قصص على الهواء

قصص على الهواء

تنشر هذه القصص بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
أصوات شابة في القصة العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
--------------------------

تتميز قصة أجوبة عن أسئلة الوصية لعمران عز الدين أحمد بجوّها الطريف القائم على ما يسمى السخرية السوداء. فالراوي شاءه الكاتب من عالم الأموات، أسند إليه مهمة السرد ليعبّر من خلاله عن معاناة الأموات التي لا تختلف عن معاناة الأحياء. إنها السخرية السوداء من الواقع السياسي المتجليّة في المهمة التي عرضها أحد المسئولين على الراوي الميت، وهي مراقبة الموتى الذين باتوا يزعجون «أسيادهم الأحياء» ويهددون استقرارهم، وكتابة تقرير يومي عن حركتهم. وعندما يرفض الراوي - الميت أداء هذه المهمة، يطلق المسئول النار عليه ويقتله مرة ثانية.

***

وتجمع قصة المضطهد لعماد الداجر بين الواقعية والاتجاه النفسي، شخصياتها قصصية بامتياز ومرسومة بسرعة غالبًا ما يتطلبها الفن القصصي أو فن القصة القصيرة. الشخصية الرئيسة فتى «نحيل» يشعر بالخيبة أو بعقدة النقص الدوني إزاء زملائه الموظفين في المستشفى. الفتى الذي يعمل في قسم التنظيف ورفع الأوساخ والمهملات يعلن ما يشبه الإضراب ويرفض رمي سلال المهملات، وكأنه يحاول أن ينتقم لنفسه من أولئك الذين يعلونه مرتبة. إنه تمرّد عفوي يقوم به هذا الفتى ضد الموظف السمين الذي يضطهده ويحتقره، وكذلك ضد الموظفة السمينة بدورها (يا لهذه المفارقة) التي يخافها. قصة جميلة، ذات نفحة إنسانية، تنتمي إلى التيار الواقعي القائم على نقد الواقع وفضح مآسيه الصغيرة.

***

أما بقاء الياسمين، لناجي ظاهر فهي قصة مؤثرة، خصوصًا أن أحداثها تدور في الناصرة، المدينة الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل. تتناول القصة العلاقة بين الابن والأم في لحظة وجدانية عميقة. الأم التي تجد نفسها قد تقدمت في السن وأصبحت عاجزة عن خدمة نفسها، تخبر ابنها بأنها لا تريد أن تكون عبئًا على أحد، إنها الصدمة بالنسبة إلى الابن الذي جاوز الخمسين من عمره، ومازال يشعر بأنه طفل في عيني الأم. إنها قصة الحنين بامتياز. وقد ترمز الأم هنا إلى الأرض في معناها الوجودي والوجداني العميق.

***

والبعوضة، لعلي زندال قصة ذات مناخ «كافكاوي» وعبثي. إنها قصة الصراع بين البطل الراوي والبعوضة. صراع ينتهي بانتصار البعوضة أو بعجز البطل عن قتلها، هي الحشرة الصغيرة التي تقضّ مضجعه كل ليلة، سارقة منه النوم وجاعلة إياه في حال من التوتر والانقباض. يطارد البطل - الراوي البعوضة كالمجنون، من جدار إلى آخر داخل الغرفة الفقيرة، وشيئًا فشيئًا تتحول البعوضة هاجسًا، بل كابوسا يماثل كوابيس الكاتب فرانز كافكا. قصة طريفة جدًا وذات مغاز واضحة وهي لا تخلو من السخرية المرّة.

***

ارتعاشة قلب لسمية عبدالقادر شيخ محمد تدور حول العلاقة السلبية بين الزوج والزوجة. لكن الزوجة التي تشعر بالمهانة عندما يعلن زوجها الطلاق منها شفهيًا لن تكون وحدها الضحية. فالزوج سينتهي نهاية مأساوية بعد أن يفترسه المرض. لحظة اللقاء الأخير بين الزوجة - الأم وزوجها المريض في الغربة (جنيف) ستكون مأساوية بامتياز. قصة جميلة وعميقة في أبعادها التي تصوّر المرأة كائنًا ضعيفًا وهشًا في مجتمع مازالت تسيطر عليه الثقافة الذكورية.

