ابن الفارض.. سيرة الحياة ومسيرة التجربة

 ابن الفارض.. سيرة الحياة ومسيرة التجربة

إن كانت مصر مكاناً أليفاً, وُلد ابن الفارض فيه, وبدأ منه سلوكه في الطريق, ومنه تبدأ سيرته الذاتية, فإن مسيرة تجربته الصوفية تبدأ فعلياً - لحظة حصول الكشف والفتح عليه - من الحجاز وفي مكة تحديداً, نحن أمام ميلاد مركزي جديد يأخذ فيه الوعي بالذات وبحقيقة الوجود, والذات الإلهية, بعداً أعمق, والفارق بين الميلادين: الميلاد الفيزيقي لابن الفارض الإنسان في مصر, والميلاد الروحي لابن الفارض الشاعر الصوفي في مكة, هو الفارق بين مركزين, واحد تبدأ منه سيرة الحياة, والآخر تبدأ منه مسيرة التجربة وخصوصيتها الصوفية.

فقد وُلدت تجربته الشعرية من رحم السلوك الصوفي والبحث الدائم عن وحدة الوجود والحق, إنها قرينة المعايشة والإخلاص الفعلي لأعراف الطريق وتعاليم السلوك الصوفي.

الشعر هنا يمثل تجربة تالية للتجربة السلوكية والرياضة الروحية, ولا يمكن الوقوف على خصائص التجربة الشعرية الصوفية عند ابن الفارض, والولوج إلى جوهرها دون النظر إلى طبيعة سيرته الذاتية ومراحلها, ومن ثم فإن سيرة ابن الفارض الذاتية الحياتية ومسيرة تجربته الروحية الصوفية بُعدان رئيسيان في فهم خصوصية تجربته الشعرية الصوفية.

ترتكز التجربة الشعرية الصوفية عند ابن الفارض على نقطة جوهرية تدور حولها كل نصوصه الشعرية, إنها النقطة المنبع والمصب في الوقت ذاته, منها تنبع التجربة الشعرية وإليها تعود, في صيرورة ما بين صدور وورود, لا ينقطع أيْضُها أبداً, فابن الفارض السالك يتطلع نحو الاتحاد والفناء, ويتأمل وحدة الوجود, وتجربته الشعرية يتحقق فيها معنى اكتمال دورة الخلق, التي تبدأ من عالم الذّر, منذ أن أخذ الله الميثاق من بني آدم سورة الأعراف آية 172وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين (الأعراف 172). ومروراً بالحياة كصورة للوجود لا تشغله بكثافتها, إنما يسيطر فيها عليه حال عال من الحب الإلهي كغاية ووسيلة, إلى أن تنتهي بالفناء الذي لا يأخذ من الإنسان غير صورته الحسّية, وحيّزه المادي.

لقد جاءت تجربة ابن الفارض الشعرية الصوفية زاخرة بمعاني الحب الإلهي وتجليّاته المصاحبة لأحوال المحب, الغائب الواعي في حضرة الذات الإلهية بها, ومن ذلك ما ورد من مرادفات عدة, مثل: الخمر, السكر, القبض والبسط, المحو والصحو, الفناء والبقاء... إلخ من معاني ومفردات تمثل البعد المعرفي الصوفي الخاص في التجربة الشعرية, يحبوها بعد ظاهري العمل في بنية القصائد, يتجلى في رحلة زمانية ومكانية تبدأ من الذات الشعرية بوعيها الفارق ورغبتها الدائمة في الوصال بالمحبوب, تدفعها باتجاه المحبوبة (الحقيقة), (الحق): (الله), أدواته في هذه الرحلة وسطاء عديدون, من دليل وسائق الأظعان, وحادي, وراكب وجناء, ولا يمنع شرف الغاية وجلال الرحلة من ظهور عاذل أو لائم أو لاح في طريق السالك نحو الفناء في الله المحبوب وتمنى البقاء به.

سيرة حياة

هو عمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل, مصري الدار والوفاة (576-632 هـ), أبوحفص وأبو القاسم, شرف الدين بن الفارض, نشأ في بيت علم وورع, واشتغل في شبابه بفقه الشافعية, أخذ الحديث وأُخذ عنه, ثم حُبّب إليه سلوك طريق الصوفية, فتزهّد وتجرّد, وجعل يأوي إلى المساجد المهجورة في خرابات القرافة بالقاهرة وأطراف جبل المقطم, جاء أبوه من (حماة) بسوريا إلى مصر, فسكنها وصار يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يدي الحكام, ثم ولي نيابة الحكم فغلب عليه التلقيب بالفارض.

