معجزة نصف المخ علاء غنام

معجزة نصف المخ

إن المخ البشري بخلاياه العصبية التي تصل إلى البلايين ما زال يعد الشيء الأكثر تعقيدا في الطبيعة المعروفة للحياة، ولأنه يمثل جوهر ما يجعلنا بشرا فلم تضارعه بعد أية آلة اخترعها الإنسان. في الماضي كان أرسطويعتقد أن مركز التفكير يقع في القلب وأن المخ يساعد فقط في ضبط وتهدئة الجسد.. ولكن في السنوات الأخيرة تعلمنا أشياء كثيرة عن المخ بفضل التكنولوجيا التي سمحت للباحثين برؤية داخلية، ومعرفة لوظائفه على المستوى الخلوي، أو تحت الخلوي.

عندما نصح بن كارسون جراح المخ والأعصاب الشهير في مستشفى جون هو بكنز في بالتيمور بعملية لإزالة نصف المخ الأيسر لطفل اسمه (مات) لعلاجه من التشنجات العصبية الحادة والارتعاشات الكهربائية التي كانت تعوق وظائف المخ بعدما فشل العلاج الدوائي في مواجهة هذه التشنجات لدرجة قاتلة، حيث كان التشخيص العلمي (التهاب مخي من نوع يسمى راسميوس)، عندما فعل كارسون ذلك كان يعرف جيدا أنه يمارس أرقى تكنولوجيا جراحية ممكنة لعلاج حالة ميئوس منها، وكان يتصور أن الجزء الخالي من الجمجمة سوف يمتليء بالسائل النخاعي بسرعة مثل ملعقة شاي كل خمس دقائق حتى يمتلئ تماما. وكان يعرف أيضا أنه من الممكن أن تؤدي العملية إلى إغماء كامل أو الموت أو الشفاء ولم يكن يستطيع أن يخمن كم من الطفل سوف يتبقى عندما تذهب نصف قشرته المخية !

إزالة نصف المخ

برغم أن عمليات إزالة نصف المخ قد أجريت منذ عام 1940 فإنها نجحت مع قليل من المرضى، وهذه العملية قرر الجراح ضرورة إجرائها بسبب التقدم الهائل في رؤية المخ عن طريق تصويره بالأشعة المقطعية وبسبب التقدم الطبي الذي يساعد على منع ومقاومة النزف. وتجرى سنويا في الولايات المتحدة الآن العشرات من عمليات إزالة نصف المخ، وغالبا ما تكون علاجا للالتهابات المخية من نوع (راسميوس)، إضافة إلى بعض أنواع الصرع التي تدمر القشرة المخية.

ولقد نجحت العملية وبدأ (مات) في تدريبات مختلفة على أنشطة الحركة والكلام لمواجهة الواقع الجديد، مما أثبت أن للمخ مرونة مذهلة يسميها العلماء (بلاستيكية).

وتؤكد هذه الحقيقة الدراسات المخية التخيلية التي نفذها (هاري ت. شوجاني) بمستشفى ديترويت الذي يفترض أن إنتاج طوفيات الدماغ تزداد بعد الميلاد، وتظل في زيادة من سن الرابعة حتى عشر سنوات فيصبح مخ الطفل في هذه السنوات قادرا على عمليات اتصالية مذهلة أكثر مما لدى البالغ ! مما يجعله يستخدم ضعف طاقته المخية (لذا يقول المثل الشائع التعليم في الصغر كالنقش على الحجر) وهذا ما أكدته حالة الطفل (مات) والحالات المشابهة التي تظهر أن للمخ قدرة غير عادية، وهي ما تسمى بالقدرة البلاستيكية. وهذه البلاستيكية هي التي ستعيد تعريف المفاهيم الأساسية لعمل الدماغ. فالمعروف أن الجانب الأيسر للمخ للشخص ذي اليد اليمنى (اليمين) - وهذا بالتحديد ما أزيل في حالة الطفل مات - يختص بالتعامل مع الموسيقى، الشعر، والرياضة، ومع ذلك في حالة الطفل (مات) يستمتع بدروس البيانووالرياضيات وهي تعد أقوى مواده الدراسية إجادة ! وبطريقة ما رحلت المعلومات والقدرات لديه من جانب من المخ إلى الجانب الآخر.. !