أجوبة عن أسئلة الوصية..!
عمران عزالدين أحمد (سورية)

حن ابني، على ما يبدو، إلى توبيخي المستمر له، بسبب فشله في كل المجالات التي عمل فيها، وقرر في لحظة يأس أن يزورني في قبري حاملاً إليّ أجوبة كنت قد طلبتها منه أثناء كتابتي للوصية. وكانت أسئلة طالما حيرتني وأقلقتني، عما سيئول إليه الحال من بعدي.

قال ابني: إنه تعذب كثيراً قبل أن يحصل على التراخيص الكثيرة التي تخوله زيارة قبري.!

ثم تحدث عن جنودٍ يتناولون الإفطار، بعد تحية العلم، على مائدة واحدة مع غرباء كانوا يسمون في ما مضى بالأعداء المتربصين.

أخبرني حارس المقبرة أن شخصية على درجة كبيرة من الأهمية ستزور قبري اليوم، فلم أصدقه ونبهته إلى ضرورة التقيد بواجباته على الوجه الأكمل، وذلك لأنني لا أحب هذا النوع من المزاح الثقيل، فضلاً عن كرهي الشديد لجميع الأشخاص المهمين والمسئولين والذين مجرد ذكرهم أمامي كفيل بتعكير مزاجي وصباحي إلى حين. لم أكد أنهي كلامي حتى سمعت أصوات سيارات قادمة باتجاهي ومزامير قوية وصفارات إنذار وأعيرة نارية.

كان ذلك المسئول شخصًا غريبًا. تأملني بقرف من رأسي حتى قدمي كثيرًا مستطلعًا مرة ومتفحصاً مرة أخرى، وعندما كان يضحك، كان جميع حراسه يضحكون، وإذا صرخ تكوم بعضهم على بعض كفئران مذعورة. ومن دون سبب لان كلامه معي، وربت على ظهري وكأنه تذكر شيئاً ما وبادرني:

ـ ما أخبار جيرانك الموتى..؟!

قلت له: بخير......!

استدرك كالطامع في إجابة غير مقتضبة:

ـ كيف..؟!

قلت: لا ينقصهم شيء وكل في حاله.

فقاطعني قائلاً بنبرة حادة ولهجة تحذيرية:

ـ جيرانك الموتى يقلقون أسيادهم الأحياء الذين يسكنون فوقهم بثرثراتهم وتجمعاتهم الرامية إلى زعزعة استقرارهم.

وأردف متعشمًا: بناء على ذلك كوننا تأكدنا من سيرتك الذاتية وعدم ارتباطك بنشاط من هذا النوع سنطلب منك كتابة تقرير يومي ونجزل لك العطاء كلما كانت المعلومة التي تتحفنا بها قيمة، هه... ماذا قلت..؟!

أجبته يائسًا ومدركًا المصير الذي سأنتهي إليه: آسف يا سيدي.. لا أستطيع.. لست الشخص الذي تبحث عنه.

فاهتاج وانفجر في وجهي كالقنبلة وأخرج مسدسًا من جيبه وأفرغ رصاصاته في رأسي وانصرف بالشكل الذي جاءني به.

فعدت إلى قبري متحسرًا ومتأسفاً - دون مرافقة هذه المرة - ومت موتةً أخرى..!

في اليوم التالي، طلبت من الحراس أن يحضروا ابني أمامي حياً أو ميتاً كي أسأله عن أمه وأخواته البنات، وعما آلت إليه حالهن بعد وفاتي، وعندما مثل بين يدي قال لي: إن أمه قد تزوجت بعد وفاتي وقبل أن تنهي العدة من رجل يصغرها بعشر سنين، وأن أخواته البنات قد كبرن ولم يعد يراهن إلا في المناسبات.!

سألته عما يفعل هو..؟

قال مزهواً بنفسه : أنظم المواعيد وأقوم بملاحقة الزبائن وأقبض منهم مستحقات أمي وأخواتي البنات.!

