عندما يكون التحول الثقافي هو طوق النجاة

 عندما يكون التحول الثقافي هو طوق النجاة

لقد أصبحت الثقافة جزءا أساسيا من منظومة العلم والتكنولوجيا فأين نحن كعرب من الثقافة العلمية؟

لا يختلف اثنان على حقيقة المحنة التي يعيشها العرب في النظام العالمي, ولكن هناك خلافاً عميقاً على تشخيص طبيعة هذه المحنة وأسبابها وبداياتها وجذورها التاريخية وأبعادها البنائية. ويمتد هذا الخلاف إلى بيان مناهج تجاوز المحنة والخلاص من مظاهرها ونتائجها المأسوية, وتعكس تلك الخلافات تضارباً أعمق لرؤى الأزمات ودلالات ومعاني التحرر ومضمونه.

فثمة قطاع كبير من الفكر العربي بتجليّاته الراهنة يكتفي بعزو تلك المحنة للاقتحام الغربي العنيف للمجتمعات العربية, وما تبعه من سيطرة على مقدرات العالم العربي بأشكال وآليات تتجدد بين مرحلة وأخرى من التاريخ الحديث.

ويتعامل البعض مع هذا الموقف باعتباره قدراً تعساً, بينما زوّدت نظرية التبعية عدداً من تيارات الفكر العربي بزاد منهجي وفكري لا ينفد لشرح الكيفية التي تمكن النظام الرأسمالي والإمبريالي الدولي من استغلال وإفقار العالم العربي وتحويله إلى كيان تابع, ويؤكد منظرو التبعية أن الانكسار الضاري والسياسي للعرب بدأ مع تأسيس النظام الرأسمالي العالمي منذ القرن التاسع عشر, حيث فقد العرب مكانتهم المركزية في العالم القديم مع تحوّل طرق التجارة وحركة الكشوف الجغرافية, وأخذ موقع العرب في النظام العالمي يتدهور, وذلك مع تجدد تبعيته وتعدد آلياتها بين تجارية ورأسمالية وتكنولوجية واستهلاكية.. وغير ذلك.

والواقع أن هذا التحليل قد طغى على الفكر العربي إلى درجة أننا لا نجد كتاباً أو بحثاً مكتوباً باللغة العربية حول الشأن العربي يخلو من إدانة للنظام العالمي أو الفاعلين الكبار فيه, والغالبية الساحقة من الأدبيات العربية الأكاديمية والصحفية تركز على النتائج السلبية للنظام الدولي, وما تنطوي عليه التطورات العالمية كافة من مخاطر, وما تبطنه من آثار مدمّرة, وما يدبّره الأقوياء المسيطرون ضدنا من مؤامرات هي سبب مصائبنا كلها.

والواقع أن هذا التحليل ينطوي على رؤية تشاؤمية تجعل عملية التطور التاريخي العالمي ذات حصيلة صفرية, حيث النمو والازدهار في منطقة جغرافية أو اقتصادية أو ثقافية ما خسارة صافية, وانكماشاً مؤكداً لمنطقة أو مناطق أخرى من العالم, ومن ثم يصبح كل مسعى أو اتجاه لتوحيد العالم أو لإزالة الحواجز التي تحد من تفاعلاته ومبادلاته أمراً جديراً بالرفض والمقاومة, ولذلك تكتسب كلمة العولمة معاني سيئة, وتنطوي على إنذارات بالضياع والتفتت والتهديد, بل وعلى مصائب وكوارث تقتلع وجودنا العربي ذاته.

ومن الطريف أن تلك الأفكار قد تأسست في الغرب, وتأسست بصورة قوية لفترة طويلة داخل حقل الاقتصاد السياسي, وجاء تصديرها للعالم العربي متأخراً قليلاً, حيث وجدت أرضية صالحة لالتقاطها خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات, وتعزز هذا اللقاء لأن نظرية التبعية لم تتسق مع النزعة الجبرية في التراث الفلسفي العربي فحسب, بل إنها قدمت تبريرات مثالية لنزعة إلقاء المسئولية على الآخرين, وهي نزعة متجذرة في الثقافة والسياسة العربية على السواء.

