الصيام وغريزة الطعام

الصيام وغريزة الطعام

ليس "علم " الإنسان بوظائف الطعام هو وحده الذى يدفعه لطلبه ، فهناك أيضا حاسة الجوع الضاغطة ، وشهوة الطعام الباعثة . فأما حاسة الجوع ، فهى التى تدعو الإنسان إلى ما يسد حاجتة من طعام ضرورى لاستبقاء الحياة واطرادها على أوفق حال .. وهذا مندوب إليه شراعا وعقلا ، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الجسد . أما الشهوة الباعثة ، فهى شهوة الطعام ولذته . وهذه- وإن كانت فى الأصل- وسيلة ، غير أن كثيرا من الناس يجعلها- عن سوء تقدير وضعف ارادة- غاية .

ويبدو أن طلب لذة الطعام كغاية ، علة قديمة بين الناس .. فالتاريخ يحدثنا عن الرومان حديثا عجباً ، حيث كانت الموائد والولائم العامرة تمتد لساعات عديدة قد تطول لأيام تستهلك خلالها كميات هائلة من أشهى الأطعمة وألذ الأشربة ، وبعد أن يأكل المدعوون حتى الشبع ، يضعون أصابعهم فى أفواهم ويقيأون ثم يعودون مرة ثانية للموائد ينتهبون منها ما لذ وطاب.

ويبدو هذا غريبا ، ولكن المدينة الحديثة صنعت ما هو أغرب ، فقد عد خبراء الأغذية ألوان الطعام تعديداً ، وعقدوها تعقيداً بما أضافوا إليها من مركبات تجاوز عددها الثلاثة آلاف مركب كيمائي ... وكل هذا ليكسبوا الطعام ألوانا متنوعة ، وروائح متعددة ، ومذاقات جديدة ، تغرى بتناول المزيد والمزيد .

فهذا جهد- كما نرى- كل هدفه إجاعة من لا جوع به ، بإثارة عوامل اللذة فى فمه وأنفه وعينه.

المعدة وحواسها

مسكينة معدة الإنسان ،فهى أول الخاسرين فى هذا الجهد الضائع ... فالمعدة التى لاتزال تعمل فى طعام مضى لم تفرغ بعد منه ، يصيبها الإعياء والإرهاق . وشر من هذا أنها تفقد الحس بالزمن وانتظام العمل ، ويتعطل فيها الجرس الخفى الذى يدق عند الجوع ، وبالتالى تصبح أكثر قبولا لكل ما تشحن به من شراب وطعام ، وما يفرض عليها فى كل وقت وآن .

وأنت تسأل عن حدود الضرر المتوقع ، وتعلم أن الضر هنا بلا حدود .. فالمعدة لا تلبث بعد حين أن تكبر وتتضخم ولا يكسب المرء من ورائها غير المرض وسوء المغبة . وربما يعرف الكثيرون أن المعدة ذات تكون عجيب يشبه القربة الجراب أو البالون ، وأنها ذات مطاطية عالية . وهى فى ذلك أشبه بالرحم من حيث القدرة على التمدد والانكماش ، غير أن الرحم لا يتمدد سوى مرات قليلة فى العمر ، أما المعدة فتتمدد فى اليوم الواحد مرات عديدة ، ثم هى بتوالى استقبال وخزن الأطعمة والأشربة- لدى الآكلين النهمين- تكبر وتتضخم .

فلا يولد إنسان بمعدة كبيرة ، بل إنها تكبر وتتضخم بسبب الإفراط فى تناول الطعام .

ويكفى أن تعلم أن معدة الإنسان القنوع الذى لا يصيب من الطعام إلا على قدر حاجته الضرورية ، تتسع حتى 350 سم3 فقط . هذا بينما يتسع تجويف معدة النهم الشره إلى الطعام ، إلى ما يقرب من لترين ونصف اللتر " 2500 سم3 ويكفى أن تعلم ، أن حجم معدة القنوع لا يزيد على حجم اليد، وتظل متمركزة تحت عظمة القص أسفل الصدر وأعلى البطن ، ولكن حجمها عند النهم الأكول أضعاف ذلك حتى أنها تسقط من مكانها المألوف ، وتقع فى الحوض لترتكز على عظامه . وإذا كان شعور القانع بالشبع والامتلاء ، يتحقق بمجرد تناول قدر يسير من الطعام ، فإن النهم الأكول الذى سقطت معدته إلى أسفل حوضه ، يحرم من هذا الشعور . ألا يذكرنا ذلك بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : المؤمن يأكل فى معى واحد ، والكافر يأكل فى سبعة أمعاء ( صحيح مسلم ) .

