عولمة الاقتصاد

 عولمة الاقتصاد

يسير العالم بخطى حثيثة نحو العولمة كأنما يرى فيها الحل الناصع لمشكلاته المعقدة والمزمنة.

تشكل الاتجاهات نحو العولمة, عولمة الاقتصاد والاعلام والاتصالات, وحتى الثقافة ومختلف جوانب الحياة, السمة الرئيسية للتطور على مشارف القرن الحادي والعشرين.

وهذه الظاهرة هي وليدة التطورات التي شهدها الاقتصاد العالمي وكذلك التبدلات الجذرية في النظام العالمي خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين, وقد ساهمت ثورة العلم والتكنولوجيا والتطور الهائل في منظومات الاتصالات والخدمات الإعلامية في تكريس العولمة أمرا واقعاً اقتصادياً وسياسياً, وأيديولوجياً, فالمشكلات التي تعانيها الدول الصناعية الكبرى بعد دخول العصر ما بعد الصناعي في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات, وانتقال آثار هذه المشكلات إلى دول العالم الأخرى, قادت إلى ترويج مقولة العلاج الكوني الشمولي لهذه المشكلات, وهي ترافقت بدورها مع ظهور أنماط جديدة من الشراكة الدولية في أواخر القرن العشرين.

فما هي هذه العولمة? وماذا تعني?

يقول المفكر سمير أمين في هذا الصدد إن الاقتصاد العالمي كان في الواقع مجموعة من الاقتصادات الوطنية المتمحورة على ذاتها, أي اقتصاد (دولي) قائم على علاقات بين دول مستقلة نسبياً, ولو أن هذه العلاقات كانت علاقات تبعية متبادلة غير متكافئة, وعلاقات تنافس حاد, ثم جاءت العولمة لتنطلق عبر تفكيك هذه البنى المتمحورة على ذاتها في قلب النظام العالمي لتستبدل بها اقتصاد عالميا فعلاً.

فالعولمة هي الحركة النشطة والحرة والمتسارعة للمبادلات العالمية, المالية والتجارية, هي إلغاء الحدود والحواجز التشريعية والجمركية وخلافها أمام حركة تنقل السلع ورءوس الأموال, ويمثل تطور الإنترنت, بما في ذلك التجارة عبر (الشبكة العالمية) ظاهرة جديدة من ظواهر عولمة الاقتصاد.

الشركات متعدية الجنسية - محرّك العولمة

إن الشركات متعدية الجنسية أو العابرة للقوميات هي الأداة الرئيسية للعولمة, فبواسطتها تتم عملية تدويل, أو الأصح عولمة رءوس الأموال والإنتاج والتصريف ومجمل العمليات المالية والتجارية, وانتقال المعلومات وشبكة الإعلام وغير ذلك.

ويسيطر عدد محدود من هذه الشركات العملاقة على المفاصل الرئيسية للاقتصاد العالمي.

فمن جهة, تعمد شركة معينة إلى التخصص في إنتاج سلعة معينة مروراً بكل مراحل إنتاجها, دون أن يعني ذلك تموضعها في بلد واحد, فشركة (بيشنيه), مثلاً, تستخرج البوكسيت من أستراليا وتحوّله لألومين في الولايات المتحدة, وتنتج الألمنيوم في الغابون باستخدام الألومين المنتج بواسطة فروعها في غينيا, كل هذا يعني الانتقال من استراتيجية الإنتاج الوطني إلى استراتيجية الإنتاج العالمي بعدم تمركز أو حصر الإنتاج محلياً, ويتحقق تكامل وحدات الإنتاج بتأمين الحرية الجغرافية لانتقالها, ولكنها تبقى تابعة للمراكز الأساسية للقرار, فتساهم هذه العملية في التقارب بين أمم صناعية قديمة وأخرى حديثة, لأن التباعد ينتج اضطرابات في أغلب الاقتصادات.