والواقع أن التحرر من شبح الأزمة الممتدة للعرب, يتطلب قبل كل شيء الخلاص من تلك النزعة, وما تروّجه من أساطير لا عقلانية, إذ لا سبيل للنظر إلى الحرية كفعل إلا من باب المسئولية, واستلام زمام المبادرة, وصنع الاختيار, فإذا نسبنا كل مسئولية عن تخلّفنا وضعفنا, وما نتعرض له من إجحاف وظلم قومي إلى الآخرين, فلن يكون من الممكن أن نحدد لأنفسنا مهام خاصة بنا, وسنظل أسرى منطق دائري يجعلنا نعكف على انتظار الخلاص بالصدفة, وهو أمر يشي بانعدام المسئولية وانعدام العقلانية.

يتطلب التحرر من نزعة إلقاء اللوم على الآخرين تغيراً ثقافياً جوهرياً, يتضمن قبل كل شيء الاعتراف بمسئوليتنا المباشرة عن أوضاعنا الراهنة وعن مصائرنا, ومن ثم عن المعطيات الأساسية لمستقبلنا في الإطار العالمي.

وبوسعنا أن نؤكد على عشرة جوانب مترابطة للتغيّر الثقافي المنشود, والذي يمكننا من القطيعة مع التخلف والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية, والتحرّر من المحنة العربية, وسنتحدث عن كل من هذه الأبعاد العشرة بإيجاز, ثم نناقش كيفية إحداث هذه التغيرات في الواقع العملي.

مبدأ الحرية والاختيار

يُقال إن الثقافة العربية تطورت حول بُعد قيمي وأخلاقي وحيد, وهو قيمة العدالة بالمعنى القانوني للكلمة: أي إعطاء كل ذي حق حقه, ومن المنطقي أن تدور العدالة وجوداً وعدماً بالسلطة من ناحية, والنص الشرعي من ناحية أخرى, ولاشك أن هذه الصياغة تغلق التاريخ وتدفع التكوين الثقافي كله إلى الركود لسبب بسيط, وهو أن العدالة في هذه الحالة ستكون قد تقررت وتحددت نهائياَ.

والواقع أن الثقافة العربية مترعة بالزهو بالحرية, وليس صحيحاً أن الحرية قد أهملت, بمعنى النبذ من الثقافة العربية, فالأصل في التكوين الاجتماعي الثقافي العربي في ظل سيطرة القبلية هو فائض الحرية, فالحرية هي أهم معطى ولا حاجة للتذكير بها, والمشكلة الثقافية تمثّلت في كيفية ضمان التناسق بين اختيارات متضاربة من خلال العدالة, فالعدالة القانونية والشرعية هي المعيار القادر على ضبط الحرية كأصل معطى لا يمكن مصادرته.

ومع ذلك, فإن هذا الإهمال الناشئ عن فائض الحرية في العصور التي سيطرت فيها القبيلة قد أضر بتطور الثقافة العربية في العصور والمجتمعات التي سيطرت فيها الدولة, وخاصة الدولة البيروقراطية الحديثة, وبذلك يصبح من الضروري إعادة الاعتراف الصريح بمركزية قيمة الحرية.

وترتبط الحرية بالمسئولية, لأنها تنفي الحتمية أو الجبرية, وتجعل من الضروري إلقاء الضوء على فعل الاختيارات الممكنة تاريخياً, وصنع الاختيار انطلاقاً من الوعي بالتكلفة والتكاليف, والواقع أن الحرية بهذا المعنى هي أصل كل فعل اجتماعي, ومن ثم أصل كل فلسفة.

