فلسفة الكراهية.. المأزق والمخرج

 فلسفة الكراهية.. المأزق والمخرج

يقف الغرب بين العرب وإسرائيل - لسبب ظاهر أو خفي - موقفاً يفصح عن مثل حاد الدلالة على المؤازرة لعدوان مهما قبح, والاستهانة بحق مهما وضح, وموقف الولايات المتحدة من إسرائيل في استسلامها لسفهها وعدوانها من أكثر المواقف إيغالاً في باطل وإصراراً عليه, وسيظل هذا الموقف نبعاً يروي شجرة الكراهية والمرارة في وجدان الفرد العربي والمجتمع العربي, ومن وراء ذلك العالم الإسلامي, ومعهم من البشر كل من في طبعه مقت الظلم ومقاومة العدوان.

وفي ظل ظهور القطب الواحد, يكون الحديث عن هذا القطب أكثر وجوباً بمقدار ما له من تأثير, وموقف أمريكا من هذه القضية - وهو موقف شاذ في غرابته -يعزوه كثير من الناس إلى ذكاء اليهود وغنى اليهود, ومن ثم نفوذ اليهود, ومع أن الغنى والذكاء يصنعان نفوذاً يتناسب مقداره مع مقدار الغنى والذكاء, فإن هذا التعليل - فيما نعتقد - لا يعدو أن يكون إجابة سهلة عن استشكال صعب.

من المتعذّر الاقتناع بأن خمسة ملايين من البشر ليسوا جميعهم أغنى الناس ولا أذكاهم, يستطيعون أن يكونوا وحدهم المسيرين لمائتين وخمسين مليوناً والمؤثرين فيهم, لقصور في فهم هذا العدد الضخم أو غباء في طبعه أو ضعف في إرادته.

فالمجتمع الذي استقطب ملايين من العقول المبدعة, واجتمع فيه من البشر كل أجناسهم, تمازجت ثقافاتهم وتعددت خبراتهم وتجاربهم, يتعذّر أن تفقده أقلية لا تزيد عن 2% رؤيته أو تتحكم في إرادته وتسيّره إلى غير رغبته, والوثوق من ذلك والتصديق به يؤدي إلى تلك النتيجة المزعجة التي مؤداها أن هذه الفئة من البشر - أي اليهود - تستطيع تحريك أكبر قوة - منفردة في الأرض عن طريق التحكم من بعد, وعلى ذلك فهل من الممكن أن يستطيع العرب - مع ما هم عليه من حال أن يحققوا ما عجزت عنه أمريكا?

الأقرب إلى ما يُعقل أنه يمكن فهم موقف الغرب - ومنه أمريكا ـ في ضوء أمرين:

الأول: موروث تاريخ لايزال له وجود في الحاضر.

الثاني: سطوة معتقد مسيطر على الألباب.

فئتان

الغرب تعيش فيه فئتان مختلفتان في مفاهيمهما ونظرتهما إلى الناس والأشياء, بل قد تكون مختلفة في نظرتهما إلى الكون والحياة, ولكنهما مع كل ذلك متصالحتان في تعايشهما. هاتان الفئتان هما أكثرية غير متدينة, بمعنى أنها لا ترى في الكتب المقدّسة لديها أكثر من أثر تاريخي لا يتماسك تحت النقد, ولا يتكثّف تحت أشعة النظر (راجع الموسوعة البريطانية), وهذه الفئة ليس لديها موقف عداء أو مودة تجاه اليهود من الناحية الدينية, ولكن يأتي موقفها منهم وشعورها تجاههم لما اكتظت به علاقتها معهم من صنوف الغدر والجشع والاستغلال لما اختص به هذا الجنس من طباع جعلتهم موضع مقت كل أو جل من عايشهم وعرفهم, وذلك طبع لم يغيّره فيهم تطاول الزمن ولا تغيير الظروف. بهذا السبب أجلوا عن السامرة في عهد الآشوريين, وأجلاهم نبوخذ نصر إلى بابل, وشرّدهم تيتوس الروماني في عهد والده, ولم تبق دولة أوربية لم يتم إجلاؤهم منها مرة أو مرات, لقد أجلوا من فرنسا وإنجلترا وهنغاريا وبلجيكا والنمسا وهولندا وإيطاليا والبرتغال وبافاريا وروسيا وأمريكا, وأحرقت التوراة والتلمود في ميادين عدة, وإذا قبلتهم بلد للإقامة فيها, فرضت عليهم أن يعيشوا معزولين في مناطق خاصة بهم فيما يسمى الجيتو وليست رواية تاجر البندقية لشكسبير من ذلك ببعيد.

