زمن الثورة الزرقاء إبراهيم عبدالله العلو

زمن الثورة الزرقاء

لقد قدحت حضارة الحاسوب والتطور التقني المتسارع مولد علم جديد يبشر بزراعة البحار وجني ثمارها من أطايب الطعام.

وهذا العلم هو علم الزراعة المائيةAquaculture ونعني به الإنتاج المنتظم للنباتات والحيوانات في البحيرات والبرك والمحيطات والأنهار وهو الامتداد المنطقي لترويض الإنسان لبيئته.

والزراعة المائية بحد ذاتها ليست وافدا "جديدا" إلى علم الإنتاج الزراعي، فزراعة الأسماك بدأت قبل آلاف السنين في الصين ومصر، حيث قدمت الأسماك المرباة في البحيرات والبرك مع البط مصدرا "أساسيا رخيصا" من مصادر البروتين. وثمة حكمة صينية تقول: "عندما تطعم فقيرا سمكة فإنك تقيه من الجوع ليوم واحد وعندما تعلمه تربية الأسماك فإنك تبعد عنه غائلة الجوع مدى الحياة".

تشمل زراعة الأسماك سمك الترويت والسلمون والمحار وسمك القط والكارب والمشط والبوري وغيرها، ويبلغ حجم الإنتاج العالمي من المزارع السمكية ما يقدر بـ 6 ملايين طن سنويا.

الزراعة على الماء

هناك عدة أسباب تساعد على ازدهار الزراعة المائية فالأسماك بحد ذاتها "مصدر محدود" عرضة للاستهلاك والنضوب، ويعتقد أن المحيطات توفر ما بين 100 إلى 150 مليون طن سنويا من الأسماك ويقدر بعض العلماء حجم الصيد العالمي لعام 2000 بحدود 94 مليون طن. ولكن أعداد بعض الأنواع مثل السمك المفلطح والرنكة وجراد البحر والأنشوقة والحفش قد تناقصت إلى مستوى يقرع ناقوس الخطر. وتعتبر الأغذية البحرية "مصدرا غذائيا رخيصا" - في بعض الدول - من مصادر البروتين وتحتوي على كمية أقل من الكولسترول تجعلها أكثر جاذبية من الناحية الصحية.

وتستخدم الزراعة المائية الماء بفعالية أكبر تفوق أي استخدام زراعي آخر للماء ويمكن استعمال المياه المترعة بالفضلات فيما بعد لري المحاصيل.

ويقول الدكتور جون بارداش من جامعة هاواي إنه بتوافر المادة والطاقة يمكن إنتاج مخلوقات بمعدلات وأحجام مرتفعة، ولكن تكاليف الإنتاج العالية لا تزال العقبة الأساسية الماثلة أمامنا.

تظهر المصاعب عندما يحاول العلماء اعتراض دورة الحياة الطبيعية للحيوانات المائية التي تمتلك مراحل نمو معقدة، فالمورد المحدد من البيوض يتطلب تحكما بالتزاوج ويفتح الباب على الانتقاء الوراثي، الذي قد يضاعف من معدلات النمو والخصوبة ويمنح مقاومة عالية للأمراض. مثل بعض هجائن المحار المرباة في مزارع واشنطن.

تقدر تكاليف العلف بنصف كلفة الإنتاج الكلية ويحاول علماء التغذية - باستخدام الحاسوب - موازنة عشرات العوامل التغذوية لإيجاد علائق رخيصة يمكن تشكيلها من مواد متوافرة محليا، ويتوجب على الحاسوب تحديد أدنى كمية من البروتين الرخيص اللازم لإنتاج الأسماك. ولا يخفى أثر التغذية الملائمة على عامل متبدل آخر وهو الأمراض. إذ تبين أن مرض الموت الأسود الذي اكتسح مزارع الروبيان كان ناجما عن نقص في فيتامين "ث" وكلما ازدادت كثافة الأسماك أو القشريات المرباة أصبح مورد الأو كسجين المتوافر في الماء أكثر حساسية، مما يفرض عليها ضغوطا واجتهادات جمة. وفي مثل تلك الظروف قد يقضي المرض على محتويات البركة أو البحيرة في غضون ساعات قليلة، وعندما ترفع درجة حرارة المياه التي يسبح فيها جراد البحر يمكن تقليص فترة التربية اللازمة لجراد البحر من 5 - 7 سنوات إلى ما دون ثلاث سنوات.

