العشاء الأخير

العشاء الأخير

إلى صلاح عبدالصبور في ذكراه

شعر

هذا اليومُ المشئومُ هو اليومُ الرابعُ عشر
من أيام السنةِ المشئومة.
تطلعُ فيه الشمسُ بجمرتها اليوميةِ حبلى
بالمعتادِ وباللامعتادِ تقول:
يا قاهرة إليك طعام اليوم.
غذاؤكِ من خبزِ الضجة
حصةُ عرباتِكِ من لحمِ المارة
مشربُها من دمِ المقتولين
هواؤك محترقٌ في رئةِ النفط
رَوِّي ظمأَ الأرصفةِ بخمرِ العرقِ المالح
نزي ثرثرةَ الليلِ وعومي في حممِ الأسفلت
افترسي وجبتكِ المعتادة من أحلام الفقراء.

***

سارت حتى اتخذت مجلسَها المعتاد
ومن بين أصابِعِها ألقت حصةَ هذا اليومِ من الضحكاتِ وقالت:
أعلو فوق سمائك يا قاهرة
وأدلقُ آنيةَ النارِ الصيفية
وأكبّلُ أفراسَ الريح.
أدخلُ في شريانِ النهرِ فيغلي حتى يرتعشَ من الحمى
يتفصدُ جسدُكِ عرقًا
تتسلخُ أعضاؤُك
وتلينُ الأطرافُ من الرعشة
نامي
ترتد إليكِ بكارتُك طهارتك الأولى
وترقين فلا يخطرُ فوق أديمك
غيرُ اللصِ وغيرُ العاشق والشرطي
ومن يجتمعونَ على دمِ الشاعر!
- قالوا:
«مدوا المائدةَ الليليةَ فهو يحبُّ السمر
ويأتنسُ بثرثرةِ الليلِ الناعم
ومنادمةِ الخلان
واروا عن عينيه التابوتَ الذهبي
وجروه بخيطِ الجدلِ الساحر
ثم اتخذوا سمتَ الندمان
وقولوا أطربنا
أنت طروبٌ تشجيكَ الألحان».
- أطربنا.
فانساب الصوتُ الطيبُ قال:
أغني لمدينتنا
وبلغتي أدعو مَن يعشقها أن يطرب
ويغني وينادم
يا ليل أحبك
أيقظ أهلي فأراقصهم.
قالوا:
- علمنا.
فانساب الصوتُ الطاهرُ قال:
- أعلمكم أن العاشقَ لا يكرهُ أبدًا.
أن القلب إذا أسكره الحبُّ تمايل
وإذا عذبه الصدُّ بكى
لكن أبدًا لا يكره.
إن المعشوقةَ لو تجفو
فعلى العاشق أن يدنو
وإذا ملت
فليتقربْ أكثر.
أن العشقَ دوامُ الصحبة.
أرضُ العاشِق بستانٌ فيه الزهرةُ والشوك
وفيه الثمرُ الناضجُ والفاكهةُ الفجة.
أبدًا لا نتخيرُ من نعشقهم
بل تخرجُ من ضلعِ العاشق معشوقتُه
في أرضِ المعشوقةِ تخضرُّ جذورُ العاشق.
قالوا:
- باركنا نحن حواريوك
إليكَ أتينا من غربتنا
ألقتنا سنواتُ النأيِ على شطك.
قال:
- يصيحُ الديك
وقبلَ صياح الديكِ تضيقونَ بأغنيتي
يسلمني الكرهُ الكامنُ في الأفئدة إلى السياف.
قالوا:
- أطعمنا.
قال:
- دمائي تروي النارَ المخبوءة
لحمي بين أظافركم.
إني أكشفُ صدري
من يطعنني تحملُ صورتُه الصحفُ السيارة
يصبحُ ثرثرةَ الحاناتِ ويركبُ عرباتِ الشهرة
لكن أبدًا لن يسرق من بين ضلوعي
سرَّ النغم ولن يخطفَ من بين عيوني
ألقَ العاشق.
قالوا:
- نحرق أشعارَكَ في طقسِ الكره
لماذا ننعق نحن وأنت تغني!
قال:
- لأن الأرضَ تعلمني
أن البذرَة تضحكُ للمحراثِ إذا عانقها.
أن الثمرَة تسقطُ في حِجْرِ الطفلِ
إذا اشتاقت أن يطعم منها.

***

صمتوا
والتمع الخنجر في الأيدي.
قال الشاعر:
- يا وطني أهواكَ ولو عذّبني عشقُكَ.
مبتدأُ الرحلة أنت
نهايتُها أسكنُ في صدرِك.
باركني حيثُ أموت
وثبتني سطرًا في أغنيتك.
واصنع خاتمتي أنت
لترثيني لا أرثيك.

***

- تمت أغنيةُ الشاعرِ فاندق الخنجرُ في الظهر
وقرّت ما بين الكتفينِ الطعنة.
قالوا:
- قتلتك الكلمات.
أجاب:
- فمن يحملُها بعدي؟
«يا أهل مدينتنا
انفجروا أو موتوا
رعبٌ أكبرُ من هذا سوف يجيء»

 

أسامة أبو طالب