خرجت من قبري واستأجرت أول سيارة أجرة صادفتها وطلبت منه أن يقلني إلى الملهى الذي أخبرني ابني بأن والدته وأخواته يعملن فيه، وعندما وصلنا فتحت باب السيارة وكالرصاصة ولجت من باب الملهى فرأيت زوجتي ترقص نصف عارية وبناتي يصرخن في أحضان رجال ذوي سحن قبيحة.

قبل أن ينقلوني من الملهى إلى قبري ثانيةً اقتحم رجل جمع المعزين وصرخ فيهم مشيرًا بسبابته إلي: انتظروا... أنا سائق التاكسي، هذا الرجل لم يدفع لي أجرتي!

المضطهد
د. عماد حسين الداغر ( مصر)

كان الفتى النحيل الذي يقف في نهاية الممر ينظر بعينين زائغتين ويحرك يديه بعصبية، توحي بأنه يرفض أن يعمل شيئًا لأحد أو يخاطب أحدًا..

بينما وقف بباب إحدى الغرف موظفٌ سمينٌ ينظر بشزرٍ وملل نحو الفتى. قائلاً في نفسه : كم هو عنيد. دعه الآن. إنه سيفعل ما يؤمر به إن عاجلاً أو آجلاً.

وبقيت سلة المهملات في مكانها بالرغم من إلحاحه على الفتى بضرورة رميها خارج البناية، ناداه ثانيةً. فأجاب بحركةٍ عنيفة من يده. وأدار وجهه الناحية الأخرى.

فأزاح الموظف السلة جانبًا بعيدًا عن الباب. وهو يقول: سيتخلى عن عناده. ليس هناك داعٍ لأن أشكوه للمدير. ثم أغلق الباب وعاد إلى عمله في داخل الغرفة.

بعد فترة وجيزة أتى ضيف إلى الغرفة فأزاح السلة جانبًا ودخل الغرفة ثم أغلق الباب وراءه.

قفز الفتى ثانيةً ووضع السلة في المنتصف تمامًا. وهو يشعر بسعادةٍ، إنه ينتقم. في الصباح رفض أن يجمع الأوساخ، فقام بقية الموظفين بجمعها ووضعها في السلال، وهو ينظر لهم متشفياً بهم. لقد أغضبوه.. وهم لا يعلمون ما يمكنه أن يفعل إذا غضب، دعهم يتوسلون لي.. لن أساعدهم.

جاءت امرأة تصرخ فيه بغضبٍ: تعال ارم هذه الأوساخ بسرعة.

إنها هذه السمينة.. لن أرمي أوساخها. أنا أكرهها.. ستضربني إن لم أرم أوساخها.

صرخت ثانيةً : هيا قم.. وخذ السلة.

بدأ يرتعد خائفًا. فأخذ السلة ببطءٍ وأمسكها بأطراف أصابعه. وخرج من البناية. وبعد نصف ساعة عاد حاملاً السلة بأطراف أصابعه ورماها أمام السمينة، خذي هذه سلتك.

- أين كنت ؟ لماذا تأخرت؟ ألا ترى أننا بحاجة إلى السلة لنضع فيها «السرنجات» المستعملة، ثم قامت وهي تصرخ فيه وبغضب. ولكنه أدار ظهره لها وذهب يتمشى بعيداً عنها.نرفزةً، رأت نصف السلة لايزال مملوءًا بالأوساخ :

- يا مضروب.. يا خبيث.. سوف لن أنساها لك... ولن أعطيك شيئاً بعد الآن. لم يعرها اهتمامًا. وبقيت عينه على السلة الأخرى بالباب فوجدها قد زحزحت من مكانها. ذهب مسرعًا ليضعها أمام الباب مباشرةً. وهو يكلم نفسه : وأنت سترى. سترى ماذا أفعل بك.

وفتح الموظف الباب وإذا به يصطدم بالسلة. فصاح غاضباً:

ـ لماذا لم ترمها ؟.. لماذا تضعها أمام الباب ؟ لقد أغضبتني.. سأطلب من المدير أن يقطع راتبك.

