الاستمرار في الواقعية.. د. جابر عصفور

الاستمرار في الواقعية.. د. جابر عصفور

كتب صلاح عبدالصبور قصيدته «عودة ذي الوجه الكئيب» التي كان يعني بها عبدالناصر في مبتدى أمرها، قبل أن يلجأ إلى التقية ويجعلها موجهة إلى الاستعمار وأعوان الاستعمار.

لم يكن عبدالناصر من أعوان الاستعمار، لكنه تحول إلى رمز للديكتاتورية التي انتصرت في أزمة مارس 1954، والتي صادرت جريدة «المصري»، وكان ذلك بعد أن نجحت الجريدة في تقديم قصيدة «هجم التتار» التي لا تنفصل - لو صح تأويلي المزدوج لها - عن قصيدة «عودة ذي الوجه الكئيب» - زعيم التيار المعادي للديموقراطية بين الضباط الأحرار الذي تصفه القصيدة بأنه ذو النظرة البكماء الذي وضع اليمين من الإخوان في المعتقلات (جميع الملتحين)، ثم انقلب إلى اليسار ورمى برموزه في المعتقلات، فلم يبق حوله سوى الدجالين والقرادين والمنافقين والمطبلين- فيما تؤكد القصيدة - خصوصا حين تقول:

سيظل ذو الوجه الكئيب
وأنفه ونيوبه
وخطاه تنقر في حوائطنا الخراب
إلا إذا
إلا إذا مات.
سيموت ذو الوجه الكئيب
سيموت مختنقًا بما يلقيه من عفن على وجه السماء
في ذلك اليوم الحبيب.
ومدينتي معقودة الزنار
مبصرة سترقص في الضياء
في موت ذي الوجه الكئيب.

وبالطبع، تنتهي القصيدة بالتفاؤل الذي أصبح عنصرًا تكوينيًا من عناصر الواقعية الاشتراكية التي انطوت على إيمان لا يتزعزع بحتمية انتصار الاشتراكية وهزيمة الفاشية بكل وجوهها وتنوعات حضورها.

وكان معنى ذلك أن النصف الأول، على الأقل، من الخمسينيات شهد تطابق رؤية صلاح الشعرية ورؤية التجمعات اليسارية الفكرية التي هللت (بلسان محمود العالم) لقصيدته - «الملك لك» التي نشرتها جريدة «المصري» في الثامن والعشرين من مارس 1954. وقد كتب العالِم ما كتبه عن قصيدة صلاح وغيره من الشعراء الرفاق في دراسته عن «الشعر المصري الحديث: خصائصه واتجاهاته العامة». وقد نشرها قبل أن تنشر مجلة «الآداب» ديوان صلاح عبدالصبور «الناس في بلادي» في يناير 1957. ولا يغيب عن الأذهان أن اختيار عنوان هذه القصيدة تحديدًا لتكون عنوانًا للديوان كان علامة على الانحياز للكادحين من أهل القرى البائسين الذين صورتهم رواية «الأرض» التي نشرها الشرقاوي في «المصري».

تصفية الوعي

وكانت قصيدة «الملك لك» بمنزلة النقطة الحاسمة في تصفية وعي صلاح الشعري من أصداء الرومانسية التي ظلت باقية، واقتحام أفق الواقعية من أكثر طرقها حسمًا وجذرية، وقد نشرت «المصري» القصيدة في عدد الثامن والعشرين من مارس سنة 1954. وكانت بمنزلة معارضة نقضية فكرية إبداعية لقصيدة إليوت الشهيرة «الرجال الجوف»، ومحاولة لنقض فكر البرجوازية الصغيرة الاعتقادي من ناحية أخيرة. وآية ذلك أن القصيدة تعتمد على ضمير المتكلم الذي يتحدث في القصيدة، محددًا نشأته الفقيرة التي تثير تعاطف الحالمين بمستقبل أفضل للبروليتاريا، وتمضي تداعيات البطل، جامعة بين صليل الحديد حول قدميه، وذكريات صحبة الطفولة الهانئة، حفنة «الأشقياء الظهور» الذين ينامون ظهرًا على المصطبة:

وقد يحلمون بقصر مشيد
وباب حديد
وحورية في جوار السرير
ومائدة فوقها ألف صحن
دجاج وبط وخبز كثير.