ولم يعد الاعتراف بمركزية قيمة الحرية أمراً اختيارياً بحتاً, أو حتى ضرورة فلسفية فحسب, فالدولة لم تعد هي الجسم الوحيد في الفضاء المجتمعي, وتتعلق الآمال الأعظم للتحرر باستنهاض ما نسمّيه المجتمع المدني والأهلي واضطلاعه بجانب عظيم ومتزايد من المسئوليات الجسام للتقدم, وهو ما يحتّم إنهاء الاستبداد السياسي وتكريس معنى الحرية في الثقافة السياسية, وفي التكوين الثقافي للمجتمع بشكل عام.

النسبية.. التنوّع والاعتراف بالآخر

إن ممارسة كل شخص وكل تيار فكري أو سياسي لحريته تنتهي إلى اختيار - أو اختيارات - معينة, ولكل من هذه الاختيارات مزاياها وعيوبها, وهي ليست الاختيارات الوحيدة, فكل حقيقة نسبية, ولكل فكرة تجليّاتها الجزئية, ومن حق المجتمع أن يطلع على كل الاختيارات المتاحة, التي صنعت بحرية, وأن يختار من بينها.

إن جزءاً لا يتجزأ من الإقرار بحرية أي طرف يتمثل في الاعتراف بحق كل طرف آخر في التعبير عن نفسه بحرية: أي الاعتراف بحرية الآخرين, ومن ثم بوجودهم, وفي المجال السياسي, يعد الاعتراف بالآخر - انطلاقاً من الإقرار بنسبية كل فكرة وكل وجود - هو الشرط الرئيسي للديمقراطية, ذلك أن الديمقراطية تنهض على التعددية والتنوّع والتنافس الحر بين الأفكار والبرامج, وحق كل حزب - أو جماعة سياسية منظمة - في تولي السلطة العامة إذا ما تمتعت بثقة أغلبية المجتمع في انتخابات حرّة ودورية ونزيهة.

والواقع أن هذه هي آفة الثقافة العربية - قديماً وحديثاً - حيث فُرض عليها فرضا أن تنهض بحمل مطلقات أو ادّعاءات بامتلاك الحقيقة المطلقة, ونفي الآخر الفكري والسياسي والديني والقومي والطائفي.. وغير ذلك, ومن ثم فإنها تورّطت في الحض على العنف, وذلك على اعتبار أن الحقيقة لا تطيق الزيف, وأنها تتجسّد على حساب اقتلاع الحقائق المنافسة وليس من خلال الصراع السلمي معها.

واستمرار تلك النزعة لإنكار الآخر لا تؤدي لإجهاض الديمقراطية, ومن ثم الحريات العامة فحسب, بل إنها تمثّل نزعة مضادة لكل تطوّر فكري أو علمي ومعرفي لأنها لا تكتفي بمطاردة الخصوم في المجال السياسي, بل إنها تدفع نحو احتكار ساحة المعرفة ذاتها, وهو ما يؤدي إلى الإفقار المعرفي والفراغ السياسي, وقد حدث أن النزعة للمطلقات, وإنكار نسبية كل معرفة, والميل لرفض الآخر قد أدت بالواقع السياسي العربي إلى فراغ قاتل لم يملأه سوى مماليك أو عبيد مستوردين خصيصاً لكي يحكموا عدداً من أهم الأقطار العربية!!

ثقافة العلم أو حسن الاختيار

ويترتب على القول بنسبية كل حقيقة أن أي اختيار يكون صائباً بقدر ما يتفق مع معطيات الواقع, ويحل بعض أهم معضلاته بالنسبة للأمة أو المجتمع في مرحلة تاريخية ما, وبينما يجب أن يكون المجتمع في مجموعه هو صاحب الاختيار لأنه هو الذي يتحمل تبعاته, فإن العلم هو الإنارة اللازمة لحقل الاختيار, حيث يمثل الحصيلة الموثقة للمعارف المتاحة بالواقع, والمنظور الملائم للتعرّف على مزايا ومثالب كل اختيار, هذا إلى جانب كونه الأساس الواعي بنفسه للإنجازات التكنولوجية العصرية, ولفهم العالم المحيط بنا, وكونه مصدراً لا ينضب للمتعة المعرفية بذاتها ولذاتها.