هذه السلسلة الطويلة من العزل والمطاردة والإجلاء في كل البلاد وفي أغلب سلالات البشر, لم تكن اتفاقاً غير مكتوب على ظلم بغير سبب حدث في كثير من الأمم في كل الظروف وفي جميع الأزمنة, والأقرب إلى ما يُقبل هو أن هذه الدول جميعها وجدت أن ما قامت به هو رد الفعل المناسب على ما جُبل عليه اليهود من طباع, والذي يخالط الغربيين - حتى في الولايات المتحدة - لن يجد صعوبة في أن يكتشف لديهم - المسيحيين - تجاه اليهود ذلك الشعور المستمد من التاريخ ومن مخالطتهم لهم في الحاضر.

في ضوء هذه العلاقة الطويلة, يمكن للمرء أن يفهم أن موقف غير المتدينين في الغرب من اليهود ليس نوعاً من الشعور الفيّاض بالنبل الباحث عن الاعتذار والتكفير عمّا لحق باليهود في عهد هتلر, ولكنهم - في الأغلب - يرون أن خروجهم من أوربا إلى فلسطين نوع من الجلاء الذي يرجون أن يكون الجلاء الأخير, فهم لذلك لا يعارضون ولا يتحمّسون لمقاومته إن لم يكونوا من المعينين عليه, مادام ذلك يخلّصهم من ضيف ثقيل أو مستوطن لا يؤمن جانبه.

على أن الموقف الأكثر حدّة في الميل إلى اليهود والمؤازرة لهم هو موقف فئة من المتدينين من الطائفة البروتستانتية, وهم أتباع الكنيسة الإنجليكانية ممّن يسمّون (المتطهرون) (PURITANTS), فهم يعتقدون أن العهد الجديد (الإنجيل ورسالة عيسى) ليس إلا امتداداً للعهد القديم (التوراة ورسالة موسى), وأن عودة المسيح مرهونة بقيام دولة إسرائيل, ومما تجدر ملاحظته - في هذا السياق - أن أغلب رؤساء الولايات المتحدة من رئاسة ترومان وحتى الوقت الحاضر من هذه الطائفة, فإذا أعطينا ما للعقائد الدينية من سطوة على النفوس والعقول مهما كان نصيبها من الحق أو الباطل ومن الغواية أو الهداية, وأضفنا إلى ذلك الإبداع العلمي الذي حققه مئات الأفراد من اليهود من أمثال وايزمان وأوبنهايمر وأينشتاين وسواهم ممن لهم مساهمات مشهودة في السياسة والاقتصاد والاجتماع, وما هم عليه من مظهر ديمقراطي فيما بينهم, وقورن ما تقدم بما عليه حال العرب في جميع أقطارهم وعلى كل مستوياتهم من وضع مغاير وجدنا التفسير أو بعض التفسير في موقف الغرب من العرب واليهود.

ولكن مهما كان حظ هذا التعليل والتحليل من الحجة, فإن موقف الغرب الواضح ظلمه وانحيازه لن يؤدي إلى المصافاة بين من أعان على الظلم أو سكت عنه, وبين من وقع عليه, والشعور بالمرارة والكراهية سيبقى حيّاً مادام هذا النبع يرويه وينمّيه, ولكن الكراهية - وحدها - إن جاز تسويقها تحت أي ظرف من الظروف - ليست المواجهة أو الإجابة الذكية والقوية على موقف ظالم أو منحاز.

كم منا مَن وقف يوماً ليسأل كيف أمكن لخمسة ملايين من البشر - أو أقل - فيهم قلة مبدعة في المجالات الصانعة للقوة والتفوّق أن يتغلبوا على مائتين وخمسين مليوناً لو كان في هذا العدد من القدرات العلمية والاقتصادية والسياسية ما يصل إلى مثل ما لدى عدوّهم من هذه الكفاءات.

