البحث عن وطن فاضل السباعي

البحث عن وطن

كل ما كان يعيه أنه يجلس وراء طاولة مديدة، وفي حوزته كتابان: آخر ما صدر من تآليفه، ومرجع عام استعاره توا من مكتبة الجامعة، وتحت يده أو راق بيض، يخط في كل ورقة أسطرا نزقة، محاولا التعبير عن ظلامته، ثم ما يلبث أن يمزقها، ليشرع في الكتابة من جديد.

وما كان ليخامره شك قط، وهو في هذه القاعة وحيدا، أنه حر طليق، إلى أن مثل أمامه، فجأة، شاب طلق المحيا، تفرس في وجهه لحظة، ثم انعطف نحوه بأدب جم خيل إليه معه أنه واحد من طلابه الأو فياء، وسأله: "حضرتك المواطن "س"؟.

- نعم، يا عزيزي!

وإذا الشاب يصرخ، وقد فارقه أدبه الجم كله:

- هيا امش قدامي!

ولأن "س" كان يعتقد، حتى تلك اللحظة، أنه لا يزال في إحدى قاعات الجامعة، فقد قال مستفسرا:

"ولكن.. كيف تسمح لنفسك، أيها الفتى، بأن تخاطبني بهذه اللهجة القاسية؟".

فألوى الشاب عليه، جاذبا إياه من كتفه جذبة كانت كفيلة بأن تقتلعه من فوق كرسيه:

- "بلا علاك"! أقول لك: امش قدامي !

احتج "س": ولكن.. من تكون، أيها الرجل الغريب ؟! ولماذا تعاملني بهذه الفظاظة ؟! أنا.. موظف دولة، من الدرجة الأولى !!

ولكنه راح يدفعه أمامه بغلظة مهينة.

- دعني آخذ كتابي !

- وتحمل أشياء ممنوعة؟!

حدث نفسه: "أشياء ممنوعة"؟! فماذا لوعرف أني هنا، منذ الصباح، أخط شكوى لأرفعها إلى المقامات العليا، احتجاجا على تجاوز زملائي لمنزلتي الجامعية.

لم تسؤه كثيرا الألفاظ النابية التي صكت سمعه، ولا المعاملة الفظة التي يتلقاها من هذا المأمور الصغير ! ولا عجب لسقوطه المفاجيء بين أيديهم.. فلقد سبق له أن وقع، غير مرة، في قبضتهم، دون ما سبب، وتعرض لضروب من الإيذاء والمهانة.. وكانوا، في كل مرة، يطلقون سراحه بعد أن يخطوا في سمعه كلمات اعتذار!

ولكن الدهشة الكبرى التي اعترته مقرونة بالخجل العظيم، أنه ألفى نفسه، بعد أن اقتيد إلى قاعة أخرى، مجردا من ملابسه ! ومما زاد في استحيائه أن هذه القاعة كانت تعج بالناس وبالحركة !.. وتساءل عما إذا كان في حلم ؟ ثم أخذ يتحلل، شيئا فشيئا، من مشاعر الدهشة والخجل وهو يرى الآخرين، كلهم، مجردين من ثيابهم، ومن كتبهم وأو راقهم وأقلامهم. !

وكان لا بد أن ينسى همه الأول، ذاك الذي مزق في التعبير عنه غير قليل من الأو راق، وهو يرى الناس يروحون في هذه القاعة ويجيئون. ولم تسعفه ذاكرته في تعرف أي واحد منهم، ليس لأنهم عراة، ولكن لأن وجوههم بدت له متشنجة، وكذلك أطرافهم، فهم يسيرون كالعناكب المنتصبة.! أخذ يطمئن نفسه: عندما يبدأو ن باستجوابي سيتبينون إلى أي حد هم مخطئون بحقي !

ثم تساءل: لوأن هذا الذي تشهده عيناي، كان حلما، لتحررت منه بالاستيقاظ !

اقترب منه أحدهم:

- إذن فقد أدخلت معك كتبا ؟

رأى "س" السائل كاسيا فأسرع يجعل من كفه ورقة توت. سخر الرجل:

- انظروا ! إنه يخجل من أن يظهر أمامنا كما ولدته أمه، ولا يخجل من "المخالفة".. يا للتناقض !!