لم يهتم، ستأتي أخته لتأخذ الراتب منه قبل أن يتسلمه، إن أخته وأمه الكفيفة وبقية إخوته يعيشون من هذا الراتب... دعه لهم فلماذا يهتم...إنه لا يعرف ما يفعل بالنقود. إنها وسخ دنيا.. وأنا لا أحب الأوساخ. وقف الموظف.وصاح به آمرًا:

ـ تعال.. وارم هذه الأوساخ.. لن تشرب الشاي منا ثانيةً.. سأجعلك تندم.. ولن أشتري لك البسكويت.. ولدينا أيضاً حلويات.. لن نعطيك منها.

ركض مرةً أخرى ليضعها أمام الباب مباشرةً وهو يصرخ:

- انظروا هذه أوساخكم ما أكثرها وأنا ليس لدي أوساخ، وأنتم ترفضون أن تقفوا معي، أو أن تأخذوا صورةً معي. أنا الأجمل... أنا الأفضل... أنا الأحلى. هنا فهم الجميع السر وراء غضب الفتى وإعلانه الإضراب ورفضه التنظيف.

لقد منعوه من أخذ صورةٍ معهم وهم يقفون مجتمعين. لقد رأى الصورة وقد ظهر فيها الجميع عداه. أرسلوه ليرمي الأوساخ ليأخذوا صورةً دونه. فلما عاد خدعه ذلك الموظف. والتقط له صورةً وضعها في جهازه.. ولم يعطها له. إنها أجمل صورة. كان يقف فيها متخصرًا رافعًا رأسه إلى الأعلى فاتحاً فاه بابتسامةٍ عريضة تظهر جميع أسنانه وحتى لسانه يمتد من خلال الأسنان المكسورة.

ألح على الموظف أن يعطيه الجهاز. فلم يقبل. إنه يريد أن يري صورته لأمه ولأخوته. ليعرفوا كم هو جميلٌ وجذاب.

فهم الموظف ما يريد الفتى. همس في أذن زميله وأعطاه جهازه النقال.. فأسرع هذا إلى أقرب محل لطباعة الصور، واقترب الموظف من الفتى وقال له: إن جهازه عاطل. وهو آسف لأنه لم يعطه صورته. ووعده أنه سيصلحه حالاً ويجلب له الصورة ليعطيها له.

- والآن تعال واجلس معي في الغرفة. إن الشاي لايزال ساخنًا.

- هل ستعطيني صورتي ؟ لن أشرب الشاي معكم حتى أرى صورتي. ولن أرمي أوساخكم بعد الآن.

أنا لست أقل منكم أهمية في هذه الدائرة. بل أنا أهمكم. وأنا أُنظفكم... وأنتم توسخون... أنا لا أؤذي أحدًا. وأنتم تؤذونني. وتؤذون الجميع. أنتم تكذبون. وتنافقون.. تضحكون مع أصدقائكم وبعد لحظات تسبونهم.. وتعيبونهم.. أنا لا أفعل مثلكم... وصورتي ستبقى هي الأحلى بين صوركم مهما قلتم أو فعلتم....

بقاء الياسمين
ناجي ظاهر (فلسطين)

أرسلت أمي ذات صباح نظرة ذات معنى، وقالت:

- اسمع يا ولد.

أحسست في صوتها برنة غريبة، لم اسمع مثلها، سوى مرتين في حياتي، كانت الأولى قبل نحو ثلاثة عقود، يوم طلبت مني أن استيقظ، فاستيقظت لأجد أبي وقد مات. وكانت الثانية يوم أخبرتني أن أختي المقيمة في بلدة أخرى، بعيدة عن الناصرة، قد احترقت.

دق قلبي بخشية:

- نعم يا أمي.

- اسمع يا ولدي. لقد كبرت وأنا لا أريد أن أكون عبئا على أحد. يوم الخميس سأذهب إلى مكتب الشئون الاجتماعية، سأسأل هناك إن كان بإمكانهم أن يرسلوا إلي من تقوم بمساعدتي.حتى أبقى في هذا البيت، إن لم أجد ذلك، ساطلب أن يأخذوني إلى ملجأ للعجزة، في مدينة طمرة، تأميني الشخصي يغطي تكاليف مكوثي هناك، لا أريد أن أضايق أحدا. سأبقى هناك حتى أموت.