وتنتقل التداعيات إلى الأم البرّة الطاهرة التي تخوّف وليدها بنقمة الآخرة، هاتفة باسم النبي إذا أصابه مرض، أو عثرت رجلاه النحيلتان، وتترسخ المعتقدات الدينية الشعبية التي تزرعها الأم في وعي الطفل، جنبًا إلى جنب المعتقدات الشعبية السائدة. فتنتج أحلام الرعب والكوابيس التي تفزع الطفل الذي تأخذه الأم إلى حضنها، هاتفة باسم النبي الحارس الحامي، وتمر الأيام، ويكسر الموت براءة عالم الطفل، ويهبط كالقدر الذي يخطف (دون أن يدري أحد كيف؟ ولماذا؟) أخاه الكبير الذي كانت خطاه خطى العنفوان، وفي عينه ومضة الكبرياء:

وفي ليلة عاد من حقله
وقد قطبت وجهه علته
ومات!
وفي حفرة من حفر الطريق
وهبناه للأرض باسم النبي.

وإزاء صدمة الموت يتفجّر السؤال عن الوجود والمصير الذي يتحول إلى هوة تروع الظنون، لكنها تبعث على المقاومة، وعلى مواجهة الموت برفضه، ورفض كل ما يتصل به من معتقدات جبرية، تسلب الإنسان إرادته، وتجعله أداة في يد الأقدار تحركها أين تشاء، وتدمرها حين تشاء. وكان الرفض قرين الثورة التي تبدأ من تأكيد أن الإنسان كبير على الأرض لا تحتها، فحياته على الأرض وفوقها هي الوجود الحق، الوجود الذي لا يعلو فيه شيء على الإنسان، ولا ملك حوله إلا ما يصنعه على عينيه، حرًا، مختارًا، فعالاً لما يريد، هكذا يتولّد معتقد جديد شعاره أن الملك للإنسان فوق الأرض، لا تحتها، فيصرخ البطل صيحة الشعار الجديد التي لم يقلها نبي، ولا ساحر همجي الصِّنج، ولكنها صيحة تسري مسرى الدم، ويخطه القلم ليعرف الإخوة الأصفياء (كأنهم إخوان صفا أو رفاق) نشيد البناء «الملك لك». والشعار نفسه ترجمة لشعار For Thine is the Kingdom التي تتكرر في قصيدة إليوت، دالة على تأكيد المسيحية الكاثوليكية بوصفها الخلاص، وأن إلهها القائم في الأعالي هو الحامي والهادي الذي يهيمن على كل شيء. بما في ذلك الإنسان الذي لا ينال الخلاص إلا باللجوء إليه. وأتصور أن قلب صيغة الشعار من «لأن لك الملك» وليس من قبيل تحسين الترجمة فحسب، وإنما هو، في الوقت نفسه، مغايرة مقصودة لتأكيد دلالة المعارضة النقضية.

زمن الإنسان

واللافت، عند هذا المستوى، اقتران القلم بالأحرف الشاعرة التي تخطّ نشيد البناء، مبشرة بزمن جديد هو زمن الإنسان الذي يغدو مركز الوجود، ويضيء معناه الدجى بانهمار النجوم، وينوّر في وجنتي الحياة السلام، فتصدح أجراسها بالفرح، وبالحياة، وبالأرض وبالملك: الملك لك.

ومن المؤكد أن قصيدة «الملك لك» قد أسعدت الرفاق، ووجدوا فيها البداية الجديدة لشعر جديد واع، صاعد، ولا أدل على ذلك مما كتبه محمود أمين العالِم عن هذه القصيدة في دراسته «الشعر المصري الحديث: خصائصه واتجاهاته العامة» المنشورة قبل نشر القصيدة في ديوان «الناس في بلادي» في يناير 1957. وكان منهج العالم في هذه الدراسة قرين نظرته التي ترى أن الشعر المصري وصل إلى ذروة دالة من ذرى تطوره ونضجه وتجديده، خصوصًا مع تيار الشعر الجديد (الواقعي) الذي أصبح يمثله الرباعي: عبدالرحمن الشرقاوي، وكمال عبدالحليم، وصلاح الدين عبدالصبور، وأحمد كمال زكي (قبل أن يهجر انحيازه اليساري وينشغل عن الشعر بالدرس الأكاديمي) الذي برز فيه إلى جانب عز الدين إسماعيل الذي يماثله في هجر الشعر.