هل كان من الممكن أن تتحدى هذه القلة وتهزم هذه الكثرة الساحقة لولا بقاء هذه الكثرة في مرحلة العجز عن صنع ما يحميها ويغنيها, فإذا أضيف إلى ما تقدم عامل آخر لا يقل خطراً وضرراً من بقاء العرب في مرحلة العجز العلمي والتقني, وهو عجز الدول العربية عن إرادة القوة أو قوة الإرادة, لقد هزم العرب في جميع مواجهاتهم مع إسرائيل, مع ما هم عليه من تعدد الجيوش وكثرة العدد وضخامة الآليات والإنفاق المذهل على التسلح والمباهاة الضاجة بما عرف بكسر احتكار السلاح, لأنهم لم يملكوا قوة الإرادة في تحقيق النصر.

لقد كانت مواجهاتنا تمتلك الشكل وتفتقد الجوهر, تجيد الضجيح ولا تستصحب المصابرة, وأن المرء يحار في تعليل ذلك إلا أن يكون التعليل الذي يحب أن يتفاداه لأنه يحزنه أن يتصوّره, وهو أن أكثر من يقبضون على عجلة القيادة في البلاد العربية يرون في إسرائيل سلباً لأرض لا تهديداً لحكم, وخطراً على أمة لا إسقاطاً لنظام.

إذا بلغ العرب مستوى من العطاء العلمي قريباً مما بلغه اليهود وعزت على ذوي الأمر فيهم أمتهم كما تعز عليهم ذواتهم, فلن تكون إسرائيل خطراً عليهم, ولن يقفوا موقف المحتاج إلى الآخرين, المتسوّل لعطفهم, وإذا لم يحققوا ذلك, فإن الخطر عليهم من جهلهم لا من علم الآخرين, ومن ضعف الإرادة لديهم لا من قوة مَن يناهضون, ومن المحتّم أن تبقى حالة التخلف هذه في البلاد العربية إلى أن يعيد المسئولون فيها النظر في موقفهم مما يحقق سد الفجوة الكبيرة بينهم وبين سواهم, ولن يكون ذلك ممكن الحدوث مادام التقدم العلمي والتقني لشعوبهم ليس همّاً يؤرق ليلهم, ويشغل نهارهم, وأن ما يعطى لهذا الجانب من الإنفاق والاهتمام والمتابعة لا يبلغ معشار ما يعطى لأمجاد الكرة وبريق كئوس المباريات.

علاقة المسلم بمثله

الكراهية ليست حلاً لمشكلة ولا دواء لمرض, كما أنها ليست وسيلة مفيدة ولا سلاحاً قاطعاً في مواجهة الأعداء ومقارعة الخطوب, وإذا كانت الكراهية - السالبة - ليست مما ينجد في مواجهة العدو المخاصم, فإن وجهها الكالح يظهر عندما تكون للقريب الموافق في الدين والمعتقد, والمسلمون - أي بعضهم - لم يسلموا من هذا الداء الوبيل.

لقد تعددت دوائر الكراهية لدى فئة من المسلمين, وإذا كانت الدائرة الأولى القريبة من المركز تضم المخالفين في العقيدة والملة, فإن هناك دوائر أخرى اتسعت لتشمل المشاركين في الدين والعقيدة من المخالفين في الطائفة أو المذهب ثم ازدادت هذه الدوائر اتساعاً لتدخل أتباع المدارس المختلفة من أتباع الطائفة الواحدة أو المذهب الواحد بسبب الاختلاف في ثبوت النص أو فهمه, أو قراءته, أو تفسيره, وما يبنى على هذه القراءة والتفسير من مواقف وأحكام.

