قلب شجاع عماد النويري

قلب شجاع

وصناعة الأفلام (الأوسكارية)

"خلف كل فيلم أشارك فيه توجد فكرة ما. لا بد أن تكون شريفة ونبيلة"، هكذا يعتقد الممثل والمخرج ميل جيبسون ، وهذه أول عناصر النجاح، فمن المهم أن يؤمن الفنان بفكرة ما، ومن المهم أن تكون شريفة ونبيلة. وبرغم أنه يعتبر واحدا من رموز سينما العنف من خلال سلسلة أفلامه (ماكسي المجنون) و(السلاح القاتل)، فهو لا يتوانى كل لحظة عن الإعلان: "أفلامي لا تصنع العنف ولا تكرس له، ولا يوجد أشد تأثيرا من إدارة هزيلة لكي يوجد العنف في مجتمع ما".

من حق جيبسون أن يصرح كما يشاء. وليس بالضرورة أن نتفق مع كل ما يقول.

أصبح جيبسون ممثلا بالمصادفة إذ كان يطمح إلى أن يصبح طباخا أو صحفيا وكان النجاح من نصيبه منذ البداية، فبعد عامين على تخرجه عهد إليه المخرج الأسترالي جورج ميلر بدور البطولة في فيلم (ماكسي المجنون) 1979 الذي تجري أحداثه في زمن مستقبلي، وعرف الفيلم نجاحا عالميا واسعا كان يعتبر انطلاقة تبعها تصوير جزأين آخرين قام جيبسون أيضا ببطولتهما. وفي عام 1982 . قدم (سنة العيش في خطر)، ولعب دور صحفي يعيش وقائع الانقلاب الذي أطاح بالزعيم الأندونيسي سوكارنو في عام 1965 . ومع فيلم (السلاح القاتل) أصبح جيبسون بطلا سينمائيا شعبيا حيث لعب دور شرطي ذي نزعة انتحارية، ونتيجة لنجاح الفيلم تم تحقيق أجزاء أخرى منه عامي 1989 و1992. وقال عنه داني جلوفر الذي شاركه البطولة في الأجزاء الثلاثة من (السلاح القاتل): "ميل قريب جدا من الآخرين وصادق وحساس". وقال عنه المخرج الإيطالي زيجريللي : "على كل من يريد أن يكون نجما سينمائيا قادرا على تحمل المشاق أن يكون مثل جيبسون ".

من ممثل إلى مخرج

لماذا اتجه جيبسون للإخراج وهو ممثل ناجح لا ينقصه الاعتراف ولا تنقصه الشهرة: "أجد أنني فعلت أشياء كثيرة لم أكن راضيا عنها، ومن هذه الأشياء بعض الأعمال التي تمنيت لوأصنعها من جديد ما دمت أملك القدرة على ذلك". وكان فيلمه الأول الذي قدمه كمخرج هو (رجل بلا وجه) 1993: "كانت مخاطرة كبيرة" لكن: "فور الدخول إلى العمل كان الخوف يتلاشى". ولأن الفيلم تمكن من تحقيق بعض النجاح كان له - جيبسون - أن يخوض تجربته الثانية: لكن هذه المرة زاد الطموح واتسعت رقعة الأحلام، وتوافر للطموح فكرة نبيلة (أو عناصر النجاح)، وتجسدت الفكرة في قصة بطل أسطوري أسكتلندي الجنسية كان يعيش في فترة العصور الوسطى المظلمة في القرن الثالث عشر. إلا أنه يحمل عقلا مستنيرا وروحا تواقة للحق، وقلبا ينبض بالحب للحبيبة وللإنسان وللوطن. وكان لهذا البطل ويليام والاس أن يثور ثورته الكبرى عندما قتل الإنجليز حبيبته.

اللغة السينمائية

العنصر الثاني الذي تفاعل في بوتقة جيبسون الفنية لكي يصنع نجاح الفيلم هو القدرة على استخدام مفردات اللغة السينمائية، فقصة مثل قصة والاس بطولية تاريخية ملحمية لا بد أن تتوافر لها أزياء توحي بالفترة التاريخية، وألوان تعبر عن روح الأمكنة ولقطات عامة تصور تحرك الناس عندما يستمدون قوتهم من بطلهم المغوار، ولقطات قريبة تصور انتفاضات الروح في لحظات المكاشفة (المشاهد التي تجمع ويليام مع حبيبته) ولا بد أن يكون هناك أيضا بعض اللقطات المتوسطة ذات النقلات السريعة لتتلاءم مع مشاهد المعارك التي شاهدناها على مدار الفيلم.

في (قلب شجاع) نحن إذن بصدد كتابة سينمائية استطاعت أن تجعلك مشدودا لمتابعة الأحداث، وذلك من خلال التنقل السلس من مرتفعات الحزن إلى سهو ل الفرح، ومن الأماكن المغلقة إلى الأماكن التي تمتد بامتداد البصر. نحن إذن (مرة أخرى) بصدد صورة مشهدية ديناميكية تلعب فيها حركة الممثل دورا كبيرا، ممثل يجسد دوره دون زيادة في الانفعال: ميل جيبسون في دور ويليام، وباتريك ماكوهان في دور إدوارد الأول وصوفي مارسو في دور زوجة الابن، و3000 كومبارس لا يتحركون بعشوائية، وإنما يتحركون طبقا لأو امر مخرج يعرف جيدا كيف يقود المجاميع.