صمتت أمي وران صمت على الغرفة. أتراها أرادت أن تمتحن قدرتي على فراقها؟ أم أرادت أن ترسل كتاب عتاب إلى أختي، المقيمة في بلدة أخرى وتلك المقيمة بالقرب منها، وربما إلي والي زوجتي المتمردة وأخوي وزوجتيهما؟

سألت امي:

- لماذا تقولين هذا الكلام؟

فردت:

- أنت تعرف أنني قضيت عمري لا أحتاج إلى أحد، وها هو المرض يهدمني

- لكنك مريضة يا أمي، ولست أول من يمرض ولا آخر من يمرض. ثم إن الله خلق الطب والدوا.

- أي دوا يا ولدي وأي طب. الموت هو مصير كل إنسان.

فهمت ما أرادت أن تقوله، إلا أنني تغابيت شأني في مثل هذه المواقف:

- اعطني يا أمي يومين أو ثلاثة أيام حتى أرى ما يمكن أن أفعله.

وهزت أمي رأسها علامة الموافقة، مضيت خارجا من البيت، لا اعرف إلى أين أتجه ولا ماذا أفعل. سرت في الشارع، كان حزينا، مددت يدي إلى شجيرة ياسمين استرخت على سور بيت الجيران. شعرت بأن الياسمين حزين. ترى سيأتي يوم أيها الياسمين ولا أراك، لولا وجود أمي في هذا البيت ما أتيت إلى هذا الحي. وتصورت دمعة تهمي من عيني الياسمين، وبغصة في حلقي. إلى أين سأذهب تاركا هذا الياسمين؟

ومضيت لا أعرف إلى أين اذهب، وبي رغبة في أن يبقى الياسمين، في أن ينشر رائحته الذكية في البيت والحارة والبلدة. ماذا بإمكاني أن أفعل؟ والى أين أذهب في هذا الصباح؟ هل أذهب إلى أختي في البيت القريب؟ أستجديها أن تحدب على أمي كما رعتها أيام كنا صغارا؟ أم أذهب إلى زوجة أخي؟ أم أذهب إلى زوجتي؟ إلى أين أذهب وماذا أفعل؟ ماذا أفعل وأنا أعرف الأجوبة مسبقا؟ أأبقى بانتظار أن يأتي يوم الخميس؟ وأن تنتهي الأشياء من تلقاء ذاتها؟

أعرف أن أمي أرادت أن تحضّرني للحظة الأصعب في حياتي، وإلا لماذا هي اختارتني من بين الجميع لتخبرني بما أخبرتني به؟ اعرف أنني اعز عليها وأنها تعيش حتى هذا الوقت، ولم تسأم تكاليف الحياة من أجلي أنا طفلها ابن الخمسين. هي لم تخف إحساسها وقالت لابنتي الشابتين يوم تكرمتا وزارتاها، إنها تحبني, أنا أبوهما، وأنها لولا وجودي إلى جانبها لكانت ماتت منذ فترة بعيدة.. من زماااااان.

أحقًا أمي تريد أن تحضّرني للحظة القاسية المرة؟ ولم لا؟ إنها تحبني ولا تريد أن ترى دمعة في عيني حتى لو كان هذا بعد رحيلها. أنا اعرف كم هي رحيمة بي، وكم يؤلمها ألمي. أعرف هذا جيدًا. هي إذن تريد أن تكتشف مدى رغبتي في بقائها. كيف غاب هذا عن ذهني المكدود؟ كيف؟ ما أغباني، ما أغبى الإنسان فيّ؟ لماذا لم تخطر في بالي هذه الخاطرة؟ فعلا أمي تريد أن تعرف مدى رغبتي، أن تمتحن قوة إرادتي، فهل أوافق على أن ابتعد عنها؟ هل بإمكاني أن أعيش من دونها؟ إذا كان بإمكاني، وهذا يتجلى في موافقتي على ذهابها إلى مكتب الشئون الاجتماعية يوم الخميس، فإنها ستذهب من هذا العالم مطمئنة، وإذا لم أوافق، فإنها ستبقى على مضض ومن أجلي.