وقد رأى العالِم أن صلاح عبدالصبور يعرض في قصيدة «الملك لك»، لقضية الإنسان على هذه الأرض ولكفاحه من أجل تثبيت ملكوته الإنساني الكبير، ومن الواضح - فيما يقول - أن صلاح يعارض بقصيدته قصيدة الشاعر ت.إس. إليوت «الرجال الجوف» معارضة أيديولوجية، لا معارضة بلاغية كما كان شأن المعارضات القديمة، فالشاعر المصري يعارض المفهوم الضائع التافه المشتت الذي يلصقه إليوت بالإنسان، ويدفعه إلى القضاء على متناقضاته وخوائه الروحي بالارتباط بقيم غيبية، فيما يؤكد العالم الذي يمضي قائلا: «الشاعر المصري يعارض مفهوم الإنسان على هذا النحو، ويستعين بإحدى الفقر الأخيرة من قصيدة إليوت، كي تكون عنوانًا لقصيدته «الملك لك». ولكنه يغيّر من دلالتها تغييرًا كاملاً، فبعد أن كانت تعبر، عند إليوت، عن إرادة الإله (بمفهومه المسيحي الكاثوليكي) أصبحت تعبر عن إرادة الإنسان عند الشاعر المصري». ويختتم العالم قائلا: «إن الشاعر المصري عندما أراد أن يعرض لدلالته الخاصة، راح يصوغ بناء تعبيريًا، يستمد كل صوره وقيمه من بيئته الاجتماعية: ألفاظها، وأساطيرها، وتقاليدها». ولا ينسى العالم، بالطبع، أن يستشهد بما يؤكد وجهة نظره الأساسية، بقصيدة الشرقاوي «من أب مصري». يعني بذلك أن كلتا القصيدتين مملوءة بالتعبيرات العادية والمفردات الشعبية الدارجة التي تبرز الأجواء الحقيقية للصور المصاغة. ومن ناحية موازية، فإن شاعر «الملك لك» يقف إلى جانب رفاقه في إحداث تغيير جذري في الشعر المصري، سواء من حيث اقتراب هموم الشاعر من هموم الواقع وانشغاله بها، فضلاً عن انحيازه إلى الطبقة الكادحة في الصراع الاجتماعي، وذلك في موازاة انحيازه الإبداعي إلى مأثورات هذه الطبقة ولغتها ومثلها العليا وإبطالها الملحميين الذين قادوا صراعها من أجل العدل الاجتماعي وحرية الوطن من الغاصب الأجنبي.

ويمكن أن نضيف إلى ما قاله العالم عن «الناس في بلادي» ما قاله بعد نشر الديوان عن قصيدة «الناس في بلادي» التي أصبحت عنوان الديوان الأول، وإعلانًا عن انحياز الشاعر إلى هؤلاء الكادحين كالصقور الذين يئزّ ضحكهم كاللهيب في الحطب:

خطاهم تريد أن تسوخ في التراب
ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشئون
لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قبضتي نقود
ويؤمنون بالقدر.

وبالتأكيد، لم يفت العالم، ولا بقية الرفاق إبراز أهمية التمرد الميتافيزيقي الذي هو الوجه الآخر من التمرد الاجتماعي في القصيدة، خصوصًا حين يتضافر الفقر مع الموت في حصاد أعمار هؤلاء الطيبين من «الناس في بلادي» على نحو ما رآهم صلاح عبدالصبور في الخمسينيات المشبعة بحماستها اليسارية. وهي السنوات التي انتشرت فيها الدعوة إلى الاشتراكية، خصوصًا بعد حرب السويس، والمساعدة الاستثنائية التي قدمها الاتحاد السوفييتي السابق الذي لم يكتف بالتنديد، بل ذهب إلى التهديد باستخدام الصواريخ. وكانت النتيجة أن أصبح الاتحاد السوفييتي الحليف الأول لكل قوى التحرر الوطني في العالم الثالث، والمصدر الذي يستمد من فكره المنظرون الأدبيون أفكارهم عن الواقعية الاشتراكية التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، ولذلك أسعدت قصيدة صلاح الرفاق، ففيها نغمة شعبية متعاطفة مع الفقراء، لا تخلو من حضور مضمر للشعار الذي شبّه الدين بأفيون الشعوب!

