تحديات القرن الواحد والعشرين!.. البحث عن نسق جديد من القيم

 تحديات القرن الواحد والعشرين!.. البحث عن نسق جديد من القيم

هل أصابنا الشك في فاعلية القيم الاجتماعية القديمة، وهل أصبحنا نميل إلى رفضها بدون دليل؟

شهد القرن العشرون, وبخاصة في نصفه الأخير, كثيراً من التغيرات وحركات التمرّد التي أثرت في عدد غير قليل من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية سواء على مستوى المجتمع الواحد أم على مستوى العالم ككل. وتتراوح هذه التغيرات بين انتهاء عصر الاستعمار وحصول كثير من المستعمرات على استقلالها إلى سقوط المعسكر الشرقي, مما دفع أحد المفكرين الأمريكيين إلى إعلان (نهاية التاريخ), إلى الانفجار السكاني الهائل الذي يثير كثيراً من المشكلات حول مستقبل الجنس البشري إزاء تراجع الموارد الطبيعية بشكل مخيف ينذر بأوخم العواقب إلى ارتفاع الأصوات التي تنادي بالحرية والديمقراطية وتوفير الحقوق الطبيعية للإنسان بصرف النظر عن اختلافات العرق واللغة والدين والجنس وهكذا. وفي الوقت ذاته, ظهرت حركات التمرّد الاجتماعي التي اتخذ بعضها شكل ثورات عارمة وعميقة تتمثل في ثورة الزنوج في أمريكا للمطالبة بحقوقهم كمواطنين يتمتعون بكل متطلبات الحياة الكريمة مع القضاء على التفرقة العنصرية, كما تتمثل في ثورة النساء للمطالبة بالمساواة في الحقوق والواجبات مع الرجل, ثم العمل على تكريس ثقافة نسائية تقف على المستوى نفسه مع الثقافة التقليدية المتوارثة التي ترى النساء أنها ثقافة (ذكرية) تنبع من أيديولوجيا متحيزة للرجل, ثم أخيراً ثورة الطلاب في الستينيات على الأجيال السابقة التي تمثل السطوة والتسلط كما تعكسها شخصية الحاكم والأب والأستاذ وهكذا, وهذه التغيرات وحركة التمرد هي في آخر الأمر تعبير صريح عن الشك في معنى وفاعلية القيم الاجتماعية والثقافية المتوارثة والميل إلى رفضها وعدم الالتزام بها, دون أن يكون هناك في واقع الأمر بديل جاهز يحل محلها.

وقد نشأ هذا الموقف المتمرد الرافض من تضارب, بل وتناقض الأوضاع والأفكار والأيديولوجيات التي تعرّض لها إنسان القرن العشرين, وكذلك تعدد وتنوع وتباين المؤثرات الثقافية التي خضع لها, ولم يسلم من هذه المؤثرات حتى أبسط المجتمعات التي اصطُلح على تسميتها بالمجتمعات البدائية, وساعد على تعميق الشعور بعدم جدوى أو فاعلية القيم التقليدية المتوارثة سهولة وكثافة الاتصال والتواصل نتيجة لتقدم وسائل الإعلام, وما ارتبط بها من تدفق المعلومات وازدياد فرص الاطلاع على أساليب الحياة وأنماط السلوك والعادات التي تنتشر في المجتمعات الأخرى, وبالتالي إمكان الاستعارة والمحاكاة والتقليد وتكوين عادات جديدة قد تتناقض مع التقاليد السائدة في المجتمع ومع العادات الأصلية والقيم الأصيلة, وظهرت بذلك ثغرات وفجوات واسعة وعميقة تفصل بين السلوك والتصرفات والأفكار الجديدة المكتسبة عن طريق التأثير الخارجي, وبين انساق القيم المتوارثة, تعاني منها معظم المجتمعات الإنسانية في الوقت الحالي, وينطبق ذلك بوجه أخص على مجتمعات العالم الثالث التي تخضع بشكل واضح لتلك التأثيرات الخارجية الوافدة من الغرب الذي يملك قدرات تكنولوجية هائلة في مجال الإعلام والاتصال تساعد على نشر ثقافته وأفكاره وسلوكياته التي ينبهر بها العالم الثالث, ويحاول الأخذ بها باعتبارها تمثل مرحلة أعلى من التقدم والرقي رغم عدم تلاؤمها مع التاريخ, والموروث التقليدي الواسع في تلك المجتمعات.