في تلك اللحظة فقط، عرفت إلى أين سأذهب، الآن الآن وليس غدا سأذهب إليها، إلى أمي، سأذهب إليها هناك في بيتها، وسأقول لها، أنت لن تتحركي من هذا البيت، ستبقين هنا ما بقي الياسمين، وأنا وليس سواي من سيساعدك، أنا من سيكون إلى جانبك يا أحب الناس إلى روحي ويا أقربهم إلى قلبي.

البعوضة
بشير علي زندال (اليمن)

أخيرًا امتلكت غرفة خاصة بعد أن كنت أنام مع إخوتي في غرفة واحدة وأتى الصيف بحره اللذيذ - لأنني أحب الحر وأحقد على البرد - وغزانا البعوض. وهكذا، بدأت الحرب معه في كل مساء أتقاتل معه وتخرج أصوات المعارك إلى بقية غرف البيت،فأحيانا يسمع إخواني صوت التصفيق وتارة يسمعون أصوات ضرب يدي على الجدار وتارة صوت قطعة قماش ارميها على السقف ثم أنام بعد نصف ساعة من المعارك اخرج فيها منتصرًا.

تمددت ككل ليلة مزهوا ومزيحًا الغطاء عني، وبدأت النوم الجميل ولكن فجأة (زززززززززز) سمعت صوتًا أستطيع تمييزه جيدًا، إنه صوت بعوضة، من أين أتت؟ وكيف لم أجدها؟ فقمت مسرعًا وأضأت النور وبحثت جيدًا عن مصدر الصوت ولمحتها على إحدى الستائر، وتسللت نحوها تسلل الواثق، إن يدي ستسحقها بكل بساطة وانقضضت عليها بكلتا يدي وتلاقت يداي وقد سحقتا بعضاَََ من الستارة فتأكدت أنها بين يديّ وفتحت يديّ بهدوء محررًا أجزاء الستارة من راحتيَّ، ولكنني لم أجد البعوضة، كيف أفلتت مني فنظرت بسرعة إلى أرجاء الغرفة علّي أجدها فلم أجدها، أين ذهبت؟

فكرت قليلا وأطفأت النور لمدة دقيقتين وظللت واقفًا أنتظر ظهورها لأنني متأكد من أن البعوض لا يتحرك إلا في الظلام، وسمعت صوتها أخيرًا فتحققت من مصدر الصوت وعرفت أنها في الجهة اليمنى من الغرفة أضأت النور، وأجبرت عينيّ على أن تتعودا الضوء، بسرعة نظرت ووجدتها هناك على الحائط فتسللت في هدوء وفي حذر خوًفا من أن تضيع مني هذه المرة، وجهزت راحتي اليمنى لتنقض عليها وتنفست قليلا وهدأت وركزت لأتأكد أن البعوضة لن تفلت مني هذه المرة ورفعت يدي و«طاخ» ضربت بقوة على الحائط، ولكنها طارت فحاولت أن الحق بها بسرعة وأسحقها بيدي، ولكنها أيضًا أفلتت وأسرعت عاليًا، صعدت على إحدى الوسائد كي تعطيني مزيدا من الطول حاولت سحقها ولكنها أيضا أفلتت مني وفقدت توازني وسقطت على الأرض.