ولعل من أشد ما أفرزته هذه الحالة من صنوف الفجيعة, هو أن كل قبيلة من القبائل المتنافرة أو المتناحرة تملك كل الاقتناع والجزم والتأكيد على أنها هي الوحيدة القادرة على الرؤية النافذة والرأي القويم, والتحليل الذي لا يخطئ في فصل العناصر وتحليل المركبات, وتبلغ هذه الفجيعة أوجها عندما تشعر كل واحدة بكل الاقتناع والتعبير عنه والممارسة له بفساد الطوية وسوء القصد لدى الفئة أو الفئات المخالفة لها, لأنها لا ترى الأشياء كما تراها, ولا تقرؤها كما تريد لها أن تُقرأ, وعندما ترى نفسها القادرة الوحيدة على فهم نصوص الإسلام المؤهلة للتحدّث باسمه, والحاصلة على امتياز تفسير نصوصه, وإدراك مراميه, فتعيش واقعها - نتيجة لما تقدم - موزعة إلى شراذم تتحصّن كل واحدة منها وراء أسوار من التوجّس وسوء الظن والتربّص بكل القبائل الأخرى, مبددة جهدها في إنشاء قصائد هجاء وإعداد حرابها وقسيها لحرب أو حروب البسوس.

لقد تحوّلت الكراهية - لدى بعض الناس - إلى نوع من القربات التي يُتقرّب بها إلى الله, وصارت كراهية المسلم للمسلم ومعاداته, بل ومقاتلته مدرسة لها بناتها ودعاتها والحارسون لأسوارها وأسرارها, لقد استحكمت في النفوس وسيطرت عليها, وأثمرت ثمرتها القاتلة, أزهرت في بعض البلاد العربية والإسلامية تكفيراً وتضليلاً واقتتالاً ومنابذة, وقد عرف البدء ولم يعرف ماذا سينتهي إليه من مصير وبيل.

من دمامة هذا الواقع, سيطرة الرأي الذي لا يُبصر مخرجاً من هذا الصراع إلا في طريق واحد هو القضاء على المخالف واجتياح حصونه ومواقعه, أو اقصاؤه عن دائرة الحياة الفاعلة والمشاركة فيها مشاركة تجعل له صوتاً مسموعاً أو رأياً يؤخذ به, وهكذا يتم إجهاض أي رأي مستبصر يرى أنياب الخطر ومواقع الضرر في هذا الوضع الوبيل, وإذا وجدت قلة ممن لم يجرفها التيار, فإن قلة من هذه القلة تعلن رؤيتها إعلاناً يبين عنها ويؤصلها, أما الكثرة فإن دموعها تذرف إلى الداخل, فمدامعها لا تعرف السفر, إما تفادياً لقانون التصادم, أو اقتناعاً أن صوتها سيضيع في أمواج الهياج.

ما سبب هذه الحالة? ما أسباب ديمومتها واتساعها, لماذا تجاوبت أصداؤها في كثير من بلاد العرب والمسلمين, هل سبب ذلك النظر الكليل أم الفهم العليل, أم أنه مرض نفوس يحجب العقل عن الرؤية والقلب عن الإحساس بالمواجع والآلام, أم سبب ذلك وقوع القلب والعقل تحت وابل من الغواية يشل في العقل الحركة وفي القلب الإحساس.

إذا التمسنا الجواب على هذه التساؤلات من الاتساع الجغرافي لهذا الواقع الذي شمل قارات, ومن طول الابتلاء به الذي امتد أجيالاً, فستستوقفنا صدمة التساؤل عن جدوى أي نقاش أو محاورة أو تحليل يمكن أن يؤدي أي واحد منها, أو تؤدي جميعها إلى الخروج من هذا المنزلق السحيق, إنها حالة تمثل معادلة صعبة إذا كشف التحليل الرياضي عن صحة بعض حدودها, فإنه سيكشف أيضاً عن الوحشة التي تنطوي عليها الحدود الأخرى من المعادلة, وهي حدود تمثل الوقوع في جبرية جديدة يصير معها هذا الواقع المزري قضاء هذه الأمة وقدرها.

على أن الوحشة من الوقوع في هذه الجبرية تكفي لكي تكون موجباً أخلاقياً وعقلياً لمزيد من المحاولة والتكرار للنداء والمحاورة مهما خفت الشعاع الذي يلوح بين تراكم الظلام, إذ أن ذلك النداء والمحاورة هما النافذة المضيئة والسليمة لرجاء جديد, ومن المرجح أن هذا المدرك هو المحرك الذي حمل ويحمل ضمائر قليلة على الخروج بين حين وآخر داعية إلى إىقاظ العقل واستصحاب الخلق والاستنجاد بالدين لتوقي ما أدى ويؤدي إليه هذا الشقاق من مصير مروع ظهر يسره في المنابذة, وتجسّد أخطره في تقطيع الأوصال وتهشيم الرءوس للنساء والشيوخ والأطفال.