نشأة القيم

وقد يكون السؤال الطبيعي إزاء هذا الوضع المتناقض هو: هل هناك حاجة لقيام نسق من القيم الجديدة تتلاءم مع هذه المظاهر السلوكية الطارئة, وتبررها وتتفق مع الأوضاع التي سوف تفرض نفسها على مجتمعات العالم الثالث الذي تنتمي إليه المجتمعات العربية وذلك كنتيجة حتمية لزيادة الاتصال بالعالم الخارجي المتقدم, والأشد تأثيراً?, وقد يبدو هذا السؤال غريباً لأول وهلة, لأن القيم لا تنشأ بفعل الإرادة الذاتية الواعية والتي يتم تكوينها وصياغتها - إن صح التعبير - من خلال عمليات طويلة ومعقدة تستغرق فترات طويلة جداً من الزمن يتم اثناءها ـ بطريقة تلقائية وغير متعمدة ـ استخلاص مبادئ عامة من أنماط السلوك, وانساق الفكر السائدة في المجتمع والتي تثبت قدرتها على البقاء والاستمرار, ومع ذلك, فقد يكون من المطلوب والمرغوب فيه أن نبحث عن نوع القيم التي يمكن أن تسود في مجتمع الغد, والتي تتلاءم مع الأوضاع والظروف العامة التي سوف تسيطر في القرن الواحد والعشرين, وهذا يتطلب أن يكون لدينا قبل كل شيء تصوّر عام عمّا يُتوقع أن يكون عليه العالم حينذاك مع الاسترشاد في تكوين هذا التصور بمسار الأحداث في السنوات الأخيرة من القرن العشرين ذاته.

والحديث عن أهم مقومات وملامح القرن الواحد والعشرين, وعن القيم التي ينبغي أو التي نتوقع أن ترتبط به يعبر بالضرورة عن نظرة ذاتية إلى حد كبير, وإن كان يسترشد في الوقت ذاته بالمعلومات والخبرات المتوافرة, كما أن استشراف المستقبل لا يعني إغفال الماضي أو إسقاطه من الاعتبار, فالحياة الاجتماعية والثقافية سلسلة متصلة من الحلقات التي تؤلف وحدة كلية متماسكة إلا في حالات الثورات الكبرى التي تمثل انكساراً استثنائياً في تلك السلسلة, فالجديد لا يمحو الجديد أو يزيله تماماً, وإنما يعمل على تعديله وتغييره والإضافة إليه, وهذا يصدق على المجتمع العربي بكل تراثه الفكري والأخلاقي الطويل العميق الذي سوف يحتاج إلى إعادة قراءة وتفسير في ضوء الظروف المستجدة, وإن كانت القيم تتمتع - في العادة - بالقدرة على الصمود لأنها هي التي تعطي الفرد والمجتمع الشخصية والهوية المتميزة.

ربما كان أهم ما سوف يميز القرن الواحد والعشرين هو زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي بالمعنى الواسع للكلمة الذي يشمل السياسة والاقتصاد وأساليب الفكر, بحيث تتصل كل مجتمعات العالم بعضها بعضا بما يحقق التبادل الثقافي على أوسع نطاق نتيجة وسائل الإعلام والاتصال المتطورة, وسوف يساعد هذا الانفتاح والاتصال على معرفة الثقافات المختلفة والمتباينة في العالم, وإدراك كنهها ومعرفة رموزها ومعاني هذه الرموز مما يؤدي إلى احترام ثقافة الآخرين, والنظر إلى كل ثقافة منها على أنها منظومة واحدة تتفق في مبادئها العامة مع المنظومات الثقافية الأخرى رغم اختلاف العناصر الجزئية التي تدخل في تكوينها, والتي سوف يشهد القرن الواحد والعشرون استمرار بعض حركات التغيير والتقدم التي بدأت بوادرها تظهر خلال القرن العشرين بحيث يمكن القول إن القرن الواحد والعشرين هو قرن التقدم في مجال العلم والتكنولوجيا استمراراً وامتداداً لما تم تحقيقه بالفعل, وهو ما يتطلب سيادة التفكير العلمي العقلاني, وتراجع التفكير الغيبي, وانكماش الخرافات, وإن كان هذا لن يقضي عليها تماماً, لأنها تخاطب ناحية معينة في حياة البشر, وسوف تزداد المطالبة بالحقوق المدنية, وبخاصة في مجتمعات العالم الثالث مع إقرار حقوق الأقليات العرقية والدينية واللغوية, واستمرار ارتفاع الصيحات بتحقيق مطالب المرأة والعمل على إبراز وتوكيد الثقافة النسوية التي تهدف إلى فرض نظرتها الخاصة إلى الأوضاع والنظم والعلاقات القائمة بالفعل, وإعادة تفسير وتأويل الثوابت التقليدية المتوارثة في الاجتماع والأخلاق والسياسة والاقتصاد, بل والدين أيضاً من وجهة نظر خاصة, ومن منظور نسوي خالص بدأت بوادره تظهر خلال النصف الثاني من القرن العشرين, ورغم سقوط الحواجز الثقافية بين مجتمعات العالم, وازدياد التقارب الثقافي بين مختلف الشعوب, فسوف تظهر في الوقت ذاته الرغبة في إبراز وتوكيد التمايز والاختلاف والاستقلال الاجتماعي والسياسي لكسر الهيمنة, والتي قد تريد بعض الدول فرضها على الآخرين, كما سوف تزداد داخل المجتمع الواحد النزعات الفردية على حساب الشخصية الاجتماعية المتماسكة, وبذلك تزداد حدّة التنافس أو حتى الصراع الداخلي بين الأفراد كوسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية الخاصة, وإثبات الذات أمام سطوة المجتمع.

