 1564 فيقول: إنه ذهب في شتاء 1542 ليزور والديه في هامبورج. وفي يوم الأحد ذهب إلى الكنيسة. وهناك ـ وفي أثناء إلقاء الموعظة ـ شاهد أمام منبر الواعظ رجلاً مديد القامة عاري القدمين تتدلى خصلاته الطويلة على كتفيه..يقف في شيء من الذهول وهو يستمع إلى الموعظة ساكناً مهتماً. وعندما ذكر الواعظ اسم السيد المسيح نكّس الرجل رأسه وخبط صدره بيده وثقل تنفسّه.

ولم يكن الرجل يرتدي إلا ثوباً واحداً برغم البرد القارس الشديد.. ومن فوقه عباءة ممزّقة تتدلى حتى قدميه. وآثار ذلك المنظر رجل الدين فانطلق إليه يسأله.. وراح الرجل يقص عليه قصته.. فإذا هو ذلك اليهودي الذي لعنه المسيح يوم محاكمته يتنقل بين دول العالم المختلفة.. ثم بقي حياً منذ ذلك التاريخ..

تاريخ الشرق
في مدينة بول ديزن التقى اليهودي التائه بعميد مدرسة هامبورج وهو رجل يعرف تاريخ الشرق معرفة واسعة.. وراح يحدثه عن تاريخ الشرق منذ وقت المسيح حتى أدهشه بدقة المعلومات وشمولها وعمقها ومطابقتها للتاريخ كل المطابقة.

وتمر سنون وسنون, ومرة أخرى يظهر اليهودي التائه في ستراسبورج فتقبض عليه السلطات بتهمة التشرد. ولكنه عندما يستجوب عن حقيقة حاله يحكي قصته ويقول إنه سبق أن مر بستراسبورج قبل ذلك بمائتي عام. وترجع السلطات إلى سجلات المدينة فيعرفون أنه لم يكن كاذباً.. فيطلقونه ليستأنف المسير من جديد..!

وتمر أعوام ثلاثون, ثم يظهر اليهودي التائه عام 1604 في بوفيه بفرنسا, ويشهده الناس بجوار قصر أسقف تلك المدينة. وهناك يحيط به الصبية والغلمان ولا يأبه له أحد.. فكلهم يشككون في أمره ويقولون إنه مجنون.. ولا شيء أكثر.

ويروح التائه الملعون ينتقل بين المدن والبلدان.. وفي كل انتقال تصحبه أعاصير وعواصف ورعود حتى يبلغ غابة سوان بألمانيا عام 1640. وهناك تذيع قصته ويعرف خبر وصوله. ويندفع الناس يبحثون عنه فيجدونه نائماً مستلقياً بجوار جدار الكاتدرائية. وحينما يصحو يستدعيه الكاردينال فيسأله عن قصته.. ولكنه يحكي له عن حلم رآه وهو نائم.. حيث اقترب منه شخص أشعث أغبر طويل القامة عملاق يحيط نفسه بعباءة طويلة تخفي أغلب وجهه ولا يبدو من تحتها سوى عينين تشعّان ببريق ناري غريب.. وقال له العملاق:

ـ انهض على قدميك.. فلن تسقط بعد اليوم ما دمت معي.
قال له اليهودي التائه:
ـ معك? ومن تكون?
قال العملاق:
ـ منقذك..اخترتك من دون الناس..فأنت مثلي تائه في الأرض. وأنا إبليس التائه بين الأرض والسماء.. تلاحقني اللعنة في كل مكان.. وقد وجدتك يائساً .. يعميك الحقد ويملؤك اليأس.
صرخ اليهودي التائه:
ـ إذن أنت الذي وسوست لي. كان المسيح يمر ببابي يدفعه جند الرومان وتلاحقه اللعنات ويضنيه جهد المسير وهو يرزح تحت عبء الصليب.. وسألني أن أدعه يستريح على حجري.. ولكنك همست في أذني.. ادفعه عنك.. اصرخ فيه. أنا لا أجد رحمة من أحد.. ولن أهب الرحمة لأحد.. امض في طريقك.. سِرْ.. وفي أذني صوته لا يزال يدوي.. الحق الحق أنا اقول لك.. ستسير على قدميك.. وتهيم على وجهك إلى يوم البعث.. هكذا يريد الرب الذي في السماء.. فهلا طلبت لي الرحمة والعفــو يا سيدي الكاردينال?

ولم يستطع رجل الدين أن يقول له شيئاً فتلك إرادة السماء.
ويواصل اليهودي التائه مسيره. وفي يوم 22أبريل عام 1772 يدخل مدينة بروكسل حيث يلح عليه الناس في البقاء. ولكنه يرفض ويستأنف سيره حتى يختفي بين الجبال المحيطة بالمدينة. وكانت تلك آخر ليلة يراه فيها الناس.

ومع مرور قرون أخرى لا يدري أحد هل استقر في مكان ما... أم نزلت به الرحمة التي كان يتمنّاها.. وهل لا يزال يتنقّل بين المدن والبلدان في هيئته المزرية يرفع يديه بين الحين والحين نحو السماء ضارعاً في انتظار العفو والغفران من ربّ السماوات?!.

 

سليمان مظهر

 
 




اليهودي التائه ينطلق نحو الشمس الغاربة