نحو تعليم المستقبل

 نحو تعليم المستقبل

إن التعليم الحقيقي هو كل ما يتبقى في الذهن بعد أن تنتهي المدرسة .. فكيف نصل إلى تلك المرحلة من حقيقة التعليم؟

ينبغي هنا التأكيد على أهم مَعْلمين من معالم الكونية التي نعيش بدايتها, والتي لها صلة أكثر مباشرة بموضوع مستقبل التعليم من أجل تعليم المستقبل, وأول هذين المعلمين هو كونية السوق الطليق وحريته وثقافته, وثانيهما الثورات العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية والاتصالية وآثارها في مجالات الإنتاج والخدمات والمرافق والتعليم والثقافة.

ومع ما تحمله مختلف المتغيرات الكونية من إمكانات للتقدم الاقتصادي والاجتماعي والرخاء والعيش المشترك إلا أنه مع استقراء الواقع ندرك أن ذلك لم يتحقق, وبخاصة لسكان الدول النامية, والحاصل أن آليات السوق والتوظيف للثورات العلمية قد أديا إلى انقسام العالم إلى طبقتين, إحداهما للأغنياء من عالم الشمال والأخرى للفقراء من عالم الجنوب, بل وارتبط ذلك باتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الواحد.

ويشير تقرير التنمية البشرية لعام 1999 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى تلك الزيادة في الفجوة في مجالات كثيرة منها مجال البحث العلمي والتطوير, إذ إن ما أنفقته عشر دول غنية يبلغ حوالي 84% من جملة الإنفاق العالمي على هذا المجال, وتحكمت الولايات المتحدة الأمريكية في 92% من المخترعات خلال العقدين الماضيين.

ويظهر التفاوت بين خُمس الدول الغنية, وبقية الدول المتوسطة والفقيرة في استخدام سكانها لخدمات الإنترنت حيث توفّر للمجموعة الأولى استخدام 93.3% من سكانها, بينما بلغ المستخدمون من المجموعة الثانية حوالي 6.7%.

وبطبيعة الحال, يجيء التفاوت الكبير في استخدام الإنترنت في داخل المجتمع الواحد من الدول النامية بين الأغنياء والفقراء في ضوء التكلفة الباهظة لهذا النوع من التكنولوجيا.

ومن الملاحظ كذلك إن الإفادة من ثورة المعلوماتية وخدمات الإنترنت, يعتمد على مستوى عال من التعليم, إذ يقدر أن حوالي 30% ممن يستخدون تلك الخدمات على صعيد العالم هم من الحاصلين على تعليم جامعي, ونظراً لأن حوالي 80% من المواقع على الشبكات باللغة الإنجليزية, فإن الاستفادة من الإنترنت لا تتحقق إلا لحوالي 1/10 سكان العالم ممن يجيدون تلك اللغة, ويشير التقرير كذلك إلى أن الغالبية العظمى من مستخدمي الإنترنت هم من الرجال والشباب, مما يوجد تفاوتاً في فرص الإفادة منه بين الذكور والإناث, وبين جيل الكبار وجيل الشباب.

مخاطر ثقافة السوق

ومع توجهات الكونية ومؤسساتها الدولية تنادى القوم في العالم النامي إلى ما فرضته مطالب عالم الشمال عليها من اصطناع الخصخصة (أو الخوصصة كما يطلق عليها أشقاؤنا في المغرب العربي) سبيلاً لـ(الإصلاح الاقتصادي) باسم الكفاءة الإنتاجية, دون التفات إلى تداعياتها في اختلال موازين العدل الاجتماعي وضغوطها على الموارد المتاحة للتعليم والثقافة, وحل شعار أولويات الأمن القومي والتصدير ليطغي على الوفاء بالطلب الداخلي لحاجات المواطنين, كما تأسس ذلك على تقليص دور الدولة في معظم قطاعات الإنتاج والاستهلاك والاستثمار والخدمات.