هل يجب, بل هل يجوز أن تكون الكراهية من خلق المسلم أو من عاداته أو مما يجوز أن يتبنّاه ويدعو إليه? هل ذلك مما تقتضيه هداية الإسلام والرحمة للعالمين التي جاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) بها, أم أن ذلك مما يتنافى مع هداية الإسلام والرحمة التي أرسل بها مبلغه?

لقد أذن الله أن يظهر لعبادة من آياته كتابين, كتاباً مخلوقاً, وكتاباً منزّلاً, وقراءة كل من الكتابين تدل على أنهما دعوة للبشر - وليس للمسلمين خاصة - للتآلف والتعاون والانسجام وليس إلى التنافر والصدام والمعاداة.

مَن يقرأ الكتاب المخلوق وهو الكون, سيجد من أبدع مظاهره وأبرزها ذلك التناغم والانسجام المبثوث في أجزائه المؤلف بين وحداته وعناصره, النواة وما يحيط بها من كهارب تدور في أفلاك مشدودة إلى مركز الدوران بفعل الجذب بين الشحنات المتغايرة, ومنبوذة عن ذلك المركز بفعل الطرد - الناتج من الدوران - ليست سوى صورة مصغّرة للمنظومة الشمسية في دورتها حول الشمس.

القوى الكبرى التي أودع الله في هذا الكون أبان البحث العلمي عن تشابهها في طبيعتها وخضوعها لقانون واحد.

هذه القوى الخمس, وهي القوة الكهربية والمغناطيسية والنووية شديدة الفعل, والضعيفة, وقوة الجاذبية, كان يظن انفراد كل واحدة منها بطبيعتها والقوانين التي تحكمها, فتبين غير ذلك.

لقد أبان ماكسويل في قوانينه عن الوحدة بين المغناطيسية والكهرباء, ودلل الأستاذ عبدالسلام في أبحاثه التي منح لأجلها جائزة نوبل عن التماثل بين المغناطيسية والكهرباء أو بين القوى النووية الضعيفة وخضوعها للقانون نفسه.

وتشير الأبحاث الجارية حالياً فيما عرف بنظرية ألـQ. C.D. أي QUANTUM CHROMO DYNAMIC اندماج القوة النووية فائقة الفعل فيما شمل القوى الثلاث من قانون, وقد لا يكون بعيداً ذلك اليوم الذي يكشف فيه خضوع القوة الخامسة, وهي الجاذبية للقانون الذي شمل القوى الأربع, الاستقلال التام للزمان والمكان الذي قالت به فيزياء نيوتن هجر منذ أوائل هذا القرن بعد أن بيّن أينشتاين في نظريته النسبية التلاحم بين المكان والمادة, وأن لا وجود لمكان مستقل بنفسه دون وجود مادة فيه, فالمكان ليس إلا نسق لترتيب الأجسام المادية في حيز, كما أبانت أن الزمان هو البعد الرابع في الأبعاد الكونية مضافاً إلى الأبعاد الثلاثة للمكان.

هذا التناغم والوحدة والانسجام في الكون لمن يحسن قراءة ذلك دعوة إلى التعاون والتآلف والانسجام بين البشر.

وإذا كانت هذه الدعوة إلى التآلف تفهم من قراءة كتاب الكون بالاستدلال والاستنتاج, أي بالمفهوم لا المنطوق, فإن كتاب الله المنزل وهو القرآن قد دعا إلى ذلك بالمنطوق والمفهوم معاً.

قبل الإشارة إلى ما في القرآن الكريم من الحث على هذا التوجه وتأصيله, لابد من الإشارة إلى أن القرآن جاء هداية للبشر جميعهم, وليس مقصوراً على فئة خاصة منهم, وما يجيء هداية للبشر, لابد أن يكون كتاباً مفتوحاً يقرؤه كل الناس سورة القمر آية 17ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر والقرآن مملوء بالدعوة إلى استنهاض العقل لا إلى استرخائه وبنشر العلم لا تأصيل الجهالة.