وفي عصرنا, انتشرت الثقافة المواتية للعلم, وصارت جزءاً لا يتجزأ من منظومة العلم والتكنولوجيا, وهو ما نسمّيه الثقافة العلمية, ويعد نشر الثقافة العلمية إحدى أهم مسئوليات نظام التعليم ومنظومة المجتمع العلمي, وهي تعني أموراً كثيرة ليس أقلها متابعة إنجازات ومسيرة البحث العلمي من قبل أعداد كبيرة من أبناء المجتمع, فالثقافة العلمية هي مسعى لتخليص المعرفة العلمية من انغلاقها داخل نخبة متخصصة, وإتاحتها للجمهور الواسع, وتمكينه من خلالها من مواجهة مشكلاته وحلّها, وهو ما يمثل مصدراً ثريّاً للطلب على المعرفة العلمية, وهو طلب لا يتطور العلم العصري دونه.

والواقع أن ثقافتنا العربية ظلت عاطفة على العلم لفترة طويلة, وذلك بتأثير الاحترام والهيبة اللتين أضفاهما الإسلام على العلم والعلماء, ولكنها تزخر الآن بالنتائج المدمّرة لأكثر من سبعة قرون من الجمود والتخلف, وهو ما يتبدى في الرصيد الهائل والمتجدد من الخرافات, ومن أفكار تكدّس التفكير الأسطوري والخرافي.

وقد آن الأوان لإعادة التأكيد على قيمة ودور الثقافة العلمية في ثقافتنا العربية.

ثقافة الدور أو الواجب الحضاري

ونعني بذلك إحياء لواحدة من أهم الأرصدة الثقافية للرسالة الإسلامية, وهي فكرة الإعمار, فالإعمار هو تعبير عن واجب الإنسان في الكون في مقابل وكإشتقاق من حقيقة كون الإنسان خليفة لله على الأرض. والإعمار تعبير شديد الغنى ينصرف إلى ما هو أكثر وأعمق من الإضافة إلى رصيد العمران, إذ يحمل معنى تسديد الأمانة المعرفية والأخلاقية, والقيام بالواجب نحو خير العالم والإنسانية, وتفعيل الوجود الفردي والجماعي من خلال مهمة متصلة لعمل الخير ودحض الشر.

ولكن لماذا نتحدث عن ضرورة إعادة التأكيد على ما له بالفعل حضور قوي في ثقافتنا العربية والإسلامية? قد نرد على ذلك السؤال بالقول بكل بساطة بأننا قد نسينا هذا الركن الجوهري في ثقافتنا, ولكن الأسباب التي تدعونا لإعادة التأكيد مراراً عليه يتجاوز هذا السبب إلى أسباب أخرى كثيرة.

فطوال قرون حلّ القول محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري, واطمأن العرب إلى دورهم في الماضي, فعكفوا على تمجيده, دون الإضافة إليه, ثم إنهم فهموا ما لديهم بصورة بعيدة عن الصواب بالقول بأن لديهم ما هو صالح لكل زمان وكل مكان, دون إدراك للمعنى الصحيح لهذا القول وهو واجب الأمانة, والدور الحضاري ذاته, أي الدافع المستمر للمعرفة والبناء والتصحيح, وتولي مسئولية الإعمار على ضوء من المعرفة العلمية الموثقة.

غير أن هناك جانباً آخر من الصورة, وهو ما أصاب الثقافة العربية من أعطاب بسبب ظاهرة اقتصادات النفط أو الريع بصورة عامة, فثمة عطب حضاري حدث ويتم تكريسه من خلال نظم التنشئة والتربية الفاشلة التي عجزت عن حث أجيالنا الجديدة على التعلم والإضافة والاستزادة من المعرفة والإعمار انطلاقاً من شعور لا يهدأ بالواجب والأمانة, كما أن بث هذا الإحساس, وهذه المعرفة بالواجب هو الرد الصحيح والمناسب على خطأ الاتجاهات المتطرّفة التي أدت بقطاع مهم من شبابنا لتبني العنف والإرهاب على المستويات الوطنية والعالمية.