برغم أن هذا التحول يبدومتعارضا مع البيولوجية الطبيعية - فهل يعني ذلك أن ثمة اتصالات غير مكتشفة بعد، أو أن كل جانب له قدرة غير ظاهرة تستطيع أن تنجز وظائف الجانب الآخر ؟.

الأبحاث الحديثة تؤكد أن القدرة على التحول تكون أعلى فيما قبل البلوغ خلال سنوات دورة النمو ، والمعروف أن كل جزء من الجسم يتصل بالقشرة المخية، فلمس الأشياء باليد اليسرى على سبيل المثال يستثير جزءا خاصا في القشرة المخية اليسرى، وراء هذا من القشرة المخية - ولأسباب غير معروفة - توجد صلة بين هذه المناطق وفتحات الأنف.

وقد سجل أن رجلا بعد أن تمت له عملية بتر بيده أحس تنميلا مكان البتر، وقد وضع الباحثون بضع قطرات من الماء الدافيء تحت أنفه. والواقع يبدو أن جزءا من القشرة المخية يتصل بفتحات الأنف التي بها مساحة تستقبل عليها إشارات من أصابعه التي بترت ! وبالمثل فإن صورة مقطعية لمخ إنسان كفيف يقرأ بطريقة (برايل) بلمس الأصابع، تظهر لنا أن أصابع المكفوفين القارئة تؤثر في جزء أكبر من القشرة المخية مما تغفله أصابع المبصرين ! إنها القدرة والمرونة البلاستيكية للمخ ويعتقد أن الاستخدام المتزايد لهذه الأصابع يحفز على اهتداء تأثيرها إلى حدود مجاورة أخرى في القشرة المخية.

إن نظرية عالم النفس وليام جيمس التي أطلقها منذ عام 1960، تصور أننا نستخدم 15% فقط من المخ، وعملية مثل التي أجريت للطفل (مات) تظهر لنا صحة هذا الأثر وتظهر لنا أن جزءا كبيرا من المخ لا يستخدم كما يجب وسوف يفاجيء (مات) أصدقاءه بعد عشر سنوات من الآن أن به نصف مخ فقط. إن مقاومة (مات) لحالته تبدودرامية، كما أن تقدم المعلومات عن دور المخ وهيكله الفيزيائي في الأعصاب أو الإصابات العضلية يجب أن يغير مفاهيم كثيرة حول هذه الأمراض مثل الاكتئاب والاكتئاب الهو سي.