وتعد المصادر التاريخية التي تناولت سيرة حياته والترجمة له قليلة مقارنة بغيرها من المصادر التاريخية التي تناولت حياة غيره من شعراء الصوفية, وقد يعود ذلك إلى أمرين: أولهما: الخلاف الذي دار حوله بعد رحيله, إذ مال فريق إلى تكفيره, وفريق آخر دافع عنه ونافح عن الطعن في عقيدته, وكلا الفريقين احتكم إلى شعره, فلم يُعرف لابن الفارض نتاج آخر في غير الشعر من الأجناس الأدبية الأخرى, لقد أخلص ابن الفارض نفسه للشعر فحسب, وعليه انصبّ استشهاد من أنكروا عليه مقاله فيه معتبرين ذلك زندقة وخروجاً عن العقيدة.

أما مَن دافعوا عنه, فقد رأوا - اعتمادا على النصوص أيضاً - أن باطن النص الشعري للمتأمل يقطع ببهتان الطعن في صحة عقيدة صاحبه, وأن خضوع شعر ابن الفارض لتأويل صحيح لا يخرجه فقط من زمرة الزنادقة, وإنما يضعه في منزلة عليا بين خاصّة المؤمنين والزهاد.

أما الأمر الثاني الذي يفسّر قلة المصادر التاريخية التي تُرجمت لابن الفارض: فيعود إلى طبيعة شخصية ابن الفارض نفسه, إذ كان جميلاً, حسن الهيئة والملبس, عليه سمة من هيبة ووقار. وكثير من الأحيان يكون ذلك الشموخ والهيبة في شخصية ما بمنزلة الحاجب الذي يحول دون قدرة الآخرين على اكتشاف دقائق وتفاصيل حياة الشخص, وفي ترجمة سبطه علي له, في مقدمة ديوانه, ما يشير إلى هذه السمة في شخصيته التي أسبغ عليها صفات أسطورية معجزة.

إن سيرة حياة ابن الفارض, تشكّل إضافة معرفية في تجربته الشعرية الصوفية, وتعين على فهم أعمق ودقيق لمعنى التجربة وخصوصيتها, فالجمع بين النص الشعري كمنتج جمالي, وبين سيرة حياة منتجة يضفي على الرؤية نحو التجربة شمولاً, ويمنحها خصوصية في إطار هذا التصوّر الكلي لملامح التجربة الشعرية, وإن كانت هذه التجربة عند ابن الفارض تخضع كغيرها من النصوص الشعرية للبعد الزماني والمكاني الذي أنتجت فيه, فإنها تتجاوز الزمان والمكان بمفهومهما الضيق المتعين في الواقع المادي, باتجاه زمان لا زماني, ومكان لا مكاني, إنها تجربة تبدأ من المحسوس المادي لتشق الحُجب وصولاً إلى ذلك المطلق المجرّد, كان ابن الفارض في أول حاله حين سلك الطريق, يخلو إلى نفسه في (وادي المستضعفين) بجبل (المقطم) باحثاً عن الحقيقة, وعن الحق, عن نفسه فيه, متدرّجاً من الرقي وصولاً إلى الكشف والمشاهدة, ويجدر بنا الالتفات إلى دلالة (وادي المستضعفين) في كنه مسمّاه على ضعف المتعبّد فيه, إذ يصبح الضعف سمة ملازمة للصوفي المتعبّد هناك, والذي يمثل ضعفه قوة روحية تزيده تحكّماً في نفسه وسيطرة عليها, ويكسب الصوفي بالضعف الحق ما يدفعه إلى السير قدماً, والصعود في التجربة السلوكية.

إن ابن الفارض في خلوته وانقطاعه عن الأغيار, ربما كان يرقب تلك اللحظة المحمّدية التي ما شهدها غير محمد صلى الله عليه وسلم حين هبط عليه (جبريل) يقرئه الكتاب.

وفي انقطاع ابن الفارض أعلى قمة الجبل في وادي المستضعفين كان ما يوحي بالمحاكاة ضمنياً وعملياً لتجربة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإلى هذا ذهب هنري كوربان في فهمه للتصوّف الإسلامي, حيث قال: (التصوف هو إثمار لرسالة النبي الروحانية, وجهد مستمر لعيش أنماط الوحي القرآني عيشاً شخصياً عن طريق الاستبطان, فالمعراج النبوي الذي تعرف به الرسول على الأسرار (الغيوب) الإلهية, يظل النموذج الأول الذي حاول بلوغه جميع المتصوّفين واحداً بعد الآخر).