فالرسالة أو الواجب الحضاري ليس خطبة فارغة, وليست عظة أخلاقية مجرّدة, كما أنها ليست فرضاً للرأي بالعنف, ولا ادّعاء صارخاً بالتفوق, إنها الإضافة الحقيقية إلى رصيد الإنسان من المعارف ودوافع الخير ووسائل الإعمار, ودفع الحياة وتخصيبها وتجديدها دوماً, ويتفرع عن ذلك كله أن نضيف للعالم تكنولوجيات وسلعا جديدة بدلاً من قعودنا على تصدير سلعة واحدة لم يكن لنا الفضل في اكتشافها واستخراجها وتصنيعها إلا لماماً.

ثقافة الامتياز والإنجاز

الفائزون في المنافسة السياسية والحضارية هم مَن يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة وبخاصة مجالات الإنتاج والاقتصاد, وتتطلب ثقافة الأداء والامتياز التأكيد على معنى رئيسي وهو أن العالم قد هجر التفاخر بالأصل والنوع, والهوية, وجعل القيمة الحقيقية اللازمة للاحترام والهيبة هي الإنجاز, وتستطيع كل أمة التعبير عن هويتها ورصيدها من المعرفة والأخلاق من خلال التفنن في الإبداع الجمالي والتكنولوجي, ومن خلال الإتقان في الإنتاج والمبالغة في التحسين المطلوب للمنتج.

والواقع أن ثقافتنا العربية لم تكن غريبة إطلاقاً عن هذا المعنى, وهو ما تشهد عليه آلاف العمائر الباقية والأعمال الهندسية والحرفية التي مازالت تبهر العيون, ولكن هذه الثقافة قد اضمحلت أيضاً بسبب الركود والتخلف الممتد, ولا نكاد نجد لها أثراً في صور التربية والتنشئة والتعليم لأبنائنا سواء في داخل الأسر أو في فصول الدراسة.

الانفتاح والمبادرة الإيجابية

تتناقض روح الاقتحام التي تمتع بها العرب في القرون الأولى للإسلام مع استجابتهم الراهنة للعولمة التي تقودها المجتمعات الصناعية الغربية المتقدمة.

فقد صنع العرب واحدة من أهم موجات (العولمة) في التاريخ الإنساني عندما خرجوا إلى شتى بقاع المعمورة محاربين وتجّاراً وهداة وباحثين عن المعرفة والخبرة, أما اليوم, فاستجابتهم تتسم بالانكماش على الذات والخوف الشديد من الآخر, ويطغى عليها وجل هائل من التفتت, وخشية مبالغ فيها من الضياع والانهيار, وهو ما يقود إلى تفضيل للانفصال عن الحضارة العالمية أو الوجود الانفصامي فيها.

الفارق بين الموقفين لا يتقوّم فقط في المسافة الفاصلة بين دور القيادة ودور المتأخرين عن الركب, فالموقف الاقتحامي الذي جعل العرب يمسكون بزمام المبادرة الحضارية العالمية بعد بزوغ الإسلام قد استند إلى شعور قوي بالواجب الرسالي المتمثل في الهداية الدينية, والثقة بالنفس والرغبة في التعلم من الآخرين, وذلك بالرغم من أن العرب قد ذهبوا لملاقاة حضارات أقوى, ومجتمعات أوفر قوة حتى في مجال الحرب.

واليوم, فإن الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسمّيه البعض بالغزو الثقافي هو استراتيجية بائسة وفاشلة تماماً, فلم تعد الاستراتيجيات الدفاعية والفصامية قادرة على إنقاذ الذات الحضارية من الهزيمة أو التبعثر, وإنما صار الأمل الحقيقي في الصمود رهناً بالتعلم واستيعاب وإتقان ما لدى الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج, ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري, وإصلاح شئوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت بدءاً من نظام الحكم مروراً بنظام الجامعات حتـى الورش ومواقع الإنتاج والخدمات.