- وهل حيازة الكتب تعد "مخالفة" ؟!

ثم رأى من كان خيل إليه أنه واحد من طلابه الأو فياء، يميل على هذا "المحقق" ويسكب في سمعه كلمات.. فيتابع هذا سؤاله:

- وورقا وقلما أيضا، وأخذت حريتك في الكتابة ؟!

- الحقيقة، لم أكن أظن أني في سجن.

- في الفيللا التي خلفها لك أبوك !

- لا، بل في إحدى قاعات الجامعة.

- وماذا كنت تكتب ؟

- ظلامة.

- ظلامة ؟! وما هي هذه الظلامة ؟

- هل أشرحها هنا، أم أتريث حتى أشرحها للمراجع التعليمية ؟

- ألسنا قد المقام ؟!

- طيب ! فاسمح لي أن أبين لك أني أعلى الأساتذة مرتبة في القسم..

"القسم" ؟!

عادة، الجامعة تتألف من كليات، والكلية من أقسام..

مفهوم، مفهوم.

فأنا أقدم الأساتذة في القسم الذي أدرس فيه وأعلاهم مرتبة. ومن مقتضى التقاليد العريقة في جامعات العالم بأسره، أن أكون رئيسا لقسمي. ولكن المخالفة لم تزل جارية منذ مدة في أنهم يعينون رؤساء للقسم من المدرسين الجدد، الذين هم من الطلاب المتخرجين على يدي، وأحيانا أجدهم من طلاب طلابي !!

وما بهم طلابك، وطلاب طلابك ؟ لولم يكونوا الأفضل لما فضلوهم عليك ! ولكن ماذا كنت تكتب وأنت في قاعة الانتظار ؟

أكتب ظلامتي هذه، لأقدمها إلى أولي الأمر، التماسا للعدالة والإنصاف.

ذعدالة وإنصاف ؟! تعني أن بيننا ظلاما ومظلومين ؟!!.. خذوه.

لم يكد المحقق يلفظ كلمته الأخيرة حتى تقدم مرافقه، وأخذ ذراعه فلواها، ثم سار به نحوباب يفضي إلى مكان آخر.

استسلم "س"، وقد أيقن أنه في حلم خارق للعادة. ولكنه عجب ألا يكون في استطاعة الألم، الذي حل بذراعه، أن يضع نهاية لهذا الحلم السخيف !

في القاعة الثالثة تعاونوا عليه، فحملوه قبل أن يطرحوه في أعماق كرسي.. وجد نفسه فيه لا هو بالجالس ولا بالمستلقي، ولكن مرفوع الساقين ! اختلس النظر لما حوله. ومن خلال السكون المريب رأى صفوفا متراصة من مثل هذا الكرسي الذي ألقي فيه. كل كرسي هو لصق الآخر، وفي كل منها جثة، لم يستطع أن يتبين منها سوى الجذع الغائص في أعماق الكرسي، والساقين العاريتين المرفوعتين، وأما الموضع من الجسم الذي يفترض أن الرأس ماثل فيه، فقد جلل بغطاء أسود.. وكانت تصدر عن هذه الأجساد اختلاجات صغيرة أكدت له أن أصحابها لا يزالون على قيد الحياة !

فجأة، سقط على رأسه غطاء، بدا له غليظا، حتى إنه أو شك أن يختنق دونه. إلا أنهم سرعان ما عالجوه، فأتاحوا لقليل من الهو اء أن ينفذ إلى منخريه. وفيما بدأ جسمه يختلج اختلاجة أولئك الرجال، أحس بالأمراس تلتف حوله وتشده إلى كرسيه. وبدافع من الغريزة العمياء، أخذ يسحب، عبر فتحات هذه العمامة الغليظة، أنفاسا صغيرة منتظمة.

فكر: بعد سجن العري، يطويني سجن العتمة.. يا لها من سلسلة سجون، لا تنتهي ! وتساءل: ولكن لماذا أنا هنا ؟ كيف وقعت في أيديهم ؟ كيف أمكن أن تتحول قاعة البحوث الجامعية التي كنت فيها، إلى مكان للمراقبة أو التوقيف ؟! لماذا يستنطقني أفظاظ أغبياء ؟ ليتهم يلقون علي سؤالا واحدا يتوافق والمنطق ؟ أين هم المحققون الأكفاء ؟ لماذا قدر على المواطن أن يخضع، مرة بعد مرة، في اليقظة وفي الحلم، لهذه "الإجراءات" الغريبة ؟ لماذا يقع ذلك كله في وطني الحبيب ؟!!..