القارئ للقران المتأمل لنسقه ومراميه يجد فيه الدعوة إلى الألفة والمحبة والإحسان إلى الناس هي الأصل, وما جاء على خلاف ذلك فهو استثناء يؤيد القاعدة ولا ينقضها, وقد جاء في القرآن من الإرشاد مالا يستسر معه أن التعامل مع غير المسلمين يأتي على مستويات أربعة, تحكمها أربعة من القوانين:

1) قانون العلاقة مع البشر من جهة كونهم بشراً.

2) قانون العلاقة مع المخالف للمسلمين المسالم لهم والكاف أذاه عنهم.

3) قانون العلاقة مع المخالف الذي يريد أن يأخذ لنفسه نصيبها من الأسماع ولمعتقده نصيبه من الأتباع.

4) قانون العلاقة مع المخالف المحارب الذي يقف موقف المعاداة والصد لرسالة الإسلام عن أن تصل إلى من ينضوون تحت قبضته أو يقعون في دائرة سلطته.

هذه المستويات الأربعة نجد في القرآن تحديداً لموقفه من أصحابها وتعامله معهم.

قانون العلاقة مع البشر

هذا المستوى من التعامل مع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم يحدده قانون سورة الحجرات آية 13يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

لقد جاء الخطاب للناس, وال التعريف هنا لا ستغراق الجنس, وأكّد استغراق الجنس بالإشارة إلى الشعوب والقبائل اختلفت أعراقهم وأخلاقهم, ومن أعجب ما في الأمر أن الآية تجعل هذا الاختلاف والتباين من دواعي التعاون والألفة, على حين يجعل الناس في تاريخهم القديم والحديث هذا الاختلاف من أكبر أسباب المعاداة والاقتتال.

ومع المخالف المسالم

هذا المستوى تحدد وتأكد بقانون آخر هو قول الله جل شأنه سورة الممتحنة آية 8 لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم, إنه ليس الإقساط - فقط - ولكنه يتعدى ذلك إلى المستوى المتسامي من خلق الإنسان وهو البر, وينبغي أن نلتفت إلى الاختيار العجيب للبر في كلمة أن تبرّوهم, وما تحمله هذه الكلمة من إيماءات وظلال لا نجدها في الكلمات المقاربة لها في معناها.

ولا يكتفي القرآن بهذا الأسلوب الموجّه, بل يؤكده بتنبيه آخر يرد في الآية التالية ناصّاً على أن المعاملة المخالفة لما تقدم لا تكون إلا مع من يقف الموقف المغاير أي المقاتل المخرج من الديار أو المظاهر على ذلك الإخراج سورة الممتحنة آية 9 إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون , وتبدأ الآية بلفظة إنما التي تأتي للحصر, في أن المعاملة المغايرة المخالفة للقسط والبر مقصورة على المقاتل المخرج من الديار أو المظاهر على ذلك.

قانون العلاقة مع المحاور

مَن يقرأ القرآن باحثاً عن توجيهه وتعليمه في هذا المجال - مجال المحاورة - يدهش من هذه الساحة والأفق الرحب الذي أعطاه القرآن للمحاور.

في أدب المجادلة, جاء قانون سورة العنكبوت آية 46 ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن, ومن وجوه الإحسان حسن اللفظ, وحسن الاستماع, وحسن الإسماع, ومما هو جدير بالملاحظة أن الآية لم تأت بلفظ جادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن, ولو جاءت بهذه الصيغة لأمكن أن تُفهم أن المجادلة أمر يقتضي الوجوب على أن يكون طابعها الإحسان, ولكنها جاءت بصيغة أخرى لا تجعلها فرضاً يصنف القرآن الناس إلى فئات ثلاث تنبّه إليها أبو الوليد بن رشد في قوله تعالى سورة النحل آية 125 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن والخطاب هنا موجّه إلى الداعي المتعامل مع الناس كافة.