وبدأ الإرهاق يغزوني، وكنت في أمس الحاجة إلى النوم، فكرت أن أذهب لأنام في إحدى غرف إخوتي، ولكني أعرف أنهم لا يحافظون على غرفهم مغلقة كما أفعل، قررت أن أنام مهما يكن، لن أنير الغرفة مهما كانت النتائج واستلقيت وبدأت أعصابي تتراخى، وبدأ رأسي يثقل في لذة جميلة، لذة النوم، لكن...... وآه من كلمة لكن..... لقد سمعت صوت البعوضة المخيف في أرجاء الغرفة ولثقل رأسي وتعبي الشديد لم أميّز من أي مكان يصدر الصوت فرفعت الغطاء الى وجهي لأتقي شر البعوضة ولكن الحرارة كانت قاتلة أكثر من البعوضة، فأبعدت الغطاء عن وجهي وأنا أتنهد فاقترب الصوت (زززززز) أكثر وأكثر مني فتوقفت عن التنفس ظنًا مني أن البعوضة لن تعرفني ولكن هيهات لقد اقتربت مني، وسمعت الصوت يقترب مني، وحط في جانب وجهي الآخر فقررت بسرعة أن أسحقها على وجهي حتى لو أتألم، فرفعت يدي في الظلام ودققت عن مصدر الصوت ولطمت وجهي بشدة ولكنني سمعت صوت البعوضة يبتعد أي أنها نجت من اللطمة التي لم أنج منها أنا.

فأخذني اليأس وهدني التعب وأعلنت استسلامي لها وحطت في إحدى وجنتي فتركتها تمص لها القليل من دمي، وذلك لأشتري راحتي، فغرزت إبرتها في هدوء وشعرت بالذل منها وهي تمص دمي رغما عني وعن إرادتي وكرامتي، ونمت، وربما فقدت الوعي وصحوت في الصباح، ولا أدري متى انتهت البعوضة من مصها لدمي، ولا كم مقدار ما مصته مني، المهم أنني عندما صحوت، كنت أشعر بإعياء شديد بعد معركة البارحة التي خرجت فيها مهزومًا، اتجهت إلى المرآة، ورأيت أثار الوخزة على وجنتي كأنها لطمة ذل وهوان.

ارتعاشة قلب
سمية عبد القادر شيخ محمود (الصومال)

اقتربت من طفلي حازم ذي السنوات الخمس وحملته بين ذراعي أودعه، طوقني بقوة يرجوني البقاء، طمأنته بأن غيابي لن يطول وعودتي مؤكدة. تركته مع صديقتي وحملت حقيبتي هأنا في طريقي إليك ياجنيف، ليس لقضاء شهر عسل كما في زيارتي الأولى بل في رحلة عمل سريعة لن تستغرق سوى أسبوع واحد.

أحسست برغبة شديدة في التراجع، يعلم الله أنني لم أرد العودة إلى جنيف أبدا خوفا من سيطرة الذكريات علي، لكن السيد لورانس هانز رئيسي في العمل أرسلني لتقديم تقرير مهم باليد لمكتب الأمم المتحدة هناك وتسلم الجواب أيضًا.

حين دخلت الطائرة التفت حولي ثم نظرت إلى تذكرتي وجلست في مقعدي المحدد قرب النافذة، أخذت أردد أذكار السفر، واتخذت قرارا بيني وبين نفسي، لن أزور أي مكان يذكرني بزوجي السابق الذي علمني البكاء لا إراديا وأوصلني إلى ذروة اليأس عن سابق قصد وترصد.

أليست رؤية حازم أكبر عقاب لي، إنه نسخة مصغرة عن نديم. كم أضغط على نفسي لئلا تهزمني دموعي. لأول مرة عرفت لماذا لا يمكننا أن ننسى الحب الأول؟لماذا لا ننسى طعم جرحنا الأول ؟لماذا نشعر بأننا نهوي من علٍ عند تلقي الصدمة الأولى؟ مؤكد أن طعم الذل مرّ وأن ما يزعجني حقاً هو ما فعلته يوم أراد أن ينطق بتلك العبارة البغيضة ـ أنت طالق ـ هرعت نحوه بجنون ووضعت يدي على فمه أرجوه ألاّ يقولها. أسأل نفسي دومًا: «أين كانت كرامتي في تلك اللحظة؟» طلبت منه باكية أن يرسل لي ورقة الطلاق وألاّ يقولها في وجهي. هل يشعر الرجال بهذا الألم الذي يشطر الروح عند الانفصال؟

خمس سنوات وبضعة أشهر، ولم أره قط أرسلت لأخته التي كانت أعز صديقاتي رسالة أخبرها عن حملي آملة أن يتراجع نديم. كم كنت غبية وذليلة حينها. هل كان يستحق أن أفقد الوعي عندما وصلتني ورقة الطلاق. كم كانت صفعة أختي لي مؤلمة عندما رجوتها أن تطلب من نديم حضور ميلاد صغيرنا ولا صوتها الغاضب وهي تزجرني.