من أنت ؟

سؤال آخر يتسلل إلى سمعه عبر العمامة:

أنا المواطن "س" !

المهنة، من فضلك ؟

أستاذ جامعي.

أمر المحقق: فكوه !

ما الذنب الذي اقترفت ؟

لا أدري.

وماذا تدرس في الجامعة، أيها الأستاذ الجليل ؟

فلسفة، منطق، رياضيات.. ألم تكن في عداد طلابي ؟ ألم يتفق لك أن استمعت إلى محاضرة لي ؟

كانت أو صاله قد تحررت. مد الرجل نحوه ساعده، وأنهضه من ضجعته.. ثم شد على يده مصافحا، وهو يخط في سمعه كلمات اعتذار:

لا تؤاخذنا، أستاذ، إن كنا أخطأنا في حقك !

ثم رآه يلتفت إلى زملائه:

أساتذة أجلاء، علماء أفذاذ، ودون جرائم واضحة أو فاضحة ؟!. كفانا "بهدلة"، يا ناس !!

وجد المواطن "س" نفسه يتجه نحوبيته، ساعة الفجر، سيرا على القدمين. بدت له المسافة طويلة طويلة. كان عاريا لا يزال، لأنهم لم يعثروا على أية قطعة من ملابسه ! طوال الطريق كان يفكر: لا بد من الرحيل ! لم أعد أطيق العيش في وطني ! وما كان للطريق الطويلة أن تنتهي. ولكنه ألفى نفسه، فجأة، وقد فرغ من تدوين تفاصيل هذا الحلم الغريب.. مختتما إياه بعبارة: "لم يعد بد من أن أرحل عن وطني الحبيب !". وأو دع الأو راق في حرز حريز.

سألوه، والأو راق بين أيديهم، عما إذا كان الخط خطه ؟ اعترف:

- نعم، أيها السادة: الخط خطي، وإن كان مغفلا من التوقيع.

وأخذوا يقرأو ن، على مسمعه، تفاصيل الحلم المدون.. وترنمو ا بالعبارة الأخيرة: "لم يعد بد من أن أرحل عن وطني الحبيب"!.

إذن، فأنت، أيها المواطن "س" كاره لوطنك، الذي تسميه "حبيبا"؟!

- عندما يضطهد المواطن في وطنه الحبيب، يكف الوطن عن أن يكون حبيبا، يصبح بلدا من البلدان ليس إلا ! ما فعلته، أيها السادة، أني كتبت ما وقع لي، فور وصولي إلى البيت عاريا.. عفوا، أردت أن أقول: كتبته عقيب استيقاظي من ذلك الحلم الكثيف!

- ولكنك تعلم، وأنت الأستاذ المتخصص، أن أحلام الليل لا تعدوأن تكون صدى لما يعتمل في النفس ساعات النهار !

فكر: ويعرفون فتاتا ؟ من علم النفس أيضا !

ألم يقع لك أنا اقتدناك إلى السجن قبل هذه المرة ؟

سبع مرات، قبل هذه، أيها السادة !

وأنك أهنت، في كل مرة، أو عذبت، قبل أن يعتذر إليك بلباقة؟

...!...!...!

فهذا الحلم.. أولندع الحلم جانبا، فهذا العزم منك: الرحيل عن الوطن، هو عين ما تريد في يقظتك !

وساوره الإحساس بأنه في حلم كثيف آخر.

أطلقوه مرة، ومرة، ومرات لا عداد لها.. وكانوا يخطون في سمعه، في كل مرة، كلمات اعتذار.. ثم ما يلبث أن يجد نفسه في قبضتهم مرة أخرى.

التبست عليه الأمور. سواد الليل يدخل في بياض النهار. وما عاد يدري: أهو حلم متواصل ؟ أم أنه الواقع الشبيةه بالأحلام؟!!.

يعتزم الرحيل. يبحث عن وطن.

 

فاضل السباعي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات