المحروسة 2015: كوميديا سعد الدين وهبة السوداء

المحروسة 2015: كوميديا سعد الدين وهبة السوداء

كتب المسرحى الراحل سعد الدين وهبة نصه الأخير " المحروسة 2015 " فى زحمة عمله الصحفى فى جريدة الأهرام القاهرية حيث قدم فى السنوات الأخيرة قبل رحيله مجموعة من المقالات الحارة ضد إسرائيل والحركة الصهيونية ، ودافع دفاعا مجيدا عن القطاع العام ، ورفض دخول الأجانب لشراء ثروات البلاد من بينهم الصهاينة ، ولذلك كله أطلق على نصه الأخير وصفا جديدا هو المسرحية التحذيرية رغم أنها كوميديا سوداء تفجر ضحكا كالبكاء .

يعود " سعد وهبه " إلى المحروسة ، إلى حبه القديم التى كتب عنها واحدة من أهم مسرحياته والتى قدمته إلى الحياة الثقافية واحدا من أهم المسرحيين فى حركة ازدهار الستينيات ، ودارت وقائع المحروسة الأولى فى قرية مصرية تحمل هذا الاسم وفى زمن سابق على قيام ثورة يوليو 1952 .

كان تفتيش " المحروسة " ملكية خاصة للأسرة الحاكمة ، وداخل التفتيش يعيش الفلاحون والإقطاع والظلام ، كأنما المحروسة كانت تتقلب على نار الثورة الهادئة وتحتفظ ذاكرتها بصور انتفاضات الفلاحين ضد القهر ، وغنى عن البيان أن المحروسة هى أيضا مصر ، أما المحروسة الجديدة التى تقفز إلى المستقبل وتستشرق آفاقه فهى عمل سياسى يحمل رسالته إلينا بصورة مباشرة وصريحة ، ويحذرنا أن المجرى الذى تسير فيه الأحداث الآن يصب فى كارثة شاملة عنوانها الهيمنة الصهيونية عبر صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ، ولكنها الهيمنة التى تفجر المقاومة .

ينهل " سعد وهبة " من مخزون شخصياته المتنوعة الغنية فنجد أنفسنا فى هذا العمل أمام ثمانية وثلاثين شخصية لكل منها سمات تميزها وإن تشابهت مع شخصياته القديمة خاصة الريفية منها وأبناء الفلاحين من المثقفين ، والنساء المحملات بالدلالة ، وقد استخدم الكاتب مهارته وقدراته الساخرة وتجربته الواسعة فى الحياة ليبث فى كل منها روحا ويصنع له علامة ، ضعيفة هنا أو قوية هناك .

يبدأ العمل بالمواجهة وينتهى بالتحذير الذى تقدمه " صابحة " والتى يدل اسمها على دورها وتوجهها ، إنها البداية الجديدة بعد الطوفان ، مثلها مثل كل نساء " سعد وهبه " الملهمات ، ولعله كان يكتب الأدوار لزوجته الفنانة " سميحة أيوب " ليجعل منها امرأة أكبر كثيرا من أن تكون مجرد كائن واقعى ، فهى قوية ملهمة ، وهى فى حالتنا هذه عرافة ايضا تتوافر لها قوة فى الروح والبصيرة ، ومهارات خاصة فى القيادة فهى مسموعة الكلمة وهى التعبير الشد كثافة وتركيزا عن ضمير الجماعة ، كما أنها الشخصية الوحيدة المبنية بناء حقيقيا متأنيا لا تفوته شاردة ولا يشوبه نقصان .

" الصابحة " حكاياتها على عكس الشخصيات الأخرى التى ربما تستند إلى التراث المسرحى القديم للكاتب ، فتأتى إلينا كأنما من فراغ دون حكايات إلا نادرا ، ولعل تفريغ الشخصيات ألأخرى من الحكايات والذكريات أن يكون تقنية مقصودة حتى ينقاد الناس كأنهم منومون مغناطيسا إلى الحلم الإسرائيلى هربا من التخلف والبطالة ، وانبهارا بالتقدم الحضارى والنظام السائد والأجور العالية فى إسرائيل .

وحتى يبطل المؤلف مفعول الكابوس منذ البداية يقول على لسان " أحمد " الذى يؤلمه وجود خبراء إسرائيليين فى الزراعة المصرية :

" جات علينا أيام هباب زى دى ، وما كناش قادرين نقول لا ، وجات علنا أيام قلنا لا بعلو حسنا والوقت ده مش قادرين ننطق ".