شعرت بأنني أتعافى تدريجيا وأنّ الحياة من دونه ليست جحيمًا فقد عشت سبعة عشر عاما قبل أن أعرفه.لكن شيئا في داخلي مازال يهفو إليه. كيف سيبدو لي لو صدف وقابلته مرة ثانية في جنيف؟ كيف يمكنه أن يتجاهل وجودي طوال تلك الفترة ؟ ترى هل كنت أمرّ في خاطره وترتسم على شفتيه تلك الابتسامة التي طالما سحرتني قائلا بصوت حالم: «كم أشتاقها؟!».

صحوت على صوت المضيفة تهنئ الركاب على سلامة الوصول وهي تذكر تفاصيل عن جنيف، درجة الحرارة والتوقيت المحلي وسوى ذلك.

أخذتني دوامة العمل وشغلتني عن ذكرياتي لحسن الحظ لمدة أربعة أيام فقررت استغلال ما تبقى من الأسبوع في التجوال والاستجمام، وأطلت فكرة زيارة عائلة نديم بإلحاح عجيب فقررت عدم تفويت الفرصة على الأقل أشبع فضولي وأعرف ما حصل له خلال خمس سنوات.

ضغطت على الجرس بيد مرتعشة وقلب واله، ماذا لو فتح هو الباب، سوف يسخر مني بصمت وسيملأه الشعور بالغرور. آلمني ما تصورته فقررت الهرب قبل أن يفتح الباب، لكن شوقي رفض، سأهان لكنني.....

فوجئت بوجه رجل غريب نظر إلي باستغراب فسألته عن ندى، شقيقة نديم، فقدم لي نفسه بأنه زوجها ودعاني للدخول. كانت ثمة جموع غفيرة في الصالون، فتشت عن وجه مألوف دون جدوى، سمعت صوتا باكيا يهتف باسمي فالتفت بلهفة لأعانق ندى سألتها عن سبب بكائها والتعب البادي عليها، فأجابت بخفوت: «نديم يضيع منا يا أختي. لقد تعب جسده ولم يعد يستجيب للأدوية».

- «ماذا تقولين؟ ماذا حصل له؟».

- «تعالي، قد يسعده الآن أن يراك أخيرًا».

تبعتها في وجل وجسدي يرتعش لاإراديًا، وعندما تقابلت عينانا، مدّ لي يده بضعف وهو يقول بخفوت: «هل بدأت أهلوس يا ندى؟ أرى سلمى أمامي. إنها تبكي. هل بدأت في الهلوسة.عندما أموت قولي لها الحقيقة واطلبي منها أن تصفح عني».

شعرت بدوارخفيف فتشبثت بها، جذبتني نحوها برفق وهمست: « نديم، إنها حقيقة. أنت لا ترى الأطياف».

اقتربت منه وحاولت أن أتمالك نفسي وهمست باسمه بكل حناني وحنيني، وقبل أن ألمس يده الممدودة نحوي فقدت سيطرتي على أعصابي وأغمي عليّ. بعد كل تلك المدة أراه على فراش الموت؟! كان هذا فوق تصوري واحتمالي. وعندما أفقت كان الجميع في حالة ذهول ومجتمعين حول ندى وأمها!

حتى في لحظة كهذه بقيت على الهامش. الجميع يعزي أمّه وأخته ولا أحد شعر بوجودي. تسللت إلى غرفة الميت لأخلو معه، أبكي وحدي قربه.، لكني بمجرد ما أزحت الغطاء عن وجهه فقدت شجاعتي فهربت من البيت لأتجه مباشرة إلى الفندق لحمل حقيبتي ثم أعود إلى الوطن ولن يعزيني شيء سوى أن أضمّ حازم إليّ وأبكي وحدي!.

 

عبده وازن