وأصبح شعار الكونية السوقية التأكيد على قيم السلع والربح, وفتح الشهية لاستهلاك السلع الأجنبية, بل (وتسليع) كثير من قيم الحياة, متجاوزاً بذلك قيم المعاني الدينية والخلقية والإنسانية, والمهم في جميع الأحوال هو السعي إلى تشكيل نمط (الشخصية الكونية) منفصلة عن جذورها وهمومها ومصالحها الوطنية التي قد تتعارض مع خصائص ذلك النمط.

ولعل القارئ يرى أن ذلك لم يتغلغل في أمور معاشنا العربي, وهنا أذكره بما انتشر لدينا من سلع الكوكلة والبسبسة (شراباً) والكنتكة والمكننة (طعاماً), والكجولة (لباساً) والجاكسونية (غناء), وأشرطة الكليبات (سماعاًّّ), والمحمول (تواصلاً) والدشات وفضائياتها (مشاهدة), ونزعات الفردية والعنف (سلوكاً) والاستثمار سريع العائد (اقتصاداً) والقروض والمعونات (تمويلاً) وتوجيهات الصندوق والبنك (بيعاً وخصخصة) والاستهلاك المستفز وطقوسه (مكانة).

أذكر أيضا بتنامي استخدام اللغة الأجنبية في مدارس اللغات والجامعات الخاصة وارتباطها بما يناظرها في عالم الشمال (تعليماً مرموقاً) واختزلت اللغة العربية إلى حدود لغة الأم بدلاً من أن تكون (اللغة الأم), وتعالت معزوفات التسوية ضرورة للاستقرار والتنمية (سياسة), والقائمة طويلة مما شاع وذاع واستسغناه في مختلف أبعاد ثقافتنا القومية.

وقد ترتب على نفاد ثقافة السوق مع استيراد السلع الأجنبية ظهور توترات فيما تضطرب به ثقافتنا القومية بلغت درجة ساخنة من الاستقطاب والتناقض, وثمة مظاهر كثيرة نعايشها بين أنماط المعيشة العالمية والمحلية, بين الحداثة والتقاليد, بين سياسات الأفق بعيد المدى, والآنية, وقصيرة المدى, بين التنافس الفردي الفئوي والتعاون والتكافل الاجتماعي, وبين تعليم غربي أو شبه غربي, وإحياء مؤسسات تراثية كتعليم الكتاتيب, وأخيراً وليس آخراً بين التوتر المادي والروحي.

اقتحام عصر المعلوماتية

والحاصل أننا افتقدنا إلى حد كبير الملكة النقدية والسعي الجماعي والثقة بالنفس, وبقدراتنا الذاتية من أجل التعامل مع متغيرات هذا الزمان الثقافي الكوني, والذي يفرض نفسه علينا لنضطرب في توجهاته, ومع أنه لا مناص لنا من التفاعل والتحسّب لموجاته, ولا فكاك من حتمية التلاطم معها, فإن مسئوليتنا تقع في تحديد ماذا نصنعه نحن? لا ماذا يصنعه غيرنا فينا, وفي بذل الجهد تكييفاً, ومتابعة ومواجهة, وقبولاً, ومدافعة لتلك الموجات, ضماناً للمناعة والبقاء والتجدد والنماء.

تلك هي الخلفية الثقافية التي تقع محاولات توظيف التعليم في إطارها ليسهم في تحقيق ذلك التعامل الناقد والرشيد, إيجاباً وسلباً مع المتغيرات الكونية, ولعل أهمها بالنسبة لمنظومة التعليم ما تموج به متغيراتها من ثورات وقوى معرفية أرستها المنجزات العلمية والتكنولوجية, وما أفرزته من نظم المعلوماتية وشبكة الاتصالات والفضائيات, ولا يتسع المقال للتفصيل في الآثار المذهلة والمثيرة لنتاج المعرفة الجديدة والمتجددة, وإلى السرعة الفائقة في تضاعف رصيدها الذي يقدر حالياً بفترة زمنية تصل إلى ثمانية عشر شهراً بعد أن كان ثلاث سنوات في الثمانينيات وسبع سنوات في العقود الثلاثة السابقة.