وقت الفتح

ولايزال ابن الفارض يتبتّل ويتعبّد منقطعاً في خلوته بانتظار الفتح أياماً طويلة, وفي هذا يقول: (فحضرت من السياحة يوماً إلى المدينة ودخلت المدرسة السيوفية, فوجدت شيخاً بقالاً على باب المدرسة يتوضأ وضوءاً غير مرتّب, فقلت له: يا شيخ أنت في هذه السن في دار السلام على باب المدرسة بين فقهاء المسلمين, وأنت تتوضأ وضوءاً خارجاً عن الترتيب الشرعي? فنظر إليّ, وقال: يا عمر, أنت ما يُفتح عليك في مصر, وإنما يفتح عليك بالحجاز في مكة شرّفها الله, فاقصدها فقد آن لك وقت الفتح).

استشعر ابن الفارض من ردّ هذا الشيخ (البقال) أن لحظة الكشف والمشاهدة التي انتظر حصولها طويلاً قد اقتربت, فتوجه إلى مكة بالحجاز, حيث أقام فيها خمس عشرة عاماً تمثل مرحلة خاصة وجديدة في سيرة حياته. إن الانتقال المكاني من القاهرة إلى مكة واكبه تحوّل مواز في الوعي والمعرفة والسلوك, فقد صحب هذا التحوّل المكاني فتوح ومكاشفات, ومعارج, وأحوال, ومقامات وترقّ على مستوى التجربة الصوفية, وما نتج عن هذه المرحلة من تجربة شعرية, يذكر ابن الفارض ذلك في وصفه المرحلة المكيّة, وما تم له فيها من هبات:

يا سميري روّح بمكة روحي

 

شادياً إن رغبت في إسعادي

كان فيها أنسي ومعارج قدسي

 

ومقامي المقام والفتح بادي

إن (مكة) بداية الفتح الحقيقي والأنس والترقّي, فيها تمت له لحظة الوعي بالذات, فانغمس في بحر المعرفة الحجازية, والحجاز, وإن كانت على المستوى اللغوي تفيد معنى الحجاز الذي يحجز الشيء عن الشيء, فإنها في تجربة ابن الفارض لم تكن حجازاً بل كانت مجازاً ومعبراً استطاع بها أن يترقى في تجربته, وأن يتخطى الحواجز ويتعدّاها.

وتظهر الحجاز في تجربة ابن الفارض قرينة اللحظة الماضوية التي حصل بها للأنا الشاعرة الصوفية انفراج معرفي استطاعت من خلاله أن تخرج من الثوابت إلى نقيضها, فكان السؤال في هذه المرحلة أكثر حضوراً في شعره من الإجابة, إن صوت السؤال المدوي كان حاضراً باستمرار في تلك المرحلة, أما الإجابة فمتوازية مضمرة في السؤال, ويتجلى ذلك في قصيدته العينية, إذ السؤال فيها يتردد إحدى وثلاثين مرة ضمن خمسة وعشرين بيتاً هي مجموع أبياتها, وقد بدأ الاستفهام في الأبيات الثلاثة الأولى بـ(همزة الاستفهام) متبوعة بحرف العطف (أم) الذي يفيد المعادلة والتعيين لأحد الشيئين المسئول عنهما, كما تفيد همزة الاستفهام الأمر نفسه:

أبرق بدا من جانب الغور لامع?

أم ارتفعت عن وجه سلمى البراقع?

أثار الغضى ضاءت وسلمى بذي الغضى?

أم ابتسمت عمّا حكته المدامع?

أنشر خزامى فاح أم عرف حاجر?

بأم القرى أم عطر عزة ضائع?

يقول البوريني شارح ديوان ابن الفارض: (اعلم أن مثل هذا يسمى تجاهل العارف, لأن المتكلم يعلم حقيقة الحال ولكنه يتباله ويظهر من نفسه أنه جاهل بحقيقة الحال وليس كذلك, فكأنه يقول أدهشتني المحبة فلا أدري حقيقة الحال من جهة ظهور هذا النور, هل هو برق لامع قد ظهر من جهة الغور, وإلا فهو من لمعان نور وجه سلمى حيث ارتفعت عنه البراقع التي كانت ساترة لنوره, قال أبو يعقوب السكاكي: إن هذا النوع نسمّيه سَوْق المعلوم مساق غيره, ولا أحب تسميته بالتجاهل).

اكتمال الدورة

وبعودة ابن الفارض إلى مصر, وإلى جبل المقطم - تحديداً - مرة ثانية, تكون سيرة حياته أكملت دورتها التي بدأت من المقطم بالقاهرة, ثم الرحيل إلى مكة الحجاز, ثم العودة إلى المقطم والمكوث فيه إلى أن رحل إلى مثواه الأخير.