جغرافية الدماغ

في كتابات أبقراط قبل القرن الرابع الميلادي أن الجنون يأتي من الرطوبة الزائدة في المخ. وربما كان حدس أبقراط صحيحا إذا فحصنا صورة لأشعة مقطعية لتوأمين أحدهما مصاب بالفصام على عكس الآخر.. والطب قديما كان يعتقد أن أربعة عوامل تؤثر في الصحة هي الأرض والنار والهو اء والماء. وهذا الاتجاه في التفكير والبحث أو جد أنواعا جديدة من الأدوية التي تؤثر على كيمياء الدماغ. ولكن لا يزال الإنجاز المتواصل الذي يحققه العلماء واضعوالخرائط الجغرافية للدماغ يتطلب المزيد من الجهد، فهناك مثلا أحد الجينات يعطي أنزيما يسمى Amodo Amino Oscidue ، وهو يساعد خلايا المخ على الترابط، ولكن في حالة بعض الجينات غير الطبيعية لا تنتج مثل هذا الأنزيم بالقدر الكافي ولظروف وراثية، لذلك تتجمع بعض المواد الكيميائية الأخرى التي تؤثر في الخلايا العصبية، وكنتيجة لذلك - ودون سبب معروف - يتصرف هذا الشخص بعنف تجاه تعرضه لأي ظروف ضاغطة ولذلك فقول (كان بيرفي) عالمة الصيدلة في هذا المجال: "لقد تعلمنا جميعا أن الفواصل أو المسافة بين اثنين من الألياف الوحيدة (Neuron) تكون ثابتة وفاصلة ولا تتغير. والآن قد اكتشفنا أن هناك شبكة اتصالات تعمل عن طريق مناطق استقبالReceptors وعن طريق المواد الكيميائية التي تحمل بالمعلومات من وإلى الخلايا العصبية. وتجري هذه الاتصالات بين الخلايا عن طريق تفاعلات كيميائية وكهروكيميائية.. وعندما نحاول أن نعرف كيف يؤثر المورفين على المخ، نجد أن ثمة نيوروبياند - وهي سلاسل من الأحماض الأمينية تسبح خلال الجسم كله - تستطيع نقل المعلومة أو تحويلها عن طريق الترابط فيما بينها أينما وجدت لها أجهزة استقبال Receptors مناسبة وهذه التفاعلات غير العادية تنبض من خلالها الأحاسيس.

ومن خلال التجارب ثبت أن الحث أو التنبيه الكهربائي لمناطق محددة على القشرة المخية يعمل على إثارة العواطف والأحاسيس، لكي تحسها المناطق التي تمتليء بهذه المواد الكيميائية المسماة (نيوروبياند) وقد اكتشف حوالي ستين نوعا منها.

وإذا أفزعنا ذلك وتساءلنا: هل السعادة.. الحزن.. الحب.. إلخ.. كيمياء وحيوية هزت العالمة رأسها: نعم... نعم بكل أسف !

فهذه المواد تفرز في كل الجسد وحتى المعدة وذلك ما نسميه (الإحساس المعوي) فالعقل إذن ليس فقط في الدماغ، ولكن بين الاتصالات العصبية خلال أنسجة المخ وفي الغدد وفي الجهاز المناعي. إن بعض هذه الحقائق قد لا تكون جديدة، فتدفق المواد الكيميائية (وإفرازها) بين أنسجة الجسم المختلفة والمخ تبدوكفكرة متشعبة (متداخلة)، فمنذ أربعة آلاف عام اعتبر الطب الصيني أن التحكم في المخ (السيطرة عليه) يكون عن طريق الأعضاء الأخرى كالكبد والطحال والرئتين أو الكليتين.. فهذه الأعضاء تتداخل أو تترابط فيما بينها - كما يقول الطب الصيني - عن طريق قنوات من الطاقة والتي تمثل أساسا للعلاج كما في حالة الإبر الصينية مما يؤكد بلاستيكية الدماغ وبالمثل بدأ العلم الحديث في دراسة الروابط بين حالة المخ والجهاز النخاعي ولكن أيضا هي عودة إلى الفلسفات الشرقية، التي نجد أنها تربط بين الحالة العقلية (الذهنية) والصحة، فيقول كتاب الحكمة إن للقلب السعيد أثرا يماثل الدواء والطب، في حين أن النفس المتألمة تؤدي إلى آلام الجسد. إنها إذن عدة معجزات حقيقية للمخ (الدماغ) وبالتفوق الطبي المتزايد، وربما بأعظم هذه المعجزات: أي القدرة الدافعة كالحب هي في مجموعها تشكل أساسا لحقبة قادمة نحن على أبوابها.

 

علاء غنام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




قراءة المخ عبر أقطاب تلتقط موجاته الكهربية





سبر أغوار المخ بالأشعة الكمبيوترية الحديثة





أداء المخ لحظة بلحظة عبر آلاف من صور الأشعة المقطعية