والواقع أنه لم يعد ثمة سقف في التنوّع والسرعة والقدرة على نمو البحث العلمي, حيث يتأكد يوماً بعد يوم أن المعرفة - وليست مجرد توافر الموارد الطبيعية أو ذخائر السلاح - هي القوة الحقيقية, وأنها أغلى الموارد تكلفة, كما أنها أكثرها عائداً, ويكفينا هنا الإشارة إلى ما توصلت إليه صورة الجينات من إنتاج النعجة (دوللي) وما قبلها وما بعدها من استنساخات, ومن زراعة بلا أرض أو زُرّاع, ويذهلنا أخيراً ما أبدعه أحمد زويل من قياس الفمتو ثانية في قياس حركة الجزيئات, وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج هائلة في عالم الصناعة والطب وصناعة الدواء, ونتساءل لماذا لا يكون لدى أمتنا القدرة على تكوين آلاف من (الزويليين)?

وحين نتحدث عن وضع كل تلك الخلفيات لرؤية جديدة ومتجددة لأهداف تعليمنا حاضراً ومستقبلاً, فإنما ننشد من وراء ذلك كله إسهام التعليم في صياغة الإنسان العربي في مجتمع عربي يتيح له تنمية طاقاته المختلفة لاستيعاب تلك المتغيرات العلمية, بل وولوج إنتاج المعرفة الذاتية العربية, وما يستدعيه ذلك من سياسات وموارد.

تدني أحوالنا التعليمية

لقد تأكد, بما لا يدع مجالاً للمناظرة, الدور الخطير الذي يسهم به التعليم في أحوال التنمية البشرية, ويشير تقرير التنمية البشرية لعام 1999, والمشار إليه في بيانات هذا المقال, إلى الارتباط الملحوظ بين ترتيب الدول على أساس حالتها التعليمية ضمن مكونات التنمية البشرية, فالدول الصناعية التي تحتل المواقع الأولى في ترتيب الدول الـ(174), يتراوح المؤشر التعليمي ما بين (0.99) و (0.90) - الحد الأقصى واحد صحيح. ويدخل في هذه العلاقة الملحوظة كوريا الجنوبية, فترتيبها (30), ومؤشر الحالة التعليمية (0.95), وباستثناء دولة الكويت التي تقع في الترتيب (30), ومؤشر الحالة التعليمية (0.73), فإن بقية الدول العربية يقع معظمها في ترتيب ما بين (120.41), وبمؤشر تعليمي ما بين (0.62.0.77), فيما عدا السودان واليمن وموريتانيا وجيبوتي التي هي أدنى من ذلك بكثير ترتيباً وتعليماً.

والجدول المنشور في الصفحة التالية يقدم بعض مؤشرات الحالة التعليمية للدول العربية بصورة إجمالية لعام 1997 مع بعض المقارنات:

ومع إدراكنا لمختلف الخلفيات التي ترتبط بها مؤشرات هذا الجدول , ومع التفاوت فيما بين الأقطار العربية, وبين المناطق الأخرى, ورغم ما طرأ عليها من تحسن لدى الدول العربية في العقدين الماضيين, فإن صورة التعليم بها مع ذلك تبرز تدني الحالة التعليمية وبخاصة في التفاوت الملحوظ بين الذكور والإناث.

هذا فضلاً عمّا أسفرت عنه بعض الاختبارات الدولية في العلوم والرياضيات من ترتيب في ذيل القائمة لاثنين من الدول العربية التي شاركت فيها.