فجبل المقطم كموضع ومكان ارتبط بابن الفارض كما ارتبط ابن الفارض به, فصار قرين تجربته الصوفية, وكذلك مكة الحجاز المكان الذي حصل له فيه الفتح وكان دافعاً لاستمرارية التجربة الصوفية والتجربة الشعرية, فمن الحجاز استطاع ابن الفارض أن يحتجز تجربته الشعرية الصوفية حتى عاد إلى مصر, ليطالعنا بتائيته الكبرى (نظم السلوك) التي تعدّ من فرائد الشعر العربي, وكانت هي الأصل في تجربته الشعرية, وما عداها من قصائد بمنزلة الحواشي عليها أو هي المسودات الأولية للتائية الكبرى.

وهنا يطرح السؤال نفسه: ما العلاقة العضوية بين سيرة حياة ابن الفارض ومسيرة تجربته? إن الإجابة حول طبيعة تلك العلاقة بين سيرة الحياة ومسيرة التجربة الروحية هي المدخل الحقيقي لمعرفة مسيرة تجربته الشعرية الصوفية.

تجربة روحية

كانت تجربة ابن الفارض الشعرية نتاجاً مباشراً لتجربته الروحية. والمتأمل لمسيرة تجربته الصوفية, في علاقتها بسيرة حياته, يلمح ذلك التوازي العكسي بينهما, فالحياة وبداية النشأة كانت في مصر, أما بداية حصول الكشف والفتح عليه فكانت في مكة بالحجاز, وإن كانت بدايات سلوكه الطريق وانقطاعه للعبادة في جبل المقطم هي الإرهاصات التي أفضت بالتجربة الروحية الصوفية إلى الذروة في مرحلته الحجازية, التي يمكن أن نطلق عليها (طور الفتح).

وفيما يختص بتجربته الشعرية, فقد كانت وليدة تلك المرحلة الحجازية من تجربته الصوفية, أدرك ابن الفارض بعمق تجربته الإيمانية, وما أحدثه حصول الكشف والمشاهدة والفتح عليه من تحوّل روحي ومعرفي نوعي ومختلف, ضرورة الشعر كوعاء جمالي لغوي يمكنه التعبير من خلاله عن مكنون تجربته الصوفية, ولذلك فقد اقترن الشعر لديه بالتصوّف باعتباره يمثّل الصورة الظاهرية لباطن التجربة.

عاش ابن الفارض في الحجاز حالاً من التجرّد والابتعاد النهائي عن الكثائف الدنيوية متعلقاً باللطائف والفيوضات الربّانية والفتوحات اللدنية, حيث انقطع مخلصاً لعبادة الله بأودية مكة وجبالها, ويروي سبطُه عليّ - في ديباجة ديوان ابن الفارض - أنه لم يعثر على (عينية) جدّه إلا بعد أربعين عاماً أمضاها في جمع الديوان, ويذكر السبط الطريقة التي جمع بها العينية, والتي تدل على مدى صمود شعرية ابن الفارض أمام اختبار الشفاهية, واجتيازها محنة الكتابة المقيّدة, باستمرار ترديد ألسنة الناس لها في مكة لسنوات طوال, يقول سبطه عليّ: (وكان أهل مكة يعلّمونها أولادهم في المكاتب وينشدونها في الأسحار على المآذن).

تظل العلاقة بين التجربة الصوفية والتجربة الشعرية عند ابن الفارض هي ما تمنح نصوصه الشعرية تميّزها وخصوصيتها.

بعد خمسة عشر عاماً قضاها ابن الفارض زاهداً متعبّداً في أودية مكة بالحجاز, يعود إلى القاهرة, إلى المقطم مرة أخرى, وأخيرة, إنه الانتقال المكاني الذي يواكبه تحوّل أيضاً على المستوى العرفاني, إذ يفارق الحجاز ليس بوصفها مكاناً, ولكن بوصفها حالاً مختلفاً من التجريد والفتح, إلى حال من التجسيد وانقطاع الفتح, وهو التغيير الجوهري الذي يثير في نفس ابن الفارض مشاعر (اللوعة والحسرة على ما فات من أيامه مع أحبّته في الحجاز, وما أحسّه في ظلّهم من راحة قلبه وطمأنينة نفسه, وتوالي الكشف والإلهام عليه), ونلمس ذلك الإحساس الجارف بالحنين والشوق إلى (حاله) الحجازي في قصائده التي نظمها بعد عودته إلى مصر, ومنها قوله:

يا أهل ودي هل لراجي وصلكم

 