ضرورة الصوم

هناك حقيقة عجيبة ، ولكنها مع ذلك ثابتة على نحو قاطع ، هى أن آليات تعامل الأبدان مع الطعام تستوجب ممارسة الصيام .. فلقد صمم المولى عز وجل الأبدان على نحو يهيئ التعامل مع مركبات الطعام ، وفقا لآلية تسير بنظام وتوافق ، فى ثلاث مراحل متتابعة . فالمرحلة الأولى التى تعقب تناول الطعام مباشرة ، تشتمل على عمليات مهمة كالهضم فى المعدة والأمعاء ، وعملية الامتصاص والتمثيل من الأمعاء ، وعلميات تحويل الطعام إلى سكر جلوكوز يسرى فى الدماء ، وإلى مواد أخرى أولية يتيسر استخدامها لإطلاق الطاقة وبناء الأنسجة .

والمرحلة الثانية ، هي مرحلة تخزين الفائض من الطاقة في المخازن المحددة لها .. فالجلوكوز الفائض يخزن فى الكبد العضلات ، على هيئة نشا حيوانى " جلايكوجين" ، بينما يخزن فائض الدهون فى معظم أجزاء الجسم ، وخاصة بين الأعطاف والأرادف ، وفى البطن والعجز .

وهذا ، وتتولى المرحلة الثالثة مهمة فتح مخازن الطاقة، تحويل الجلايكوجين والدهون ، إلى جلوكوز وأحماض دهنية، لأطلاق طاقتها فى الأجسام . وتختلف المرحلة الأخيرة- سابقتيها، فى أنها لا تحدث مطلقا ، إذا لم يمتنع الإنسان- لفترة زمنية محددة- عن تناول الطعام ... أعنى إذا لم يصم الإنسان. أما تفسير ذلك ، فسهل ميسور .. الصائم إذ يمتنع عن تناول الطعام ، يبدأ مستوى سكر الجلوكوز الطبيعى "80- 120 مللجم / 100 سم3 " فى دمه ، ينخفض ، بعد نحو ست ساعات من بدء الصوم .

وها هنا تتجلى عجيبة من عجائب الجسم البشرى ، إذ تتنبه- على الفور- منطقة الهيبوثلامس ( Hypothalamus ) بالدماغ ، فترسل إلى الغدد برسائل عاجلة تطلب منها العون والمدد . وعندئذ تفرز الغدة الكظرية مزيدا من الهرمونات الحاثة على تحويل الجلايكونجين المخزن ، إلى سكر جلوكوز " بواسطة هرمون الأدرينالين والكورتيزول " . وتصنع الغدة الدرقية مثل ذلك ، عن طريق إفراز هرمون الثيروكسين ، وكذلك الغدة النخامية ، عن طريق هرمون النمو ( .Growth H ) ، والبنكرياس أيضا ، عن طريق هرمون الجلوكاجون ( Glucagan ) .

وهكذا تشارك كل هذه الهرمونات فى حث الجسم على تحويل مخازن الطاقة المدخرة على هيئة الجلايكوجين فى الكبد والعضلات إلى سكر جلوكوز ، ليعيد الاتزان المفقود فى سكر الدماء .

على أن المخزون الجلايكوجينى قد يستنفذ ، ولا بد عندئذ من التعامل مع مخازن الدهون ، لهدمها وتحرير طاقتها . وقد أكدت أبحاث العلماء فعل الصيام فى زيادة منحنى احتراق الدهون طوال ساعات الصوم ، كما أشارت إلى دورة فى استهلاك مخازن الدهون المتراكمة فى مناطق ترسي الدهن فى الأجزاء الخارجية من الجسم كالأرداف والعجز والبطن ونحو ذلك .

ولا ريب أنك خمنت الآن ما يمكن أن يحدث فى الجسم ، إذا لم يمارس- من وقت لآخر- الصوم : إذ يبقى الجسم مشغولا بإجراء المرحلتين الأوليين ، ولا تتاح له فرصة إذابة مخزون الجليكوجين والدهون.