هؤلاء الناس من جهة مداركهم ومعارفهم على درجات, درجة لا يقنعها ولا يصلح معها إلا الإقناع العقلي وأصحاب هذه الدرجة لا يصلح التوجّه إليهم إلا بالحكمة القائمة على البرهان العقلي الذي أعلاه البرهان الرياضي ويليه البرهان المنطقي, ودرجة لا تقنع إلا بعد الحوار والمجادلة وإن لم ترق المجادلة إلى البراهين العقلية, وفي هذا الجانب, وهو الجانب الحري بإثارة كوامن النفس من الشهرة في المغالبة والانتصار, ألجمت هذه الشهرة بأمر أن تكون هذه المجادلة بالتي هي أحسن, ثم تأتي الدرجة الثالثة من العقول والقلوب, وهي التي يمكن أن تكسب بالاستنجاد بعاطفتها عن طريق الموعظة, وهو ما يعرف في ساحة المواعظ بالترغيب والترهيب.

هذا التعليم المتكرر الوارد في أكثر من موضع في القرآن, هل لنا أن نفهم منه شيئاً سوى أن قانون المسلم الحامل لكلمة الله المتقي في إبلاغها لخلقه هو الحكمة في الاستدلال - ومن الحكمة الرفق - والإحسان في الوعظ والمجادلة, هذا المطلب الملح الذي يوجّه الله عباده إليه بلغ مبلغاً لم يعرف أن قوانين البشر أو دفاترهم بلغت أفقاً أسمى ولا أكرم في إعطاء الحق للآخر, وحسن الظن به من تعليم سورة سبأ آية 24 وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين, إن ذلك لا يعني الشك في مكان الحق أين يقع من الطرفين المتخالفين والرسول مؤيد بالوحي, ولكنه يعني التسليم للآخر بحقه في التفكير والتعبير والمحاورة, فذلك هو المدخل إليه لإقناعه لا اقتلاعه.

إن المحاور هنا - وهو الرسول (صلى الله عليه وسلم) - على اقتناع بخطأ محاوره أو ضلاله أو مكابرته, ولكن هذا الأفق السامي في أدب الحوار يهدينا إلى أنه إذا كان مما يجب أن نبغض المرض ونقاومه فإن ذلك لا يعني معاداة المريض.

قانون العلاقة مع المحارب

العلاقة بين المسلمين والمخالفين وردت في أكثر من موضع في القرآن, ورد ذلك في الآيتين 39و40 من سورة الحج والآيات 190-192 من سورة البقرة والآيات 88-90 من سورة النساء والآيتين 60و 61 من سورة الأنفال, والآيتين 8و 9 من سورة الممتحنة, والقارئ لهذه الآيات يجد سلكاً واحداً ينظمها جميعها وهي أنها ترشد إلى قانون حرب لا قاعدة سلم, وتبين التصرف في حالة المواجهة لا المصالحة, وذلك أمر مفهوم في حالته ودواعيه, فليس مما في طبيعة البشر أن يُطلب من جندي في ساحة قتال أن يقابل بالعناق والمصافحة عدوا يلقاه بفوهـات المدافع أو إطلاق الصواريخ.

فإذا كان ما تقدم هو توجيه الله لنا في أمر الخارجين عن ديننا المخالفين لنا فيه, فما عسى أن يكون موقفنا ممن يؤمن بديننا ويشاركنا في عقيدتنا إذا ختلفنا معه في ثبوت نص أو تفسيره أو فهم الدلالة منه, وقد وقع ذلك الاختلاف من حيث ثبوت النص أو فهم دلالته للصحابة والتابعين وأئمة المذاهب, ولم يؤد هذا الاختلاف إلى شيء من المجافاة فضلاً عن المعاداة.

وإذا كان البشر في أفرادهم خليطاً من الشذى والأذى, من النسمات واللوافح, فإن العقل والوجدان المهتديين بهدي الله في رسالاته والمتصّفين بالسموّ والتطهّر لا يمكن أن ينضح منهما ما يشقي البشر.

إن هداية الله للإنسان ونبع الخير فيه دعوة إلى الصفاء والنقاء واجتثاث شهوة الافتراس والاستعلاء, وما شقي البشر بشيء كشقائهم بالبعد عن هذا الأفق الرحيب.

 

راشد المبارك