التحرّك نحو المستقبل

ليس من الميسور لهذا المقال أن يعالج مختلف المشاكل التعليمية التي تحيط بالنظام في سياق الأوضاع المجتمعية القطرية والقومية, وفي إطار المتغيرات الكونية التي أوضحنا أهم توجهاتها, وقد تناولت دراسات عدة جوانب معينة من أحوال المنظومة التعليمية, وتظل مقولة التعليم هو الحل , وهو في نفس الآن المشكلة في مواجهة المطالب المحلية والتحديات الكونية, حتى يتمكن من الإسهام في تنمية بشرية كفيلة ببعث الحيوية والتجدد والنماء في جسم المجتمع العربي بأقطاره المتعددة, وسوف يقتصر السعي في هذا المقال على رسم ملامح الأبعاد الرئيسية التي تستلزم الدراسة والتخطيط والتنفيذ لتكوين قدرة بشرية متعلمة وواعية ومتدربة, وقادرة بكمّها وكيفها على تحمّل أعباء التنمية والتقدم, كما يقتضي الأمر أن يقع التركيز فيها على الاكتساب والاستيعاب للمعرفة العلمية والتكنولوجية والتي تمثل القلب من مدخلاتها ومخرجاتها, وتتكامل في هذا السعي لتطوير تعليم المستقبل رباعية من الأبعاد المترابطة من منظور الرؤية المستقبلية في التخطيط والتنفيذ, ويظل من مسئوليات الدولة التي ينبغي أن توليها مزيداً من أولوياتها واهتماماتها الحقيقية.

وتلك الأبعاد هي:

1ـ البعد الأفقي, ويعني امتداد فرص التعليم للصغار والكبار أينما كان موقعهم الجغرافي في المدن والقرى والبوادي, وللبنين والبنات, بما يقلل إلى أقصى درجة ممكنة من التفاوتات الجغرافية والاقتصادية بين الأطفال والشباب كافة, أي بين ممن يعتبر التعليم حقاً من حقوقهم الإنسانية, وبما يتجاوز تدني مؤشرات القيد الحالية التي أشرنا إليها, ويندرج هذا البعد في شعار منظمة اليونسكو (التعليم للجميع) دون استبعاد أو غربلة متعسّفة للمتعلمين آخذاً بالمبدأ البيروقراطي في استنفاد الطالب لمرات الرسوب.

2ـ البعد الرأسي, ويشير إلى إتاحة فرص التعليم إلى أطول فترة ممكنة من السنوات بعد مدة التعليم الأساسي, ويجدر الالتفات هنا إلى أنه ليس من المعقول تكوين القوة البشرية المطلوبة لتحمّل أعباء المستقبل بتعليم ينتهي بالنسبة لمعظم أطفالنا وشبابنا عند المرحلة المتوسطة (الإعدادية) باعتبارها نهاية التعليم الأساسي, ونتساءل أي أساس لأي عصر? بل والمأمول أن يصبح التعليم الثانوي أساسياً, وأن يتاح مزيد من الفرص للتعليم الجامعي والذي لا يزيد متوسط معدل القيد فيه من الفئة العمرية (18-23 سنة), على (13%) كمتوسط في الأقطار العربية, هذا مع العلم بأن متوسط نسبة الحاصلين على تعليم جامعي عال من مجموع السكان لا يتجاوز (6%).

ويتضمن هذا البعد الرأسي توفير فرص التعليم والتدريب لقوة العمل مما يتيح لها التطور والتكيف مع مستلزمات التنمية في تجددها وتوظيفها للمنجزات العلمية والتكنولوجية المتاحة, وهذا ما يتضمنه مفهوم التعليم المستمر, وتحويل المجتمع صغاراً وكباراً إلى مجتمع طلاب, حتى يتشكل لدينا مجتمع متعلم ومعلم عبر الأجيال والعقود.

3ـ بعد العمق في العملية التعليمية

وهو المتصل بالتطوير الكيفي لمناهج التعليم وأساليبها, ويعتبر من أهم أبعاد العملية التعليمية في تعليم المستقبل, حيث يتألف من رباعية من العناصر تتمثل في (أ) تكوين الإنسان الكلي, وفي (ب) الشمول المعرفي, وفي (جـ) تنمية التفكير, وفي (د) توظيف مختلف الأساليب والطرق ومصادر المعرفة.

