صوم رمضان وفلسفته

صوم رمضان وفلسفته

لبعض الأوقات فضيلتها كما للأماكن. وقد اختار الله تعالى شهر رمضان من بين سائر شهور السنة ليحظى بفضيلتين: الأولى نزول القرآن الكريم والثانية شعيرة الصوم.

جاء في الحديث القدسي كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به فإذا أضفنا إلى ذلك ما اختص به شهر رمضان الكريم من وجود ليلة فيه، لا يستطيع أحد أن يحددها بالضبط، هي ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر سورة القدر آية 5 تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر، حينئذ ندرك أننا نعيش خلال شهر رمضان وقتًا من أغلى أوقات السنة، وفترة روحية من أعز فترات العمر: فترة زمنية، تسمو فيها المشاعر، ويروق الوجدان، ويسعى المسلم إلى الإقبال بكل جوارحه نحو الجناب الإلهي: داعيا وراجيا، تائبًا ومتجردًا وأجمل ما في هذا الشهر المبارك أن المسلم لا يعيش تلك الروحانية وحده، وإنما يشاركه فيها كل المسلمين على وجه الأرض، بنفس الضوابط الشرعية، وبنفس الجو الإيماني الذي يشيع في المجتمع، وبنفس الفرحة التي تغمر الجميع عند سماع آذان المغرب. في رمضان، يزداد ترابط الأسرة، ويكثر التواصل بين الجيران، ويشعر المسلمون أنهم في موكب روحاني بهيج يخلو من كيد الشيطان ووسوسته، كما ورد في الحديث النبوي: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين.

شهر رمضان وذكرياته

الصوم تجربة روحية بالغة العمق، ومتعددة المستويات. فهي لا تنحصر فقط في مجرد الإمساك عن المفطرات، وإنما تتجاوز ذلك إلى ضبط النفس عند الغضب، والامتناع عن إيذاء الناس، إلى جانب مشاركتهم في السراء والضراء، وبذل المعروف لمن يطلبه، والصدقة لمن يحتاج إليها.

وشهر رمضان أفضل مناسبة لتلاوة القرآن، والإصغاء إلى آياته، وتدبر معانيه، والعيش في أجوائه كذلك فإنه فرصة لمزيد من العبادة، وأداء الصلوات، والتوجه إلى الله تعالى. وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقعت في شهر رمضان حادثتان من أكبر حوادث الإسلام: غزوة بدر، وفتح مكة. ولكل منهما مغزى ودلالة. فالأولى كانت رمزًا لانتصار الحق، والثانية مكافأة لأتباعه. الأولى بدأ بها تاريخ المسلمين على طريق إثبات الذات بهدف إعلاء كلمة الله، والثانية توجت كفاحهم، الذي استقرت بفضله لهم شبه الجزيرة العربية، ومنها انتشر الإسلام إلى سائر بقاع الأرض.

الصوم والإرادة

يتضمن الصوم معنى دقيقًا، لكنه ليس صعبًا على الإطلاق، وهو من أخص ما يرتبط بالصوم،وينتج عنه: إن الصائم يمتنع عن تناوله طعامه وشرابه أو مباشرة زوجته امتثالا لأمر إلهي، مع توافر هذه المباحات بين يديه، وداخل بيته الذي هو ملكه الخاص. ولا شك أن تعوده على الامتناع يقوي فيه إرادة التحكم في رغباته عما هو متاح له.

وعندما تقوى هذه الإرادة يصبح من السهل أن تنطبق على ما هو محرم عليه، كتناول مال الآخرين ظلمًا، أو اشتهاء نساء الآخرين حرامًا.

وتكون النتيجة أن المسلم يتعود من خلال الصوم أن يمتنع عن الحلال حتى لا تطمع نفسه في الحرام. وبهذا المستوى يصبح إنسانًا، يرتفع عن سائر الحيوانات التي لا تستطيع أن تمسك نفسها عما ترغب فيه، أو تحتاج إليه .. وهكذا يصنع الصوم من المسلم إنسانًا يضبط نفسه، ويتحكم في رغباته، ويوجه إرادته نحو ما هو- فقط- حلال له.

أروع ما في الصوم أنه عبادة شديدة الخصوصية بين المسلم وربه. فهو لا يظهر على الأعضاء، ولا يبتدي في الأفعال والحركات. كما لا يستطيع الناس مهما كانت فراستهم أن يميزوا بين شخص صائم وآخر غير صائم. ومن الواضح أن مثل هذه الشعيرة الخاصة جدا يصعب، بل يستحيل أن يدخلها الرياء، أو التظاهر أمام الناس بغير الحقيقة.