والزمن الذى يعينه " أحمد " هنا هو زمن قادم يبشرنا الداعون له الآن بأنه زمن الحرية ، بينما يعلن أحد أبطال هذا الزمن " إننا مش قادرين ننطق ، لكن طول ما إحنا عايشين يبقى لسه فيه أمل " .

وغالبا ما كان صوت الأم ينطلق- ولو هماس- فى أعمال " سعد وهبه " السابقة فيفتح طاقة النور فى قلب الحلكة ، وكان هذا الصوت بالإضافة إلى الشخصية المركزية للمرأة يعزفان معا نشيد الإرادة والاختيار الحر وصلابة الشعب حتى ولو كان الزمن " الإسرائيلى " القادم يخرس الأصوات بحيل قد لا تخطر على بال أحد ، إنه الوجود الحى للشعب .

وسوف تكتشف فيما بعد أن القهر يتخذ أشكالا أكثر عنفا ضد الفلاحين ضد من لا صوت لهم ، فتصادر شركة الزراعة الإسرائيلية- المصرية مواشيهم بعد أن تغرقهم الديون ، وكأنه يلخص حكاية مصر منذ أغرقها الاستعماران البريطانى والفرنسى فى الديون لتكون تكأة للعدوان على استقلالها فى القرن الماضى ، لكن الحركة المندفعة إلى أحضان الكارثة ، الحركة الكلية فى اتجاه المستقبل البائس تولد فى نفس الوقت جدليا ومن داخلها حركة عكسية فتنشأ تلك الكلية المتفاعلة والمتناقضة فى نفس الوقت .

تنمو الحركة البطيئة مع الوعى بضرورتها ، الوعى الذى تحمله المرأة وتسعى بصير إلى نقله للآخرين ويحمله مدرس التاريخ وضابط الشرطة الوطنى ، ولعله " سعد " وهو يرسم ضابط شرطة على هذا النحو يقدم تحية إكبار لتاريخه هو الشخص كضابط سابق ، وتحية أخرى لثورة يوليو ، إذ تتكرر الإشارة إلى جيش مصر الذى يعبر عن عدم رضاه عن تسليم البلاد للإسرائيليين .

تستولى الشركة الإسرائيلية- المصرية- على أرض الإصلاح الزراعى وأراضى الأهالى وتسيجها بأشجار الفاكهة التى تنهض كحاجز رمزى بين الفلاحين والأرض ، ولكنها فى الواقع تحجب عن العين زراعات أخرى هى " الحشيش والأفيون " ويتحول المواطنون بالتدريج إلى حشاشين ومساطيل .

وهنا تبرز رؤية سعد وهبة لدرس التاريخ على صعيد عالمى ليبثه فى هذا النص الذى ينتمى أيضا إلى المسرحية التاريخية من زواية ما ، أنه درس الكفاح الصينى ضد زراعة الأفيون التى عممها الاحتلال البريطانى ليبعد الشعب عن الكفاح ضد المحتلين ، إلى أن قام الشعب بقيادة الواعين والمخلصين من أبنائه ، فدرس التاريخ فى كل أعمال سعد وهبه لا يخصنا وحدنا وهو تيكرر فى بلدان كثيرة يضع كل منها سماته الخاصة فيه .

ويستدعى المؤلف من تاريخ الشعب المصرى قصص كفاحه المجيدة ويختار لأحد الأبطال اسم " عبدالسميع " ليقلب المعنى المحمل بمفهوم الطاعة فيجعله تمردا ، ولكن " عبد السميع " يتهم بالجنون ويفصل من عمله ، وسيكون على ذاكرة المتلقى أن تستدعى قصة الشبان الذين انطلقوا غلى مواجهة العدو الصهيونى كأفراد واتهموا جميعا بالجنون " سليمان خاطر ، وأيمن حسن ، وسعد إدريس حلاوة " ويكون مصير ضابط الشرطة هو النقل إلى مكان بعيد ، أما أستاذ التاريخ الذى كتب عن زعماء الوطنية المصرية فيطرد من عمله بتهمة الاتجار فى الحشيش ، فيكتب وهو فى حالة انهيار قصيدة مديح للمسئول عن الشرطة الإسرائيلية ويجرى إغلاق المقهى الصغير الذى تعيش منه صابحة ، بأدوات السخرية والمحاكاة الهزيلة يبث سعد على عالمة الكارثى روح الكوميديا ، ونستطيع أن نتلمس مفارقة رئيسية فى هذا العالم إلا وهى أن صوت الماضى القديم الذى هو صوت " صابحة " صوت الكرامة والاستقلال الوطنى والمشروع القومى الذى تلقى الهزيمة هو الصوت المحرض والذى يحمل الرؤية الأكثر تقدما ، صوت الماضى هو الذى ينفتح على المستقبل الآخر ، تكشف صابحة مبكرا تلك اللعبة القذرة وهى أن الخبراء الإسرائيليين يبعون الوهم للناس ، حين يقنعونهم ، باقتلاع زراعاتهم القديمة ثم يحل بهم الفقر والبؤس ، وهى فتضح الشيخ صبحى الذى أنقذ الإسرائيليون امرأته فى ولادتها العسرة وجاؤوا بطيارة مروحية مباشرة من تل أبيب لنقل الأم التى تضع ولدها هناك فيحصل على الجنسية الإسرائيلية ويقوم شيخ القرية بتسجيل أحاديث وتواشيح دينية للتلفزيون الإسرائيلي يتقاضى عنها أجرا أكبر من أجر شيخ الأزهر ، والمفتى فى مصر ، وتوجه له صابحة سؤالا ثاقبا لماذا تركوا هؤلاء وسألوك أنت ؟.