وتستخدم تقنيات الزراعة المائية لإعادة تزويد المصائد الداخلية بصغار الأسماك مثل محاولات إكثار وإنقاذ بعض الأنواع المستنفدة مثل سمك الحفش.

ويقوم العلماء في جامعة كاليفورنيا بتربية أصبعيات الأسماك في أحواض وتحريرها في الأنهار لإعادة التوازن للمجموعات الطبيعية التي تعرضت للصيد الجائر والتلوث البيئي وسد مناطق التفريخ الاعتيادية وبالطبع لا يمكن أن ننسى رعي سمك السلمون للبحار والمحيطات إذ تهاجر أسماك السلمون من أماكن التفريخ في المياه العذبة إلى المحيط حيث تتغذى على الغذاء الطبيعي المتوافر ثم تقفل عائدة إلى مواضع التفريخ.

وقبل سنوات عديدة دعا العلماء إلى استثمار غريزة العودة إلى مواطن التفريخ لدى أسماك السلمون، بعد أن تصل إلى حجمها البالغ. إذ تنتقل أصبعيات السلمون من المفارخ إلى الساحل، حيث توضع أولا في بحيرات من مياه البحر وتنغرس فيها صورة عن محيطها. وبعد أن تتحرر في المحيط ترعى لمدة تتراوح ما بين سنة وأربع سنوات ثم تعود الأسماك المتبقية إلى البحيرات التي انطلقت منها، حيث انغرست رائحتها في أدمغتها ويتم صيدها هناك.

وإذا عادت نسبة تتراوح ما بين 1-2 % من الأسماك المرسلة فإن ذلك يوفر هامش ربح مقبولا للمستثمر. ولا يخفى أن رعي السلمون للبحار يفيد الجميع، إذ إنه يزيد من أعداده التي تتوافر للصيادين ولكائنات بحرية أخرى ولكن البعض يرفع علامات تحذير. فمنهم من يقول إن الأصناف المولدة اصطناعيا قد تطغى على الأصناف الشائعة أو تتزاوج معها، ومنهم من يخشى أن السلمون المحرر قد يخفض من التنوع الوراثي الذي يمنح المجموعة حيويتها وربما استنفدت الأعداد الكبيرة من السلمون سلسلة الغذاء الطبيعية في المحيط.

وتحت الماء

لا تكتفي الثورة الزرقاء باستثمار الحيوانات، ولكنها تتجه لاستغلال النباتات أيضا. ومن بين الخطط المستقبلية الواعدة اقتناص الطاقة الشمسية عبر مزارع غذاء وطاقة عملاقة. ففي السبعينيات ابتدع الدكتور هو ارد ويلكوكس فكرة استزراع عشب البحرKelp في مياه البحر وتحويله إلى علف للحيوانات وميثان للوقود. ويقول ويلكوكس إن مساحة 45 ألف هكتار من عشب البحر أسفل السطح سوف توفر ما يكفي من الغذاء والمواد الكيماوية والوقود على شكل ميثانول وإيثانول لتلبية احتياجات مدينة يسكنها 50 ألف نسمة، وبعكس النباتات الأرضية لا يتطلب عشب البحر جذورا لامتصاص "الغذيات" وبدلا من الجذور يمتلك عشب البحر شبكة من النمو ات الشبيهة بالسويقات التي تعرف بالمثبتات Holdfast التي تلتف حول أي سطح صلب، ويقوم النبات باستخلاص الغذيات في مياه البحر.

وقد تنمو جدائل العشب حتى طول 70 مترا وتعكس أو راقها المطاطية الداكنة غطاء لتجميع أشعة الشمس، عبر شرائح واسعة من المحيط وتنتقل الطاقة الشمسية التي امتصها اليخضور إلى الساق عبر عملية لا تزال مبهمة تسمى الانتقالTranslocation بينت مزرعة اختبارية صغيرة على هذه الشاكلة على خليج كاليفورنيا. وفي هذه المزرعة التي تبلغ مساحتها نصف هكتار يوفر بنيان بوزن 25 طنا على هيئة مظلة مقلوبة رأسا على عقب الهيكل الذي تربط إليه نباتات عشب البحر. وعند المحور توجد وحدة ضخ وأنبوب طويل يغمر حتى عمق 500 متر ليسحب الماء من الطبقات الغنية بالغذاء ويرشها على نباتات عشب البحر. ويعتمد النجاح النهائي للمشروع على الناتج الممكن تحصيله من نباتات عشب البحر السريعة النمو .