وأضف إلى ذلك المعارضة النقضية لإليوت الذي تحوّل إلى رمز الرجعية في أعين الرفاق، ومنهم لويس عوض الذي تتلمذ على كتاب كريستوفر كوديل «دراسات في ثقافة تحتضر» أو «الوهم والواقع»، وهما الكتابان اللذان كانا بمنزلة الإطار المرجعي لمقدمة لويس عوض ديوان «بلوتولاند» الغارقة في اللون الأحمر الذي لم يكن يرى سواه في ذلك الوقت.

الغيبية الساذجة

وقد أبرزت «الملك لك» لصلاح المعنى غير المباشر، المضمر في قصائد من طراز «عيد الميلاد» لسنة 1954 (الآداب 5/1954)، وذلك لما فيها من جرأة على الغيبية الساذجة، ولما فيها من تعاطف مع العامل الذي يحمل صليب حياته البائسة، كأنه تجسيد أرضي للمسيح الذي حمل صليبه، وبذلك في سياق لا يخلو من السخرية من ذوي الذقون البيض. وقل الأمر نفسه عن قصيدة «طفل» (الآداب 11/1954) التي كانت أولى الصياغات الرمزية لتصوير الحب طفلاً، اعتمادًا على الأسطورة اليونانية التي يتجسّد فيها إله الحب - كيوبيد - طفلاً بريء الملامح، بهي القسمات، يلقي سهامه في القلوب، فتصبح عاشقة.

وبالطبع تترك قصيدة «أغنية حب» أثرًا أقل حماسة في وجدان الرفاق، لكنها لا تخلو من عاشق فقير، لا يملك ما يقدمه لمحبوبته سوى «هدية الفقير»، وهي القلب البريء الأبيض كاللؤلؤة.

وتنطبق الاستجابة نفسها على قصيدة «رسالة إلى قصيدة» التي تعيد القارئ إلى عالم الحارات، البائس، الفقير، حيث يرقد الحبيب الذي لا يملك سوى الحلم والأمل. وتأتي قصيدة «رسالة إلى صديقة» (الآداب 5/ 1955) لتقدم الحبيب المريض الذي يحلم برسالة تأتيه من المحبوب فتشفيه من عذاب الروح والقلب والجسد. ولا جديد في القصيدة سوى البذرة الصوفية التي تأخذ شكل الشيخ محيي الدين، مجذوب الحارة العجوز الذي مات في عام الوباء، لكنه يأتي في الحلم ليزور العاشق المريض ليقول له، في صوته العميق كالنغم:

يا صاحٍ، أنت تابعي
فقم معي
رُدّ مشرعي.
فالأمر في الديوان «قم»

ولا يقوم المريض، لكنه يعرف من الشيخ محيي الدين أن الإنسان داء قلبه النسيان، وكلنا صغار، الحبيب وحده هو الكبير، ويغيب الشيخ محيي الدين، يختفي طيفه في تثاقل النوم، لكن تبقى الإشارة التي ترهص بما سوف تأتي به صلة الشاعر بالصوفية فيما بعد، حيث يتفجّر رمز بشر الحافي، وبعده الحلاج، معادلاً موضوعيًا للكلمة الحرة التي تواجه السلطان الجائر، ولصوت الحق الباحث عن العدل الاجتماعي والحرية في زمن افتقدهما.