فالمسلم يترك طعامه وشرابه من أجل أمر الله، وابتغاء مرضاته، لا يسعى بذلك إلى رضا الناس أو الحصول على مديحهم، و اكتساب السمعة الطيبة بينهم. وهو إذ يلتزم بذلك فإنما يصدر عن ضمير صاف ومشاعر صادقة. ولا شك أن تربية الضمير من أصعب أنواع التربية، لأنه ليس عضلة تقوى بالمران، أو سلوكا يتهذب بالمحاكاة، وإنما هو إحساس بالغ الدقة والرهافة، ليس له إلا اتجاه واحد، نحو الفطرة التي فطر الله الناس عليها .. واحسبه المقصود في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك أجل، إن الصوم يزيد من رهافة الضمير، الذي هو من أكبر نعم الله التي منحها للإنسان، وهو تعالى القادر على إيقاظ هذا الضمير بحيث يصبح كمؤشر البوصلة الذي يوجه صاحبها- في أي موقف- نحو تحديد الاتجاه الأصوب.

بعض الناس يقعون في المعاصي. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وهذا يعني أنه يتجرد عند التخطيط للمعصية، وفي حالة تنفيذها من الإيمان. ويمكن القول بأن هذه هي اللحظة التي يتوقف فيها الضمير عن العمل، أو يغفل عن التوجيه .. لذلك فإن الصوم الذي يتم من خلاله إيقاظ الضمير، يعتبر من أهم وسائل التربية الأخلاقية التي تقوم فيها التعاليم الدينية بأكبر الأثر المباشر والفعال.

تصحيح خطأ شائع

قيل عن الصوم إنه عبادة سلبية، بمعنى أنا المسلم فيها "يمتنع" عن الطعام والشراب وممارسة العلاقة الزوجية خلال فترة محددة، انطلاقا من أن المعنى اللغوي للصوم هو "الإمساك" أي عدم الإقبال على الفعل .. والواقع أن الصوم عمل إيجابي كامل، لا يقل بحال من الأحوال عن الصلاة والزكاة والحج فهو جهد مقصود نحو الالتزام بضوابط محددة، وإذا كان في مقدمتها الطعام والشراب والعلاقة الزوجية فإن توابعها كثيرة أهمها: السيطرة على الرغبة في إيذاء الآخرين، والتحكم في ضبط النفس عند الغضب، والالتزام بقول الكلمة الطيبة، وإسكات الكلمة الخبيثة التي تشيع الكراهية بين الناس ومن هنا يتبين أن الجهد الذي يقوم به الصائم جهد إيجابي خالص، بل إنه يتميز بجمعه بين التزام الأعضاء وضبط المشاعر، والمعادلة الصعبة في جعل الباطن يتطابق تمام الانطباق مع الظاهر. وتلك إحدى علامات الإخلاص، ودلالات التقوى.

تصحيح خطأ آخر

قيل عن الصوم إن حكمته تكمن في لفت نظر الأغنياء من خلال التجربة المباشرة إلى ما يعانيه الفقراء من ألم الجوع والحرمان. وهذا قول غير مقنع لأن الصوم مكتوب على الغني والفقير. وإذا كان الأمر كما قيل، فلماذا يصوم الفقير وهو يعاني طوال العام؟ الواقع أن إحساس الغني بآلام الفقراء لا يتوقف على مجرد الامتناع عن الطعام والشراب في شهر رمضان، وإنما يرجع إلى ما يربيه الإسلام في أعماق المسلم من عطف على الآخرين، ورحمة بهم، وتضامن معهم في السراء والضراء .. ومنذ اللحظة التي تمس فيها العقيدة الإسلامية قلب الإنسان يصبح هذا القلب مستودعًا للرفق، ونبعًا للحب، وفيضًا من العطاء لكل من حوله من البشر. لكن الصوم يدفع بالتأكيد إلى مزيد من تقديم الصدقات، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. والصائم مطالب بأن يدعو إلى مائدة إفطاره من شاء من الأصدقاء والفقراء. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفطر صائما كان له مثل أجره من غير أن ينقص من اجر الصائم شيئا

في عصرنا الحاضر، وقد غلب على العالم كله نزعة مادية جارفة، وأصبح الجميع يلهث وراء ما يشبع رغباته، ويرضي تطلعاته التي زينها له عصر الاستهلاك، يجيء شهر رمضان فيفتح للمسلم صفحة جديدة، يملأ نهارها بالعبادة الزاهدة في زخرف الدنيا، ويحيي لياليها بالصلاة والذكر، كما يرطب قلبه كاملاً، لكي يهيئهم لمواجهة أقسى التحديات في باقي شهور العام.

 

حامد طاهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات



ش