هذا ما أطلق عليه سمير أمين وصف: (عملية الاختراق المتبادل في الاقتصادات الرأسمالية المتطورة, بالدرجة الأولى, وتوسع المبادلات شمال جنوب, بالدرجة الثانية). من جهة أخرى, فإن من أهم سمات الشركات متعدية الجنسية تعدد الأنشطة التي تشتغل فيها دون أدنى رابطة بين المنتجات المختلفة, فشركة التليفون والتلغراف الدولية تملك, مثلاً, شركة فنادق شيراتون, وشركة (تايم وارنر) تشتغل بعدد كبير من شركات النشر والإعلام والملاهي: من ستوديوهات هوليوود إلى شبكة (CNN) وصولا إلى التلفزيون بالكابل, وبصفة عامة تعمد هذه الشركات إلى تنوّع شديد في النشاط سعياً لتعويض الخسائر المحتملة في نشاط معين بأرباح تتحقق من أنشطة أخرى, دون اعتبار للتموضع الجغرافي لهذا النشاط, ولا غرابة بعد ذلك في أن تكون الشركات متعدية الجنسية وراء ظاهرة العولمة, فمن يقتحم الأسواق العالمية لا يريد أن تعوقه حدود اقتصادية حتى مع بقاء الحدود السياسية.

وتشكل ظاهرة اندماج الشركات والمصارف واحدة من أبرز سمات عولمة الاقتصاد, ويأخذ الاندماج في حالات عدة شكل ابتلاع وتملك للشركات والمصارف الأضعف نسبياً, وهذه الظاهرة, ظاهرة الاندماج والابتلاع هي التعبير العملي لتركز رأس المال والإنتاج في ظروف الرأسمالية المعاصرة, ففي السنوات الأخيرة جرى تعزيز القدرة التنافسية للصناعة في أوربا والولايات المتحدة وحتى في بعض البلدان النامية بفضل هذه الظاهرة.

وقد شهد القطاع المصرفي والصناعة في الولايات المتحدة خلال السنوات العشر - الاثنتي عشرة الأخيرة سلسلة كاملة من حالات الاندماج والابتلاع, ضاعفت إلى حد كبير قوة المواقع التنافسية للكبار في عالم الأعـمال الأمريكـي, أبـرزها (بوينـغ) و (ماكدونال - دوغلاس) وكذلك (لوكهيد) و (مارنين - مارييتا) في صناعة الطائرات, و (تشيز مانهاتن) و (كيميكال بنك) في القطاع المصرفي وغيرها.وبعدما انطلقت من الولايات المتحدة اجتاحت هذه الظاهرة البلدان الصناعية الأخرى, فهناك قرابة 0052 عملية اندماج وابتلاع تمت عبر الحدود خلال الفصل الأول من عام 9991, قدرت قيمتها بـ 114 مليار دولار, وكانت مصارف وشركات ألمانيا رائدة في هذا المجال في أوربا الغربية, وعلى رأسها العملاق الألماني - الأمريكي (دايملر - كرايزلر) (مع غلبة ألمانية), وهي شركة صناعية متشعبة في مجال صناعة السيارات, وكذلك في ميدان صناعة الطيران والفضاء عبر فرعها (دويتشي إيروسبيس).

وتجرى مفاوضات نشطة لإنشاء شركة سوبر عملاقة في صناعة الطيران والفضاء تفوق بقدراتها المنافسين الأمريكيين من أمثال (لوكهيد - مارتين) و (بوينغ - ماكدونال - دوغلاس), وفي شهر أغسطس الماضي أعلنت الشركة الكندية (ألكان) والفرنسية (بيتشيناي) والسويسرية (الوسويس) عن رغبتها في إنشاء أكبر مجموعة للألمنيوم والتوضيب في العالم, من شأنها تخطي شركة (الكوا) الأمريكية, وفي الشهر نفسه ردت (الكوا) بتقديم عرض لشراء شركة (رينولدز) الأمريكية, فتم لها ذلك وعادت لتحتل المرتبة الأولى, ويجري تسابق مشابه في قطاع صناعة السيارات.

أما في القطاع المصرفي, فالتسابق إلى الابتلاع والاندماج على أشدّه, ففي 91 أغسطس الماضي أعلنت ثلاثة مصارف يابانية, هي مصرف (أنداسترييل بنك أوف جابان) ومصرف (داي - إيتشي كانغيو بنك) ومصرف (فوجي بنك) عن تشكيل شركة قابضة عملاقة ابتداء من خريف عام 0002, مما سيؤدي إلى ولادة أكبر مجموعة مصرفية في العالم برأسمال قدره 241 مليار دولار, أما مشروع الدمج المصرفي الفرنسي ((بنك ناسيونال دي باري) و (سوسيتيه جنرال) - (باريبا)), فسيؤدي في حال نجاحه إلى ظهور المجموعة المصرفية الثالثة في العالم برأسمال قدره 759 مليار أورو.