العقل لا الغيبيات

هذه الأوضاع الجديدة تتطلب وجود منظومة من القيم الاجتماعية التي تتلاءم معها وتفسرها وتبررها وتعطيها الدعم المكاني المطلوب كواقع قائم بالفعل, ولابد أن تكون هذه القيم منسجمة ومتجانسة مع الأخلاقيات الجديدة التي تترجم نفسها في الأخذ بمقتضيات ومتطلبات العلم ومناهجه, وبأساليب التفكير العقلاني البعيد عن الغيبيات, وكذلك بمتطلبات العمل والقواعد التي تحكمه وتنظمه في عصر تسيطر عليه روح المنافسة والصراع, كما تسوده الرغبة في تحقيق التقدم والنجاح في مختلف الميادين مع توفير أكبر قدر من الحرية الشخصية, والحق في إبداء الرأي والمشاركة في الحكم, وترسيخ مبادئ المساواة والديمقراطية لأفراد المجتمع, مع العمل في الوقت ذاته على تقوية روح الانتماء الوطني والقومي كوسيلة لمواجهة سطوة وفاعلية وسائل الإعلام التي تعمل على تقويض عوامل التمايز الثقافي والاجتماعي والأخلاقي, وهيمنة أخلاقيات وسلوكيات وقيم المجتمع الغربي المتقدم على مجتمعات العالم الثالث, ومنها المجتمعات العربية والإسلامية, ولذا فسوف يشهد القرن الواحد والعشرون في المنطقة العربية التي تهمنا هنا بالدرجة الأولى مزيداً من التركيز على إذكاء روح الوطنية والانتماء القومي, وربما كان المثال الذي يحضرنا هنا هو الاتجاه الواضح في الوقت الحالي نحو التعليم الأجنبي في كثير من البلاد العربية واعتبار ذلك من دواعي الفخر واكتساب مكانة متميزة في المجتمع, ولكن هذا الاعتزاز سوف يتضاءل ويتقلص أمام الاتجاه الذي بدأ في التنامي الآن نحو الاهتمام بتعلم اللغة العربية وآدابها وتراثها, واعتبار ذلك قيمة مطلقة وليس مجرد وسيلة للارتباط بالمكان الذي نعيش فيه أو مجرد أداة للتعامل والتواصل, وبطبيعة الحال, لن يكون ذلك الاتجاه عائقاً عن الانفتاح على الثقافات الأخرى لأنه لا يتنكر للغات الأجنبية, ولكنه سوف يضع قواعد للاختيار والانتقاء من هذه الثقافات بحيث نستعير منها ما لا يتعارض مع مقومات الثقافة العربية الإسلامية, فعنصر الاختيار والانتقاء عنصر مهم في الانفتاح السليم والفعّال على العالم الخارجي, وفي التأثر والتأثير المتبادلين.