وقل الأمر نفسه على «أناشيد غرام» (الآداب/ 6/1956) و«يا نجمي الأوحد»، وأولاهما مقاطع حرة، رومانسية الطابع، متغايرة القوافي، لا تخلو من الأحلام الجميلة للذين يمرر شجى الأيام عيشهم. وثانيتهما: أغنية للحبيب من المحبوب الذي لا يملك من دنياه شيئًا، مثل محبوبه، في سياق لا يملك فيه العريان أن يهدي مثيله إلا الكلمة، ولا تخلو القصيدة من هجاء الأيام المريضة والليل الموحش الذي يولد فيه الرعب، فلا يترك ملحاً للحب، فتبدو القصيدة كما لو كانت تضع بذرة الليل الذي سوف يزداد سوادًا وحزنًا في قصائد الدواوين اللاحقة.

قصيدة عشق

ولم أنس سوى قصيدة «لحن» (الآداب 3/1956) في هذا السياق. وهي أغنية تسعى إلى أن تقدم مشهدًا عصريًا للحب، مستعينة على ذلك بتضمين من شكسبير - في مسرحية «روميو وجولييت»، حيث ينقل الشاعر حوار جولييت التي تصيح بروميو ألا يقسم على حبها بالقمر:

ذلك الخداع في كل مساء
يكتسي وجهًا جديدًا.

وهو تضمين يكشف عن أن الشاعر أخذ يتقن بعض حيل إليوت، ومنها التضمين، ولذلك لا تخلو صورة العاشق في القصيدة من ملامح صورة العاشق «ألفريد بروفروك» - بطل قصيدة إليوت التي تحمل العنوان نفسه، ولذلك يعاود صلاح أسلوب التضمين، فيشير إلى المضحك الممراح في قصر الأمير، كما لو كان يشير إلى «يوريك» مضحك الملك الذي رأى «هاملت» جمجمته بين يدي حفار القبور، في مسرحية «هاملت»، ولكن صلاح يستغل مفارقة التضمين للحديث عن الرفاق التعساء:

ربما لا يملك الواحد منهم حشو فم
ويمرون على الدنيا خفافًا كالنسيم
ووديعين كأفراخ حمامه
وعلى كاهلهم عبء كبير وفريد
عبء أن يولد في العتمة مصباح وحيد.

وأتصور أن هذه الأسطر، تحديدًا، كانت تعبيرًا صادقًا عن الرفقة التي جمعتها صحبة القلم، وحلم استبدال آفاق الحرية بشروط الضرورة، والعدل الاجتماعي بالظلم والتباين غير الإنساني بين الطبقات، فذلك هو الجانب الإيجابي في الرفاق الذين جمعهم الحلم بالمستقبل الأعدل والأجمل، والذين وصفهم صلاح وأشباههم، بل أضدادهم في أكثر من موضع، كما حدث في قصيدة «السلام» التي تقيم تضادًا بين إنسان فقير مريض، يموت مجهولاً في ركن من أركان الطريق، مقابل جماعة من المثقفين تصفهم القصيدة على النحو التالي:

كنا على ظهر الطريق عصبة من أشقياء
متعذبين كآلهة
بالكتب والأفكار والدخان والزمن المقيت
طال الكلام، مضى المساء لحاجة، طال الكلام
وابتل وجه الليل بالأنداء
ومشت إلى النفس الملالة، والنعاس إلى العيون
وامتدت الأقدام تلتمس الطريق إلى البيوت
وهناك في ظل الجدار إنسان يموت
ويظل يسعل، والحياة تحن في عينيه: إنسان يموت
والكتب والأفكار مازالت تسد جبالها وجه الطريق
وجه الطريق إلى السلام

والتضاد بين قسمي القصيدة واضح المغزى، خصوصًا من منظوره اليساري الذي يدين المثقفين الذين يغرقون في نقاش نظري لا علاقة له بالواقع، ومن ثم تعميهم عن محاولة تغييره سفسطة ثقافية بلا معنى ولا هدف، بعيدًا عن الالتزام بالحياة ومشكلاتها الفعلية ومواطنيها الكادحين البؤساء، والنتيجة هي المسافة البعيدة التي تفصل بين هؤلاء والكائن المسكين الذي يضنيه الفقر والمرض، ويمكن أن يموت إلى جوارهم دون أن يشعروا به، ما ظلوا غارقين في الرمال المتحركة للأفكار العقيمة (مهما كان بريقها الظاهري) التي تعزل الإنسان عن الإنسان، وتحول بين المثقفين ورؤية آلام الواقع الفعلي الذين هم طرف لابد أن يكونوا فاعلين فيه، ولا شك أن رفاق اليسار أعجبهم التضاد الذي تنبنى عليه القصيدة، والإدانة غير المباشرة للمثقفين المعزولين عن آلام الواقع وأوجاع بؤسائه: معذبو الأرض.