وعلى الصعيد النفطي, تخوض شركتا (ألف) و (توتال فينا) حرباً شرسة لمعرفة مَن سيفترس الآخر, والأمثلة كثيرة في مختـلف القطاعات الإنتاجية والمالية, فقـد ابتلعت شركة فولكس فاكن شركات أودي وسيات وسكودا, واشـترت (ب أم دبليو) شركة روفر التي هي أكبر منتج للسيارات في بريطانيا, واستولت فورد على شركة مازدا رابع أكبر منتج في اليابان.وأخيراً, اشـترت شركة (رولز رويس) البريطانيـة مواطنتـها (فيكرز), وكـل يوم يحمـل نبأ جديداً عن حالة اندماج أو صهر أو ابتلاع.

هذه الظاهرة التي يسمّيها البعض (التكامل المعولم), والبعض الآخر (وليمة المفترسين), تؤدي من جهة إلى تخفيض تكاليف الإنتاج ومضاعفة الأرباح وتعزيز القدرة التنافسية للشركات العملاقة, ولكنها تفضي من جهة أخرى إلى تدمير فرص العمل والإلغاء المنهجي لليد العاملة, وإلى تفاقم اللامساواة الاجتماعية في نهاية المطاف, كما تؤدي هذه الظاهرة إلى إضعاف السيادة الوطنية للدول, إذ تتقلص قدرات حكومات البلدان على ممارسة الرقابة, وتقضي بصورة شبه كاملة على قوة النقابات وإمكانات تأثيرها, وينتقل القرار بشأن تقرير مصير المؤسسة والعاملين فيها إلى أيدي أصحاب الأسهم, وتحديداً الكبار منهم.

خلاصة

بما أن العولمة تعني عالمية السوق إنتاجاً واستهلاكاً على حد سواء, فإنها تتعارض بالدرجة الأولى مع مفهوم الاقتصاد الوطني, فالشركات متعدية الجنسية تسعى وراء الربحية أولاً وأخيراً, ولا تعنيها مصلحة اقتصاد البلد الذي تعمل فيه ومتطلبات نموّه, إذ إن تموضع الإنتاج لا يعرف وطناً أو انتماء, فهذه الشركات تعمل وفق مبدأ المنافسة, أي أنها تسعى للحصول على إنتاج جيد, بجودة عالية, وسعر أقل, ويد عاملة أرخـص, واستثـمارات أقل كلفة, وإذا وجدت هذه الشـركات أن مـصالحها لم تعد في هذا المكـان من الـعالم, بل في مكان آخر, فإنها تنقل استثماراتها إلى المكان الأكثر ربحية.

وتتعارض العولمة أيضاً مع مبدأ السيادة الوطنية للدول, فالاقتصاد بات يضيق أكثر فأكثر بالحدود القومية, ويتهمّش دور الحكومات في إدارة الاقتصاد الوطني والتحكّم بآلياته, وصولاً إلى تعطيل دورها في مراقبة حركة رءوس الأموال أو التأثير فيها أو في أوضاع السوق وحركة السلع.. وغير ذلك, وأصبحت الدولة أيضاً عاجزة عن مواجهة تقلبات الدورة الاقتصادية في ضوء انفتاح الاقتصاد الوطني على السوق العالمية.

وأخيراً, تؤثر العولمة, خصوصاً من خلال الإعلام ووسائل الاتصالات الحديثة المتطورة بسرعة قياسية, تؤثر سلباً على المجتمعات الوطنية وعلى تماسكها وتقاليدها, فهي تنتهك خصوصيات هذه المجتمعات, وتقتحم خلاياها الأسرية من خلال أجهزة البث الفضائي وشركات الإعلام العالمية وشبكة الإنترنت, ناشرة قيماً وأنماط حياة وسلوكاً غريبة عن هذه المجتمعات, وكلها وسائل يصعب مراقبتها والحد من تدخّلها.

 

محمد دياب