البيان

معدل الأمية

مراحل القيد في مراحل
التعليم الثلاث

مؤشر الحالة
التعليمية

الإنفاق على التعليم من

 

ذ+أ
%

أ
%

ذ+أ
%

أ
%

(نسبة إلى 1)

الناتج القومي
الإجمالي %

الإنفاق الحكومي
العام %

الدول العربية

41.4

53.6

59

54

0.59

5.9 (1985)

15.8

كل الدول النامية

28.6

39.1

59

55

0.67

3.6

14.8

أمريكا اللاتينية

12.8

13.8

72

77

0.82

4.5

17.9

الدول الصناعية

1.3

1.4

92

93

0.96

5.1

12.3

العالم

22

28.9

63

60

0.73

4.8 (1985)

12.7

ويقصد بتكوين الإنسان الكلي ما تؤدي إليه العملية التعليمية من إنضاج لمركب مختلف قدرات المتعلم البدنية والعقلية والروحية والاجتماعية والمهارية والجمالية, ويفارق هذا التكوين ما تجري عليه ممارستنا الحالية من التركيز على الجانب المعرفي والاهتمام المحدود بتنمية مركب الطاقات والقدرات المتعددة للطالب, مما يؤدي إلى تكوين الإنسان الجزئي أحادي البعد, حيث تتقلص تنمية الجوانب الأخرى من طاقاته مرحلة بعد مرحلة, حتى ينتهي مع المرحلة الثانوية والجامعية إلى اختزالها إلى الأهداف (البنكية) في حفظ المعلومات واسترجاعها مما يتطلبه النجاح في الامتحانات.

ومن مكونات بعد العمق الإلمام بالمضامين والمفاهيم في منظومة المعارف الإنسانية في شمولها, والتي تتألف من التربية الدينية والأخلاقية, واللغويات: (اللغة القومية ولغة أجنبية) والاجتماعيات, والطبيعيات, والتقنيات, والرياضيات, والجماليات, في ضوء مراحل نمو المتعلم وقدراته, ويمثل الإلمام بهذه المنظومة المعرفية أساس الثقافة العامة, كما تغدو قاعدة للتخصص تعين على إدراك ما بينها من تشابك وترابط لفهم متكامل لعوالم الطبيعة والحياة والمجتمع والإنسان والعقائد والشرائع السماوية, وهذا الشمول المعرفي يتطلب التركيز على قيمة كل نظام معرفي ومفاهيمه الأساسية ومناهجه العلمية, ومنطقه وحكمته التي من أجلها يتم وضعه كضرورة أساسية في مقررات التعليم, ويصبح ذلك جزءاً لا يتجزأ من المعلومات والقضايا التي تعالجها مفردات المقررات وعلاقاتها الدراسية, والواقع أن المفاهيم والمناهج العلمية والمنطقية التي تتضمنها تلك المقررات هي التي تكوّن العقلية المعرفية الناضجة في معالجة مسائل الحياة فيما بعد, وهنا تصدق مقولة برنارد شو (إن التعلم الحقيقي هو ما يتبقى في الذهن بعد أن ينسى الإنسان تفاصيل ما تعلم في المدرسة).

والعنصر الثالث في بعد العمق يرتبط بالتأكيد على أهمية الجانب العقلي وتنمية القدرات العقلية في التفكير العلمي بمختلف مداخله ومناهجه ومقارباته وتعقدّه. وهذه التنمية هي مفتاح التعامل في الحياة حاضراً ومستقبلاً مع ثورة المعلومات, نظراً لما تزخر به الموجة الحضارية الثالثة من منجزاتها العلمية والتكنولوجية والاعتماد على الإنتاج الكثيف المعرفية. وفي اختصار شديد, تستهدف العملية التعليمية, لا مجرد حفظ المعلومات واجترارها, إذ إن تكنولوجيا المعلومات كفيلة بتوفير ذلك, وإنما تدور أساساً حول مهارات المعرفة العلمية في طرائق الدراسة والفهم والتساؤل والتنظيم والتفسير. ويعني ذلك التوظيف للعمليات العقلية من التصنيف, والتبويب, والتحليل, والمقارنة, والتجريب, والتأمل, والنقد, ودلالات عوامل الزمان والمكان, وقوى المجتمع, والمنظور التاريخي التطوري, وإدراك العلاقات وتشابكاتها وأوزانها في الإطار المنظومي, واكتساب روح المغامرة واحتمال التجربة والخطأ (فمَن لا يخطئ لا يتعلم), وحل المشكلات وتصميم البدائل, وانتهاء بإبداع أشكال وصور جديدة مغايرة للصور القائمة أو التنبؤ بنتائج متوقعة تحسّباً للمجهول, واستخراج قوانين جديدة أو تقنيات عملية جديدة.