المؤسساتية

وتحتاج الثقافة العربية احتياجاً أساسياً وعميقاً لامتصاص واستيعاب أهم المنجزات المادية للحداثة وهي المأسسة, فالمأسسة تعني قبل كل شيء الاهتمام بتمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام, وخاصة فيما يتعلق بالدور, ولكن, أيضاً, فيما يتعلق بالملكية والسلطة, كما تعنى المأسسة شيئاً من الاتصال والديمومة في أداء الوظائف, وذلك في مقابل اقتضاء الأمور للتعاون البشري المؤقت لأدائها.

فلا يغيب مفهوم التعاون, ولا حتى مفهوم حكم القانون عن الثقافة العربية إطلاقاً, ولكن استيعاب فكرة المؤسسة ضعيف فيها للغاية, رغم كونها قد عرفت آليات عمل اجتماعية مطردة ومتواصلة, وتنهض تلك الثقافة بمعطيات جوهرية لفكرة المؤسسة, ولكنها تحتاج إلى معطيات جديدة عليها مثل الدقة البالغة في تعيين الاختصاص والتمييز بين الأدوار, وتقسيم العمل, وإحداث التكامل بين الوظائف والاختصاصات عبر آليات مستقلة نسبياً عن الأشخاص, وهي المعاني المهمة في فكرة المؤسسة, أو المؤسساتية.

وتعنى فكرة المؤسساتية بالكفاءة, ولكن الأمر الأهم هو إمكان وضرورة النظرة العملية - التي نسمّيها بالبراجماتية - والتي تقيم علاقة وطيدة بين الغايات والوسائل, وبين الأهداف والوسائل, وبين القيم وآليات العمل المادية وغير المادية.

وتتيح فكرة المأسسة إقامة تلك العلاقة على نحو وطيد ومتصل في الزمان والمكان, وهو ما تحتاج إليه الثقافة العربية بشدة, فقد عرفت تلك الثقافة, كما ألمحنا, مؤسسات بعينها, ولكنها مالت للتركيز الشديد على العموميات والمطلقات في مقابل التركيز على النسبيات والجزئيات, كما مالت للنظر إلى القيم والمبادئ السامية والأهداف العادلة والغايات النبيلة, وكأنها قادرة على تنفيذ ذاتها بذاتها, ودون حاجة لمؤسسات أو آليات عمل منهجية تقوم عليها, والواقع أن هذه هي أهم منجزات مشروع الحداثة.

التصحيح المستمر والنظر للمستقبل

وبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات, والتعلق الشديد بالماضي, لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية, فالمستقبل ليس سوى مجرد استمرار للماضي, بل إن أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي, وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور, إن الزمن نفسه يصبح مجرد معنى فائض.

ومن ثم, فإن الركود الممتد لأكثر من سبعة قرون له أساس قوي في ثقافتنا, والتحرر من الركود مرهون بتغيير وتجديد نظرتنا للمستقبل, فالمستقبل يحمل جديداً وليس مجرد إعادة إنتاج متواصل للماضي, ولذلك يجب أن نصحح باستمرار ما نعرفه وما نملكه وما نصنعه, وهو ما يعيدنا للقول بنسبية كل حقيقة بشرية وإخضاعها للنقد والتمحيص, إن هذا يخلصنا أيضاً من عبادة الفرد الحاكم, ومن النزعة للتملق والنفاق للرئاسات, ومن إضفاء القدسية والهيبة على عامل السن بحد ذاته, وهو ينتزع أيضاً مساحة معقولة للشباب وللنقد الذاتي والنقد الموضوعي وللاختيار الجماعي المتجدد في ثقافتنا.

استعادة ثقافة المساواة والحق

لا يمكن الزعم باختفاء قيمة المساواة أو الحق من ثقافتنا العربية, فهذه الثقافة مغموسة في فلسفة الحق, وهي تفرد مساحة لا بأس بها لمبدأ المساواة, ومع ذلك, فإن التعسّف قد صار قاعدة, وتم التحضير لقبول الاستبداد في قلب الثقافة العربية, كما سلمت تلك الثقافة لموجات من الأفكار التي عصفت بالمساواة أو قيّدتها في مجالات دون أخرى.

