الجواهري... شاعر العرب (شاعر العدد)

الجواهري... شاعر العرب (شاعر العدد)

ولد محمد مهدي الجواهري في مدينة النجف في العراق عام 1899، ورحل عام 1997، وبين التاريخين قرن كامل تقريبا عاشه الشاعر بكل عنفوانه الشعري والإنساني متنقلا بين المراحل التاريخية والأماكن الجغرافية بخفة روحه ورصانة شعريته ورشاقة شخصيته وحرارة عواطفه المتأججة دوما..كأنها ترسم له خطوطا بالحبر والدم ليمشي عليها.

كان أبو الشاعر أحد علماء مدينة النجف ذات السمت الديني في عمق التاريخ الشيعي، وقد أضفت أجواء المدينة سمتها على طفولة الشاعر الذي حفظ القرآن في سن مبكرة وقبل أن يتعلم الكتابة والقراءة والنحو والصرف والبلاغة والفقه. وقد استغل الجواهري ملكة الحفظ التي تميز بها في حفظ الكثير مما يقرأ، فكان يحفظ في كل يوم خطبة من كتاب نهج البلاغة وقصيدة من ديوان أبو الطيب المتنبي.

بدأ بنظم الشعر في سن مبكرة، وما لبث أن أصبح شاعرًا معروفا في بلاد تحتفي بالشعر والشعراء في كل زمان ومكان، و«شاعر العرب الاكبر»، هو اللقب الذي استحقه بجدارة في وقت مبكر في حياته الشعرية، وارتضاه له العرب أينما كان وأينما كان شعره، حتى النهاية.

اشترك «أبو فرات» في ثورة العشرين عام 1920 ضد السلطات البريطانية، ثم اشتغل مدة قصيرة في بلاط الملك فيصل الأول عندما تُوج ملكًا على العراق وكان لايزال يرتدي عمامة رجال الدين لكنه تركها عندما عمل في الصحافة بعد أن غادر النجف إلى بغداد، حيث أصدر مجموعة من الصحف منها جريدة الفرات وجريدة الانقلاب ثم جريدة «الرأي العام» وانتخب عدة مرات رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين ونقيباً للصحفيين. لكن تقلبات السياسة والساسة اضطرته لمغادرة العراق أكثر من مرة، فقد هاجر عام 1941 إلى إيران، لكنه عاد ليهاجر عام 1961 إلى لبنان، ومن هناك استقر في براغ سبع سنوات قبل أن يعود إلى العراق في عام 1968، وبعد أن استقر سنوات قليلة في وطنه عاد ليتنقل بين مصر، المغرب، والأردن، قبل أن يستقر في سورية أواخر سني عمره، ليقع مرة أخرى ضحية أهل السياسة عندما سحب منه النظام البعثي الحاكم في العراق أنذاك جنسيته العراقية في حركة نظر إليها الكثيرون على أنها من مهازل القدر الذي عاشه الجواهري!

في رثائي له عند رحيله قبل عشر سنوات كتبت مقالة قلت في بعضها إن شخصية الجواهري الفائقة التميز على الصعيد الإنساني العام، العالية الكبرياء إلى الدرجة التي تقترب فيها من الغرور دون اندغام فيه، المثمرة الحب والمحبة، الخضراء دوما حتى في هجير الشيخوخة اليابسة، المتمردة أبدا إلا على عمود الشعر العربي، الشديدة الاعتزاز بذاتها، الشاكرة والذاكرة لكل تكريم وتقدير حصلت عليه في ظل عدم وجود سوابق عربية تذكر في مجال تكريم الشاعر حيا.. ساعدت على تقديم شعره إلى المتلقي العربي بطريقة غير مسبوقة في شكلها وإطارها العام.

لقد رحل الجواهري، إذن، بعد أن قدم لمتلقي الشعر العربي آخر الشهادات المهمة جدًا والكبيرة جدًا والصعب دحضها جدًا على تميز بيت الشعر العربي الكلاسيكي وجماله الحي وقدرته على شق الطرق التقليدية في مدن الشعر الحديثة. صحيح أن شهادة بهذا الحجم لمصلحة بيت الشعر العربي العمودي لا يمكن قبولها والأخذ بها بمعزل عمن يقدمها أو من يتبناها، ولكنها على أي حال لا يمكن تجاهلها بشكل تام في ظل ظروف متلاطمة الأمواج تمر بها القصيدة العربية المعاصرة.

فهل كان الجواهري، الذي امتد أثره على مدى قرن كامل من الشعر والسياسة والصحافة والحب، آخر فصل من فصول ديوان العرب التقليدي؟!

هل كان العقبة الأخيرة أمام القصيدة الحديثة التي تصر عبر أغلب رموزها على فكرة إلغاء ما قبلها بدلا من التعامل معه بموضوعية تاريخية وجمالية من زاوية معينة؟!

هل رحل الشاعر الآن؟ أم رحلت القصيدة العمودية إلى الأبد؟

على أن السؤال ليس مطروحًا للبحث عن إجابة حاسمة له، فلقد ولى عصر الإجابات الحاسمة عن أسئلة الشعر والشعراء دون أن يحاول الخلود بين أجواء الشعراء الذين يبحثون عن معنى الشعر في كل اختلاف أو خلاف هنا وهناك، ولكن السؤال مطروح للبحث في قيمة شاعر بحجم الجواهري الذي صار - وهو يدري ويريد - صنوا لقصيدة العرب العمودية التي احتفى بها، في زمن الذات والبحث عنها بين زوايا القصائد الجديدة، كما لم يحتف بها من قبل شاعر وكما لا يُتوقع أو يُنتظر أن يفعل شاعر من بعد!، وصار- وهو يدري ويريد- هيكلا من هياكل العرب الشعرية والإنسانية ذات الوضوح البارق في زمن يعج بالتدليس والتزوير ويتراكم عليه غبار المقولات.

ينتهي الرثاء، وتبقى قوافي الشاعر التي نختار منها ما نذيل به بعض صفحات هذا العدد من «العربي» احتفاء بشاعر العرب.

 

سعدية مفرح