وهذا النمط من تنمية التفكير هو أداة التغيير والتطوير والاتساق مع الموجة الثالثة في عالم المعرفة, في تعقّدها وتنوّعها وتجدّدها ونسبيتها, وأحياناً عدم اليقين في معطياتها, وهذه منطلقات تتجاوز تفسير العوامل الأحادية المسطحة, وذات الأفق الزمني المحدود, أو ما تفرضه سلطة مجتمعية أو علمية تدّعي امتلاك المعرفة الحقيقية واحتكارها, أو ما تمليه خبرات وممارسات تتشح بثوب العصمة. هذا مع ضرورة الإدراك والوعي المتزايد بدءاً من مناهج المدرسة والجامعة بحدود الثقافة اللفظية والإنشائية والماضوية والمتحفية, والتي لا تستند إلى مناهج العلم وثقافته, مما يعوق تعاملنا الرشيد مع التحديات المعرفية والتنافسية في عصر الكونية ومتغيراتها وآلياتها.

ويتوقف التوظيف الفعّال للتكنولوجيا في التعليم والتعلم واستخدام شبكات الإنترنت المحلية والعالمية على تأسيس هذه الذهنية العلمية في التفكير وتنوّع مصادر المعرفة في محيط المدرسة والجامعة, وفي مؤسسات البحث العلمي, وفي التعلم الذاتي, ومن خلال هذا الجانب في عمق العملية التعليمية يتسع المجال للتميّز والتفوّق والإتقان مما يتطلبه عالم التنافس في السوق العالمية المفتوحة.

4ـ البعد الاجتماعي الثقافي:

وهذا يُعنى بإسهام التعليم في ترسيخ أساسيات مشتركة لثقافة المجتمع وقيمه, وما يمكن أن تتصف به من تنوّع على ألحانها الأساسية, أو موازنات فكرية وعملية, تؤسس وشائج العروة الوثقى, والتواصل الاجتماعي الإيجابي, والحوار العقلاني في إدارة تصاريف الحياة والزمن, ومن قاعدة هذه الأساسيات الاجتماعية والثقافية تنطلق محرّكات الدوافع والحوافز الوطنية والقومية للمشاركة الديمقراطية: مؤسسات وتفاعلات بشرية, وولاءات وطنية وقومية, ومع كل ما يستحقه تركيزنا على الجوانب العلمية والتكنولوجية في تطوير تعليمنا, فإن شيوع مناخ الاقتصاد الحر وأسواقه الطليقة وفضاءه المفتوح, وتركيزه على قيم المبادرات الفردية والخاصة, قد تغدو آيات التماسك الاجتماعي وحوار التوجهات الثقافية المتنوعة معرضة للتخلخل في زمن يزداد عولمة يوماً بعد يوم, وتتكثّف ضبـابية التوتر بين المحلي والعالمي.

وإذا ما تخلخل النسيج المجتمعي في قدراته على التجدد الذاتي, وفي التعامل بروح النقد والوعي مع التيارات الكونية, فلن ينفعنا سوق ولا عولمة, ولن يرحمنا أي ماض, ولن يشفع لنا أي مستقبل من مصير التهميش في مسيرة عالم اليوم والغد, وليكن شعارنا تعريب ما اتخذه المثل الصيني (فليخدم كل ما هو عالمي كل ما هو عربي), وتلك مسئولية قومية تقع على عاتق الأطراف العربية كافة في تعاونها على مختلف الأصعدة التعليمية, ومؤسساتها المجتمعية.

وعلى الدولة أن تتولى قيادتها وتوجيهها ودعمها مهما كانت تداعيات حرية السوق, فضرورات الخصخصة لا تبيح محظورات التعليم.

وقد أصاب المثل الياباني حين قال (ما قيمة سفينة الدولة إذا لم نكن جميعاً على ظهرها?).

 

حامد عمار