ويهمّنا هنا أن نؤكد على أن النزعة الإنسانية العربية هي من أغنى تيارات الفكر الإنساني العالمي, ونحن ندعو لإحياء تلك النزعة في ثقافتنا العربية - الإسلامية, إن التحدي الحقيقي الذي لم ينجح العرب في اجتيازه حتى الآن هو إقرار حق المرأة في المساواة, ومازالت تلك الضرورة والحتمية متعثرة في الوعي وفي الممارسة على السواء, ونحن نعتقد أن تحرير المرأة والإقرار بحقها في المساواة هو شرط مهم لتحرير عقولنا جميعاً, بل ولتحرير تاريخنا القومي من الركود.

جدلية التعاون والصراع

وسواء كنا نتحدث عن الواقع الاجتماعي المحلي أو الدولي, يجب أن نغرس بقوة في الثقافة العربية فكرة أن التطور رهن للصراع والتعاون معاً, ومن ثم أولوية النضال السلمي من أجل حل التناقضات حلاً عادلاً, ودون إخلال بالحق, فليس هناك أعداء دائمون أو حلفاء دائمون, ولكن الأهم هو أنه ليس هناك أعداء بالمطلق أو حلفاء بالمطلق, فقاعدة النسبية تسري حتى على تلك الصفات.

ويرتبط بهذا المعنى ارتباطاً عميقاً إحياء فكرة السياسة في الثقافة العربية, ونعني هنا لا فقط السياسة الشرعية, وإنما السياسة بوجه عام, أو السياسة الحكيمة إجمالاً, فالسياسة وظيفة اجتماعية جوهرية بذاتها, وتعنى بالأخذ بأفضل الاختيارات المتاحة للمجتمع في مرحلة بعينها, وتوفير أفضل مناخ لحفز الناس - على تنوّعهم وتعددهم وتغاير تفضيلاتهم - على التوافق حول الاختيار الأفضل لكل منهم وللمجتمع مأخوذاً ككل.

والسياسة بهذا المعنى لا تستبعد القوة أو العنف المنظم, ذلك أنها لابد وأن تعتمد جزئياً على الدولة التي تعرف باعتبارها نوعاً من العنف المنظم المشروع في مؤسسة متصلة, ولكن السياسة الحكيمة هي تلك التي تنهض على تشجيع الأخذ بقواعد السلم الأهلي والدولي كلما كان ذلك كافياً للوصول إلى الحق, واتخاذ القرار السليم لتحقيق الأفضل للجميع, والسياسة هنا تتطلب عبقرية الوصول إلى صياغة الحل الوسط المناسب أو الوسيط القادر على إيلاء الحقوق وتنمية الموارد والمآثر لصالح الجميع فرادى وجماعة, ويتطلب الوصول إلى صياغة الحل الوسط المناسب تنمية مهارات التفاوض وتحسين مناخات الحوار, فالحوار والتفاوض مهارتان ضعيفتان للغاية في الثقافة العربية, بينما صارا سلاحاً ماضياً للتقدم بالنسبة للجماعة السياسية الديمقراطية في كل مكان.

طوق النجاة

إننا نعتقد أن تلك الإصلاحات الثقافية العشرة هي طوق النجاة الحقيقي من الغرق في الركود, وفي البحر المتلاطم للسياسة الدولية, فإذا درسنا الجانب المادي من شأننا الاقتصادي والاجتماعي, فقد لا نجد كتلة إصلاحية قادرة على انتشال واقعنا العربي من التخلف الممتد أو على إنقاذنا من المحنة الراهنة انطلاقاً من مصالح هذه الكتلة أو عناصرها, ولذلك فنحن نأمل في إصلاح ثقافي أو في انبثاق الوعي بهذه الإصلاحات الضرورية كمدخل للتحرر من محنة العرب الراهنة.

 

محمد السيد سعيد