طمع فينعم باله استرواحا

مذ غبتم عن ناظري لي أنة

 

ملأت نواحي أرض مصر نواحا

وإذا ذكـرتكم أميـل كأنني

 

من طيب ذكركم سقيت الراحا

وإذا دعيت إلى تناسي عهدكم

 

ألفيت أحشائي بذاك شحاحا

سقياً لأيام مضت مع جيرة

 

كانت ليالينا بهم أفراحا

لقد شعر ابن الفارض في هذه المرحلة القاسية من تجربته بالغربة نتيجة ابتعاده عن مصدر الفتح الربّاني, وانقطاع المدد الإلهي الذي كان يحظى به في مرحلته الحجازية, فكان في حالة قبض مستمر, حيث جفّت الواردات وانتهت الأوراد:

نقلتني عنها الحظوظ فجذت

 

وارداتي, ولم تدم أورادي

آه لو يسمح الزمان بعود

 

فعسى أن تعود لي أعيادي

إن غربته كانت روحية بالأساس, بسبب انفصاله عن الموطن الذي اكتشف فيه وعيه المختلف بالوجود والله والحقيقة والعالم والذات, ذلك الانفصال الذي يتوازى مع انفصال الإنسان عن الله, عن عالم الأمر, (عالم الذّر), العالم الأول الذي كان متصلاً فيه بالله, وتمت القطيعة فور مجيء الإنسان إلى (الأرض), فإن كانت مكة - بهذا المعنى - تمثل ذروة اتصال ابن الفارض بالله, فإن القاهرة, بعد ذلك, تمثل ذروة انفصاله عنه, وما الحنين إلى مكة المكان, إلا حنيناً إلى حاله ومقامه في المكان.

البوح والكتمان

لم يكن البوح والإفصاح عن مكنون التجربة الصوفية, في شعر ابن الفارض, ببعيد عمّا سقناه سابقاً حول وحدة الأضداد في شعره المتمثلة في استخدامه تلك الاثنينيات المتقابلة في جدلية الخفاء والتجلي أو البوح والكتمان في اللغة الشعرية الصوفية, التي نظر إليها ابن الفارض كوعاء جمالي يحمل تجربة أشد خصوصية من التجارب الشعرية الأخرى, تجربة ينبغي ألا تنكشف أسرارها لغير الخاصة من أهل الطريق, تعتمد على فكرة أن اللغة إن أفصحت أخلّت, وفقدت جلالها الذي هو سرّ جمالها في شعرية ابن الفارض.من هنا, نجد ابن الفارض كغيره من شعراء الصوفية مال إلى استخدام اللغة في بعدها الرمزي الإشاري, ولكن ذلك لم يمنعه من التناص بنائياً مع البنية التقليدية للنص الشعري الجاهلي التي تبدأ بالوقوف مروراً بكل أغراض الشعر العربي التقليدي, إذ لم يكن ابن الفارض معنياً كغيره من شعراء الصوفية بإحداث ثورة على عمود الشعر العربي, أو القيام بثورة شكلية ما في الشعر, لقد كان معنياً بما يحمله الوعاء من أسرار ومضامين خاصة, لا بمساءلة الوعاء والتمرّد عليه, فهو لديه (ثورته) الباطنية الخاصة التي تملك عليه زمام أمره جميعه, وما الداعي إلى التمرّد على الشكل مادام يلقى قبولاً واستحساناً لدى الذائقة العربية في إطار ثقافتها العامة آنذاك? وخاصة إذا نظرنا إلى ما يلعبه الشعر العربي - وقتئذ - من دور مركزي عال إعلامياً, كان الصوفيون يحتاجون إليه, لقولبة تجربتهم الصوفية, والحفاظ عليها كشاهد على حالة روحية فردية, تشكّل قطيعة نظرية مع نمطية السائد شعرياً.

أما من ناحية المضامين الشعرية الصوفية, فقد استخدم الشعراء الصوفيون, ومنهم ابن الفارض, بالطبع, بعض السمات الفنية للشعر الغزلي العذري, وقد ذكرنا تلك السمات مؤكدين على استخدامها لغاية مختلفة عند الشاعر الصوفي نظراً للاختلاف بين مفهوم الحب الإنساني الذي تكون (امرأة) ما موضوعاً له, ومفهوم الحب الصوفي الذي يكون (الله) موضوعاً له, ولم يكن استخدام بعض ثيمات الشعر العذري إلا قناعاً ضمن أقنعة أخرى عديدة, وضّحناها, لجأ إليها الشاعر الصوفي في مواجهة القانون الذي يحكم أفق الثقافة الدينية العربية الرسمية.

 

عباس يوسف الحداد