وهنا إشارة إلى أداء جيبسون المقنع الذي لا يكتفي بدراسة مكونات الشخصية النفسية والاجتماعية، وإنما نتابع ممثلا له باع طويل في تجسيد مثل هذه الشخصيات الأسطورية التي تجمع بين الواقع والحلم، وبين الحقيقة والخيال.

وغير حركة الممثل هناك أيضا حركة الموضوع المتمثلة في خروج الشخصيات ودخولها إلى الكادر، في التفافها حول نفسها أو حول الآخرين، في التحامها مع بعضها في المعارك أو في فرارها من ساحة الحرب، وهناك حركة الطبيعة المتمثلة في أضواء المشاعل المتحركة وغبار المعارك وسحابات الدخان الكثيفة. طبعا كل هذه الحركات تساهم في تقديم لقطة فيلمية عامرة مما يزيد من قوة التعبير.

انتقال الزمن

وغير نبالة الفكرة والقدرة على تجسيدها سينمائيا فإن ثالث عناصر النجاح يكمن في قدرة الفيلم على الإيحاء بأجواء الحدث. وهذا الإيحاء لا يصنعه الاختيار الموفق للأزياء مثلا، ولا يخلقه نجاح الممثل في تجسيد الشخصية (طبعا هنا لازم)، إنما نجاح أي فيلم يعتمد كثيرا على قدرته في نقل المشاهد من اللحظة الآنية لكي يعيش في الأجواء التي يتحدث عنها الفيلم.جاح (قلب شجاع) الحقيقي متمثل في انتقالنا للعيش في إسكتلندا القرن الثالث عشر، وفي مصاحبتنا لويليام طوال الفيلم. وخلق الأجواء هذا لا يصنعه إلا سينمائي مقتدر يعلم أن هناك أهمية كبرى للتفصيلات الصغيرة، فمن العادي مثلا بل ومن المألوف في الأعمال الدرامية التاريخية العربية، أن تجد أن موديل السيارة عام 1980 برغم أن الأحداث تدور في الثلاثينيات، ومن المألوف أن ترى عباءة الجندي وقلنسوته تنتميان إلى العصر اليوناني برغم أن الأحداث تدور في عصر الدولة الأموية. طبعا هناك استثناءات. لكن لن يحدث في يوم من الأيام أن تكتشف أن الصندل الذي ينتعله ويليام في (قلب شجاع) ينتمي إلى العصر الروماني، ولن يحدث أيضا أن تكتشف أن نوعية السيوف المستخدمة تعود إلى العصر الحجري الأول.

إن الأفلام تقترب من العالمية، وتقترب من الحالة (الأو سكارية) كلما استطاعت أن تكون في صنعتها مقنعة وموحية، ولفعل ذلك فإن هناك فرق عمل متخصصة تسهر الليالي لجعل الأفلام قادرة على خلق الأجواء: هناك فريق عمل مهمته البحث التاريخي لمعرفة تفاصيل الفترة التي كان يعيش فيها البطل ويليام والاس، وهذه التفاصيل لا بد أن تخوض في الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لإنجلترا واسكتلندا القرن الثالث عشر، وهناك فريق عمل مهمته البحث اللغوي لمعرفة كيف كان ويليام يتحدث، وكيف ينطق الحروف. وهناك فريق عمل ثالث مهمته تصميم أزياء تنتمي فعلا لفترة أحداث الفيلم. وهناك فريق عمل رابع مهمته البحث الضوئي أي قياس كمية الضوء في كل مكان ستجري فيه الأحداث مع مراعاة تناسب هذه الكمية مع المكان وأيضا مع الزمان. وهناك فريق خامس وسادس وسابع، ويتحرك كل فريق ليهتم بتفصيلة أخرى من التفاصيل الكثيرة.

لكن هل يكفي أن يستند الفيلم إلى قصة تاريخية أو أن تتحلى القصة بنوع من (النبالة) وأن يتوفر لإخراج الفيلم واحد من المخرجين المقتدرين، لكي يحصد الفيلم جائزة الأو سكار.

طبعا هناك أشياء لا بد من توافرها لكي يكون الفيلم فيلما ! وبغض النظر عن الجوائز لا بد أن تتوافر للأفلام لغة صورة ولغة صوت، لكي تكون موصلة لكن ليس شرطا أن يعتمد الفيلم على قصة تاريخية. غير أنه من المؤكد أن قوة الموضوع تلعب دورا كبيرا في ترشيح أي فيلم للحصول على الجائزة، وقوة الموضوع - ومن خلال التعامل مع الكثرة من الأفلام الجوائزية - تنبع أساسا من إنسانيته وعموميته، أي أن موضوع الفيلم من الأفضل له أن يتركز حول قيمة إنسانية كبيرة تنتصر للإنسان ضد الخوف والقهر، ولنا أن نذكر (طيران فوق عش الوقواق) 1975، الذي فاز بخمس جوائز أو سكارية رئيسية منها أفضل فيلم فهو قصيدة غاضبة ضد فساد المؤسسة الرسمية، و(الرقص مع الذئاب) 1990 ينتصر للإنسان المغلوب على أمره. وحتى (روكي) برغم تحفظاتنا على صيغة البطل الفرد بالمفهوم الهو ليوودي - يحكي عن ملاكم مغمور يصر على تحقيق الانتصار مهما كانت الظروف والعقبات. وهذا ما نراه بشكل أو بآخر في (قلب شجاع). قد نختلف في مدى عنصرية الأو سكار، أو في مدى إنسانية هو ليوود نفسها، لكن ستبقى الأو سكار هي أهم جائزة سينمائية تمنح سنويا على الإطلاق وحتى إشعار آخر. ويبقى (قلب شجاع) كواحد من الأفلام المهمة والمميزة التي قدمتها السينما العالمية خلال عامي 95 / 96.

ثورة البسطاء

ولكن ماذا عن الفيلم وعن الخلفية التاريخية التي يقوم عليها؟

في عام 1296، قام الملك إدوارد الأول، ملك إنجلترا آنذاك، بسجن الملك الأسكتلندي جون دي باليول، وأعلن نفسه ملكا على عرش أسكتلندا. في شهر مايوعام 1297، قام ويليام والاس البطل القومي وزعيم المقاومة هو ومجموعة من رفاقه تتكون من ثلاثين رجلا بقتل الشريف الإنجليزي لإحدى المقاطعات الأسكتلندية المحتلة. وكون بعدها جيشا من المزارعين والبسطاء والمقهو رين، وقام هو وجيشه بمهاجمة الإنجليز بين نهري ريفر فورث وويتر.

في سبتمبر من العام ذاته وتحت قيادة جون دي وارنر وايرل سيري، قام الإنجليز بمهاجمة والاس ورجاله، لكن خاب أمل الإنجليز في القضاء على والاس عندما استطاع الفريق الأسكتلندي إغراق الإنجليز وهم يعبرون النهر، وأعقبها احتلال والاس ورجاله لقلعة سترلنج الحصينة. بعد شهر من الحدث الأخير تحرك بطلنا والاس تجاه الشمال الإنجليزي، ليضرب الإنجليز في عقر دارهم، وعند عودته في ديسمبر 1297 تم إعلان والاس كحارس للمملكة، وفارسها الأول، وحاكمها باسم الملك باليول. وكان ذلك يعني في الخطوة المقبلة مواجهة الملك إدوارد الأول، ويعني أيضا أن المعركة المصيرية بين إدوارد ووالاس قد حان موعدها. في مارس 1298، عاد الملك إدوارد إلى إنجلترا بعد أن قضى فترة في فرنسا، وفي الثالث من يوليوتقدم بقوات ليغزوأسكتلندا وليؤدب غريمه والاس. وفي معركة فالكيرك الشهيرة مني والاس بهزيمة نكراء. هناك بعض الدلائل التي تقول إن والاس ذهب إلى فرنسا عام1299، ولكن منذ خريف 1299 تضاءلت المعلومات حول حياته، واستمر ذلك لمدة أربعة أعوام، خلالها فضح معظم نبلاء أسكتلندا لحكم الملك إدوارد وتولى الحكم بعد والاس روبرت دي بروس. في أغسطس عام 1305، تم القبض على والاس. بالقرب من جلاسجو، وتم اقتياده إلى لندن، ووجهت له تهمة الخيانة العظمى، وتم الحكم عليه بالإعدام شنقا. هذا ما يقوله التاريخ عن والاس.

في (قلب شجاع) ينسج الفيلم علاقة وثيقة بين والاس وحبيبته منذ الصغر، ليكون مقتل الحبيبة على يد الإنجليز هو الدافع القوي لانطلاق الشرارة الأولى لثورة والاس. ويتم التركيز على العلاقة بين والاس وطبقة النبلاء في أسكتلندا، تلك الطبقة التي هزمته قبل الملك إدوارد. ويتعرض الفيلم لعلاقة ما تمت بين والاس وزوجة ابن ملك إنجلترا لتحسين صورة الحكم الإنجليزي. بشكل عام. وينتهي الفيلم كما انتهت الحكاية في التاريخ. نشاهد بطلنا وهو يرفض الاستسلام صارخا: (فريدم) الحرية. هو لا يقدم أبدا التوبة والندم مقابل العفووالانعتاق.

 

عماد النويري 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




ميل جيبسون يقود معركة النبلاء  التاريخية التي اشترك فيها 1700 ممثل





الأميرة ايزابيلا قامت بدورها الممثلة الفرنسية صوفي مارسو





ميل جيبسون





الملك إدوارد الأول كما قام بدوره  باتريك ماكوهان