ولا بأس لو ابتعد الشاعر هونا، ولوقت قصير، عن ضرورة التزام المثقفين، وتوقف ليتأمل أداته الشعرية - القصيدة - والبداية هي الحديث عن الهجرة الرمزية التي تحمل ملامح شبه صوفية إلى الشعر، وتأتي «أغنية ولاء» (الآداب 4/1956)، في هذا السياق، ابتهالة طقسية إلى الشعر الذي يرتحل إليه الشاعر، كما يرتحل الصوفي إلى الحقيقة المطلقة، متجردًا من كل شيء إلا رغبته في أن يكشف له الشعر عن بعض المخبوء من أسراره، وترتبط رمزية الرحلة برمزية الليل التي ترادف الإبداع في التقاليد الممتدة إلى جبران، وفي هدأة المساء، والظلام خيمة سوداء، لا تسمح بدخولها إلا لمن كسر في هوى الشعر طينة الإنسان، وصفت روحه التي تخلصت من أدران الجسد، فليس في طريق الشعر أي رجوع، فَسِرُّ الرحلة في امتدادها الذي لا يتقهقر فيه الخطو، والذي يغدو هدفًا في ذاته، بعيدًا عن أي احتمال للوصول إلى نقطة للانتهاء.

ولا فارق كبيرًا بين قصيدة «أغنية ولاء» وقصيدة «رحلة في الليل» (الآداب 3/1955) التي هي - في نهاية الأمر - رحلة القصيدة إلى الشاعر، أو رحلة الشاعر إلى القصيدة، وهو المعنى الذي جعل صلاح يفتتح القصيدة، في مطلعها الأول بقوله:

الليل يا صديقتي ينفضني بلا ضمير
ويطلق الظنون في فراشي الصغير
ويثقل الفؤاد بالسواد
ورحلة الضياع في بحر الحداد

ولا تمضي القصيدة في عتمة الليل إلى النهاية، إذ سرعان ما تنطوي على التفاؤل الذي يتجسّد رمزيًا في نزهة الجبل، أي الانعتاق، وهو المعنى الذي يحققه «السندباد» الذي أصبح رمزًا متكررًا لرحلة الشاعر إلى القصيدة، ورحلة الكائن في الوجوده، ورحلة التائه وراء الحقيقة والإنسان وراء المعرفة التي لا نهاية لها ولا حدّ. وتنتهي القصيدة بالفجر، أي الولادة الجديدة للنفس في دورة الحياة الأبدية التي تظل قائمة إلى الأبد. لكن بما يأتي بعد نبرة التفاؤل التي تبسط دلالاتها على ما بعدها، في جمال عيون العاشقين حين يبسمون، وفي بهجة تجدد الحياة في المخاض الذي يلجئ النساء للوساد، وأخيرًا، في لعب الأطفال فوق أسطح البيوت لعبة العريس والعروس، والتبات والنبات، والورد في خد البنات.

أحنُّ إلى أرض العراق ويعتلي فؤادي خُفوقٌ مثلَما يَخفُق الآلُ
وما الهول غِشيانُ الدروبِ وضيقُها عراكُ الهوى والوجدُ والذكرُ أهوالُ
خليليَّ أدنى لللَّبيب رُقيُّهُ إلى النجم من أن يَسلَم العزُ والمالُ
ألا مُبلغٌ عني «المعرِّيَ» أحمداً ليسمَعَه والشعرُ كالريحِ جوّالُ
بأني وإيّاه قرينا مصائبٍ وإن فرَّقت بين الشعورينِ أحوالُ
وإني وإياه كما قال شعره: «مغاني اللوي من شخصكَ اليوم أطلالُ»


محمد مهدي الجواهري

 

جابر عصفور