جمال العربية
جمال العربية
(قلْب الشاعر) بين قلمين: المنفلوطي وعلي محمود طه شغلت شخصية (الشاعر) - في إيثارها للحرية والترفّع والكبرياء, وتمرّدها على من يتصور أنه قد امتلك الشاعر بسلطانه وجبروته, أو بمنحه وعطاياه أو بإسباغ حمايته ورعايته عليه - شغلت هذه الشخصية العديد من الكتّاب والشعراء والمبدعين, يحاولون اصطياد لحظة التمرّد, ومحاولة الانطلاق من أغلال ما يراه رقّاً وعبودية وخضوعاً, والحرص على أن يعيش حراً طليقاً يناضل من يشاء ويجادل من يشاء وينتقد من يشاء. وفي تراثنا الشعري العربي - قديمه وحديثه - صيحات تمرّد كثيرة, ووقفات طويلة مع النفس يقفها الشاعر في مواجهة الضرورة التي سلبته حريته, والحاجة التي اضطرته لكبت مشاعره ورأيه الحقيقي, والملاينة أو الملاءمة التي جعلته يبدي غير ما يكتم, وينطق بغير ما يؤمن ويعتقد, وهو ما صوّره الشاعر القديم في بيته المأثور: وفي مثل قول الآخر: وربما كان البارودي أشدّ وضوحاً في تأكيده لهذا الموقف المتكئ على احترام الشاعر لذاته, ويقينه بأن الشعر زين له, ومحسوب عليه كما ينسب السهم إلى راميه, فالشعر - في رأيه - حكمة أو عظة أو موقف فخر واعتزاز, عندما يقول: وقد أتيح للكاتب والشاعر مصطفى لطفي المنفلوطي (كثيرون لا يعرفون أن له ديواناً شعرياً يكشف عن موهبة شعرية حقيقية ولغة شعرية رصينة) أتيح له في بعض ترجماته عن الأدب الفرنسي, خاصة في مسرحية (الشاعر) أن يطلق من أعماقه صرخة حارّة, تصوّر نفس الشاعر على حقيقتها العارية, البعيدة عن كل زيف أو ادّعاء, كما تصوّر قلب الشاعر - الذي هو مرآة لصور الكائنات - صغيرها وكبيرها, دقيقها وجليلها, باعتباره الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه. قدرة الكاتب وعبقرية اللغة (أتريد أن أعتمد في حياتي على غيري, وأن أضع زمام نفسي في يد عظيم من العظماء, أو نبيل من النبلاء, يصطنعني ويجتبيني (أي يختارني) ويكفيني مئونة عيشي, ويحمل عني هموم الحياة وأثقالها, فيكون مثلي مثل شجرة اللبلاب لا عمل لها في حياتها سوى أن تلتفّ بأحد الجذوع تلعق قشرته, وتمتص مادة حياته, بدلاً من أن تعتمد في حياتها على نفسها, وذلك مالا يكون? تريد أن أحمل نفسي على عاتقي, كما يحمل الدلال سلعته, وأدور بها في الأسواق منادياً عليها: مَن منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء وأصحاب الجاه والسلطان, يبتاع نفسه بذمتها وضميرها وعواطفها ومشاعرها بلقمة عيش وجرعة ماء? أتريد أن تستحيل قامتي إلى قوس من كثرة الانحناء, وأن تتهدّل أجفاني من كثرة الإطباق والإغضاء, وأن تجتمع فوق ركبتيّ طبقة سميكة من كثرة السجود والجثو بين أيدي العظماء?! أتريد أن يكون لي لسانان: لسان كاذب أمدح به ذلك الذي صنعني واجتباني, ولسان أعدّد به عيوبه وسيئاته, وأن يكون لي وجهان: وجه راض عنه لأنه يذود عني ويحميني, ووجه ساخط عليه, لأنه يستعبدني ويسترقني?! ذلك مالا يكون! أريد أن أعيش حرّاً طليقاً, أناضل مَن أشاء, وأجادل من أشاء, وأنتقد مَن أشاء, وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم لا متملقا أولئك, ولا خاشياً هؤلاء). ثم يقول مصطفى لطفي المنفلوطي في ترجمته الأدبية البديعة التي تكشف عن عبقرية اللغة العربية وقدرة الكاتب المتمكن من أسرارها على أن ينقل تجليّات الإبداع في النص الأصلي الذي كتبه الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي إدمون روستان (1868-1918) وجسّد فيه معاناة الشاعر وحلمه الدائم بالحرية والكرامة في مسرحيته (الشاعر): (إنما يشقى في هذا العالم أحد ثلاثة: حاسد يتألم لمنظر النعم التي يسبغها الله على عباده, ونعم الله لا تنفد ولا تفنى, وطمّاع لا يستريح إلى غاية من الغايات حتى تنبعث نفسه وراء غاية غيرها, فلا تفنى مطامعه, ولا تنتهي متاعبه. ومقترف جريمة من جرائم العرض والشرف لا يفارقه خيالها حيثما حلّ وأينما سار. وما أنت يا سيدي بواحد من هؤلاء. فمن أيّ باب من الأبواب يتسرّب الشقاء إلى قلبك? أنت شاعر يا مولاي, وقلب الشاعر مرآة تتراءى فيها صور الكائنات صغيرها وكبيرها, دقيقها وجليلها, فإن أعوزتك السعادة ففتش عنها في أعماق قلبك, فقلبك الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه. السماء جميلة, والشاعر هو الذي يستطيع أن يدرك سرّ جمالها, ويخترق بنظراته أديمها الأزرق الصافي, فيرى في ذلك العالم العلويّ النائي مالا تراه عين ولا يمتدّ إليه نظر. والبحر عظيم, والشاعر هو الذي يشعر بعظمته وجلاله, ويرى في صفحته الرجراجة المترجّحة صور الأمم التي طواها والمدن التي محاها, والدول التي أبادها وهو باقٍ على صورته لا يتغير ولا يتبدل, ولا يبلى على العصور والأيام. والليل موحش, والشاعر هو الذي يسمع في سكونه وهدوئه أنين الباكين وزفرات المتألمين, وأصوات الدعاء المتصاعدة إلى آفاق السماء, ويرى صور الأحلام الطائفة بمضاجع النائمين, وخيالات السعادة أو الشقاء الهائمة في رءوس المجدودين والمحدودين (أي المحظوظين الموفقين والذين حرموا الحظ والتوفيق). الشاعر يرى الجمال في كل شيء يتناول سمعه وبصره, حتى في الزهرة الذابلة والنبتة الحائلة, والنحلة الطائرة والفراشة الحائمة, وفي مدارج النمّال, وأفاحيص القطا (أفاحيص جمع أفحوص وهو المكان الذي تزيح القطا التراب عنه لتبيض فيه, والقطا جمع قطاة وهي طائر يشبه الحمام) والنوى المتهدم والجدث البالي والشبح المخيف, والخيال الرائع, وفي الضفدعة الملقاة على شاطئ البحر, والدودة الممتدة في باطن الصخر, فهو من خياله الواسع في نعمة دائمة لا تنفد ولا تبلى. أنت كالطائر السجين في قفصه, فمزّق عن نفسك هذا السجن الذي يحيط بك, وطرْ بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح, وتنقل ما شئت في جنباته وأكنانه, واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله, ورءوس أشجاره, وضفاف أنهاره, فأنت لم تُخلق للسجن والقيد, بل للهتاف والتغريد). الساخر والمرح يقول علي محمود طه: لا تفزعي يا أرض, لا تَفْرقي وتتصاعد الشكوى, شكوى الشاعر من أغلال بؤسه وشقائه وحرمانه, وتعلو نبرة تمرّده وأغلال آدميته تحدّه وتقيّده وتسجن روحه, وهو يقول: لا تعْدني يا ربُّ في محنتي ويضع علي محمود يده على سبب العلّة ومكمن الداء حين يقول: يا ربّ ما أشقيْتني في الوجود لعل الجوار بين النصّين, نثراً وشعراً, روحاً وتعبيراً يكشف عن قدر المشترك بينهما وهو نداء الحريّة, والتململ من الأسر والقيود, وعن الخاص في كل منهما, بين روحين من الشرق والغرب, وإن كان الهمّ الإنساني واحداً, وعذابات القلب الإنساني مشتركة, فإن تجليّاتها في دائرة الإبداع تعطي لكل منها خصوصيتها وتمايزها, وقبل هذا وذاك تبقى عبقرية العربية في إبداعها, شاهداً على جمال متجدد, لا تنطفئ أنواره, ولا تنفد أسراره.
|