والنتيجة ؟ لسوف يثقل كاهل الجسم- بعد حين- بكميات هائلة من الدهون المخزنة ، والتى تسلتزم إنشاء عشرات الكيلومترات الإضافية من الشعيرات الدموية الدقيقة ، لنقل الدم إلى تلك الدهون المتراكمة . وها هى دراسات الباحثين تؤكد على أن كل كيلو جرام واحد من الأنسجة الدهنية الزائدة ، يقابله زيادة ثلاثة كيلو مترات طولا من الشعيرات الدموية ، يلزم وصول الدم إليها ، مما يعنى مزيدا من العبء على القلب وشرايينه .

وهذا بالطبع ، علاوة على ما تسببه الدهون المتراكمة من تاثير سيئ على الكبد والكلى وسائر أعضاء الجسم وأجهزته .

وأحسبك- الآن- تسأل : وما معنى هذا ؟ المعنى- ببساطة- أن فسيولوجيا خلق الأبدان ، تقتضى الامتناع عن تناول الطعام بين وقت وآخر ، وتستوجب الحصول على فترات معقولة من الصيام ، تكفل إراحة الوظييفتين الأوليين ، وتعمل- فى الوقت نفسه- على منح الوظيفة الثالثة فرصتها للعمل والتعبير .

ولأن الخالق العظيم ، هو الأدرى بطبيعة خلقه ، وهو الأعلم بما ينفعه وما يضرهسورة الملك آية 14 ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، فقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى ، فرض الصيام على سائر الأمم ، وليس على المسلمين وحدهمسورة البقرة آية 183 يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( البقرة / 183 ).

فالصيام- من هذه الوجهة- يعد ضرورة حياتية ، لا تستقيم حياة الإنسان إلا به ، وفى فسيولوجيا الأبدان خير دليل وبرهان .

ضبط الغريزة

غريزة الطعام- كما رأينا- من أقوى غرائز الإنسان ، ومن أشدها تأثيرا فى حياته ، وهى غريزة تحف بها آلام الجوع والحرمان ، ولذة أطايب الطعام .

فالأولى تدفع بها والثانية تحدوها لتنطلق جامحة فى الأمام . وإذا عرفنا هذه الحقيقة ، أدركنا مكمن الخطر فيها وما يحف بها من مخاطر وعقبات .. فهي ضرورية لبقاء الحياة واستمرارها ، ولكنها- فى الوقت ذاته- معرضة للانطلاق العنيف . وكيف لا تنطلق- إذا تركت بغير ضابط وفى هذا طبيعتها كل هذا الدفع ، وكل هذا الحداء ؟

وهى حين تنطلق ، فإنها " أولا " تعرض الأبدان لعلل موجعة ، وللوهن السريع قبل الأوان . وغير هذا ، فهي " ثانيا " تشقى روح الإنسان .. فالشخص النهم والشره للطعام لا يشبع- كما يبدو لأول وهلة- بل إنه ليصبه النهم والسآمة والملل ، فلا يقنع ولا يهنأ له بال . وفوق ذلك فإن الانطلاق مع هذه الغريزة ، يستنفد- أولا فأول الطاقة الروحية للإنسان . ففى البداية ، يكون طلب المعدة للطعام عملا إراديا ، يقع تحت سيطرة الإنسان... فهو يأكل حيث يريد ، ويمكنه الكف عندما يريد... ولكن ، شيئا فشيئا ، ومع إدمان طلب الطعام، ومع التكرار والدوام تضعف السيطرة ، ويذوي دور الإرادة ، وتغدو الغريزة مالكة لقياد الإنسان ، توجهه حيث تشاء .

وها هنا لا بد للأنسان من الصيام كثيراً ، والصيام طويلاً. فهذا وحده هو الذى يعيد إلى " الإرادة " الإنسانية رصيده المفقود ، ويزيد . وتلك حقيقة علمية يعرفها رجال التربية وعلماء النفس حتى وجدنا الباحث الأصلى الشهير " جبهاردت " يضع سفراً في تقوية الإرادة ، فيتخذ من الصيام أساساً عملياً لهذه التقوية. ومتى قويت الإرادة وسيطرت ، فحسب تشاهد الإنسان ذا النفس المتكامل التى بوسعها الإنطلاق الكامل في كل اتجاه نافع بقوة وتمكن وإصرار فى الوقت نفسه ، تستطيع خلع نفسها بقوة من لذة أو شهوة عاجلة حين تقرر وتريد .

ومن هنا ، كان الصيام ـ عن حق ـ أروع منهج تربوى فى محاربة الخضوع لأوامر غريزة الطعام ، وفى تحرير إرادة الإنسان .

 

فوزي عبدالقادر الفيشاوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الصيام وغريزة الطعام