وسوف يشهد القرن الواحد والعشرون درجة أكبر من التسامح بين الثقافات, وهو تسامح يقوم على أساس المعرفة والفهم لتلك الثقافات ومبررات وجودها, ومعاني رموزها, والسلوكيات المرتبطة بها, والقيم التي تكمن وراءها مما يساعد على احترام هذه الثقافات بكل نظمها وأفكارها وقيمها دون أن يعني ذلك بالضرورة تقبّل هذه القيم أو محاكاة الأفعال والتصرفات المرتبطة بها, ويستوي في ذلك فهم واحترام القيم التي ترتبط بخروج المرأة إلى العمل, أو المناداة بالمساواة المطلقة بين الجنسين, أو حركات التحرر النسائي بما فيها الحركات المتطرفة التي تنادي بضرورة الالتجاء إلى العنف والقسوة في التعامل مع الرجال, كما هو الشأن بالنسبة للحركة الأمريكية المعروفة باسم (حركة تقطيع أوصال الرجال) لاستئصال شأفتهم في المجتمع, فالمهم - إذن - هو معرفة وفهم الأسباب وراء السلوك, ومعرفة القيم التي تحكم هذا السلوك واحترام هذه القيم رغم رفضها وعدم الأخذ بها, وهذه هي قمة التسامح القائم على الفهم والتقدير والاحترام, بل إن التسامح سوف يصبح قيمة في ذاته من قيم القرن الواحد والعشرين رغم اختلاف النظرة والفكرة والسلوك والمعتقد, فقد تتباين مظاهر السلوك حول موضوع معين من مجتمع لآخر مع أن هذه المظاهر المختلفة والمتباينة تصدر عن قيمة واحدة معينة في تلك المجتمعات المختلفة, فقيمة الشرق - مثلاً - مشتركة بين كثير من الشعوب, ولكنها تُترجم إلى أفعال مشتركة وسلوكيات متباينة قد لا تكون مقبولة بين كل تلك الشعوب ذاتها, ولذا, فإن السلوك والتصرّف والعلاقات الاجتماعية ينبغي أن تؤخذ في إطار السياق العام السائد في كل مجتمع على حدة حتى تختفي الأحكام التقويمية المتحيزة ضد الثقافات الأخرى, ويتوقف الإعلاء من شأن الثقافة الخاصة بمجتمع معين على حساب ثقافة الآخرين.

قيم فعّالة

وواضح من هذا كله أن قيم القرن الواحد والعشرين التي سوف تسود العالم أجمع بما في ذلك العالم العربي هي قيم إيجابية فاعلة أكثر منها مواقف سلبية انفعالية, فسوف تحل - على سبيل المثال - قيم التفكير العلمي والتصرفات والأحكام والقرارات العقلانية محل التفكير الغيبي والاعتقاد في الخرافات, والتمسك بها, وسوف يأخذ مجتمع القرن الواحد والعشرين نفسه بالاهتمام بالمستقبل والنظر إلى الأمام, واحترام قوى التقدم والنجاح والإنجاز أكثر من النظر إلى الوراء وتمجيد الماضي والارتباط به أو الاستكانة والرضا بالأمر الواقع, ومحاولة إيجاد مبررات لقبوله, والاقتناع بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان, ومما هو كائن وقائم بالفعل, وإن كان هذا لا يعني التنكـّر للتراث الثقافي والاجتماعي والأخلاقي, وإنما يعني مراجعته وإحياءه من خلال إبراز الجوانب الإيجابية فيه التي تضيف إلى الحضارة الإنسانية, وسوف تنمو وتنضج وتزدهر قيم الديمقراطية وحرية الرأي, والمشاركة الفعلية في الحياة السياسية, وتحل محل الانفراد والاستئثار بالحكم, وتركيز السلطة في أيدي صفوة سياسية قليلة العدد تحتكر لنفسها كل مظاهر وفوائد السيادة, وتعمل على كبت الرأي الآخر في سبيل المحافظة على مكاسبها وعلى كيانها, ولذا سوف تزداد الرغبة والقدرة على إبداء الرأي بمختلف الطرق والوسائل المتاحة في ذلك الحين, وكذلك سوف تتضح بجلاء وفي قوة ملامح ومقومات الشخصية الفردية, وتمايزها ومشاركتها الإيجابية في حياة المجتمع بدلاً من الموافقة السلبية التي تتمثل في الاكتفاء باستقبال وتقبّل وترديد كل ما يلقى إلى المرء من معلومات وتعليمات وتفسيرات وتبريرات تبثها وسائل الإعلام الموجهة, كما هو حادث الآن بالفعل في كثير من مجتمعات العالم الثالث بما فيها المجتمعات العربية, وسوف تجد وسائل الإعلام نفسها مضطرة إلى اتباع سياسة إعلامية وترفيهية تتناسب مع تعقيدات العصر وتقدمه العلمي والذهني بدلاً من البرامج الهابطة التي تميل إلى التسلية السطحية التافهة, والتي تؤدي إلى التبلد الذهني وضحالة التفكير, فعالم الغد سوف يكون أكثر جدّية حتى في اللهو والتسلية التي تستعين بأساليب وأدوات وأجهزة تساعد على ترويض الفكر وتنمية القدرة على الابداع والابتكار.

 

أحمد أبوزيد