ويتساءل بعض العلماء عن إمكان زرع نباتات عشب البحر السريعة النمو في المياه المفتوحة بلا حماية. يقول الدكتور ويلر نورث من معهد كاليفورنيا للتقنية إن الفكرة تبدوواعدة من الناحية التقنية، ولكن الأمواج العاتية قد تجدل النبات في الهيكل وتعيق نمو ه. أما النتائج الأولية لإنتاج الميثان فتبدومشجعة للغاية فعشب البحر هو الغذاء المفضل لبعض أنواع البكتيريا، وعندما يقطع ويطعم لمستعمرات من هذه الكائنات الدقيقة فإنها تحطم العشب وتحوله إلى غاز طبيعي. وفي البداية ظن العلماء أن المحتوى المرتفع من الملح والمياه سوف يعوق التحلل الناجع من قبل البكتيريا ولكن كمية الميثان المنتجة فاقت التوقعات، إذ أمكن توليد 5 أقدام مكعبة (0.14 م 3) من الغاز الطبيعي من نصف كيلوجرام من العشب. ويقول بعض العلماء إن مزرعة لعشب البحر بطول 750 كم تستطيع إنتاج ما يكفي من الميثان لتلبية احتياجات الولايات المتحدة الأمريكية من الغاز الطبيعي، ولكن ويلكوكس يحذر من أن مثل ذلك المشروع - وإن كان ممكنا من الناحية النظرية - قد يكون ذا تأثيرات بيئية خطرة، لأنه يغطي مساحة واسعة بالطحالب.

يقوم الدكتور جون رايثر من معهد وودز هو ل بإجراء التجارب على السرجس Sargassum وهو العشب البحري العائم في بحر ساراجاسووهي منطقة في وسط المحيط الأطلسي، وترتكز فكرته على إيجاد مزرعة دائرية عملاقة من خلال تغطية منطقة واسعة بالسرجس ويمكن ضخ العشب البحري عبر خطوط من الأنابيب إلى وحدة تحويل الميثان، ثم يعاد استخدام البقايا الناجمة من عملية تحويل وضخها لتسميد الأجزاء النامية من المزرعة. ومن النباتات المائية ما يمتلك مقدرات مذهلة حيث تزدهر على الملوثات بما في ذلك المواد السامة والمعادن الثقيلة. إذ استخدمت الياقوتية المائية Hyacinth لتنقية مياه الصرف في عدة مدن. يتألف نظام معالجة المياه الطبيعي من سلسلة من عدة أحواض مغطاة بالياقوتية العائمة ونوع آخر يسمى الطحلب البطي.

ويغطي هيكل ذوغطاء مزدوج السطح برقائق بلاستيكية تحتجز الحرارة، تقوم الياقوتية باستقلاب غذيات المياه الملوثة والمركبات السامة والمعادن وخلال ستة أيام يصبح الماء نقيا قابلا للشرب.

لقد كان حقل الزراعة المائية حتى عهد قريب فنا أكثر منه علما، ولكنه بدأ ينطلق ويقوى على الرغم من المصاعب والعواقب التي تعترض طريقه.

ومما لا شك فيه أن الزراعة المائية تقدم إسهاما مهما في موارد الأسماك خاصة أسماك المياه العذبة، أما بعض السيناريوهات المستقبلية فقد تبدوضربا من الخيال اليوم، لكنها قد تصبح حقيقة مألوفة في يوم من الأيام.

 

إبراهيم عبدالله العلو 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




جراد البحر المسمن في أحواض صغيرة منفصلة





سمك الحفش الذي تناقصت أعداده بسبب الصيد الجائر





أصبعيات الحفش المرباة في المفارخ الاصطناعية التي تحرر في الأنهار





إحدى مزارع الروبيان في المكسيك





مزرعة اختبارية لعشب البحر على مساحة نصف هكتار