وضمن رؤيتها الثاقبة يأتى دفاعها عن العرب ، ونقدها الموضوعى لكل الحكايات الجزئية يحكيها المصريون الذين عملوا واتمرمطوا فى البلاد العربية ، إذ تضع صابحة أسس ماهو جوهرى : " العرب دول أهلنا وناسنا ، مالهمش غيرنا ومالناش غيرهم " .

وسرعان ما يقع ما تنبأت به المرأة العرافة ، فتبدو كأنما كانت تقرأ الغيب ، " مواشى البلد كلها جاله نقطة اتشلت ووقعت على الأرض " .

وتقول صابحة " النهاردة البهايم وبكره الخلق " يحدث هذا بينما مواشى الشركة الإسرائيلية- المصرية لم يصبها أى أذى والمصريون هم الذين يشرفون عليها أى أن ما حدث لمواشى المحروسة كان بفعل فاعل ، وتنشط ذاكرة صابحة التى تستعيد الماضى " زى إسرائيل ما موتت شبابنا ، وشباب فلسطين ، وسوريا ولبنان ..."

ويبين الفحص الأولى أن مؤامرة تحاكى ما حدث لضباط الطيران المصريين فى 4 يونيه 1967 قد جرى تدبيرها ومثلما سهر الطيارون حتى الساعات الأولى من الصباح لتأتى الضربة الجوية الإسرائيلية وهم نيام فتنهى الحرب فى الساعات الأولى ، تم ترتيب عملية دقيقة لتسميم المواشى ، ويسارع " ليفى " كجزء من المؤامرة لتشترى الشركة الإسرائيلية مواشى الفلاحين وتغرقهم فى الديون ثم تصادر أراضيهم فى مقابلها ، وتتطور علاقات الأذعان بصورة مذهلة وبايقاع يعجز القارئ عن ملاحقته وكأننا أمام تصوير كاميرا سريعة لانحدار كتلة صلبة من قمة جبل أخذت تتفتت بسرعة البرق وهى تندفع إلى السفح .

ويطالب الإسرائيليون عبر صندوق النقد الدولى بإعادة تأجير قناة السويس للأجانب ، وحين يتبين أنه ليس لدى مصر قمح كفيها أكثر من أسبوعين ، وتطلب قمحا من إسرائيل تضع الأخيرة شرطا ، وهو الحصول على قناة السويس.

وحين تصل الكارثة إلى مداها يكون هناك أحد خيارين أما الموت الكلى أو النهوض من جديد ولأن روح الشعب التى تمثلها صابحة لا تزال حية فإن انحسار موضوعيا يحدث الحركة الكلية فى اتجاه الكارثة ويأخذ صوت المستقبل الذى يستمد روحه من الماضى كمفتاح له ، أى من التاريخ ، إذ يسترجع الفلاحون قصص حفر أجدادهم لقناة السويس ، وكيف أنهم استطاعوا فيما بعد أن يستردوا القناة صحيح أن كل مرافقهم الحيوية من تليفونات وسكك حديدية ومياه قد سقطت فى إيدي الإسرائيليين بل إن إسرائيل دفعت بمياه النيل عبر ترعة السلام لزراعة صحراء النقب ، لكن الفلاحين هم أيضا الذين حفروا ترعة السلام ، وبوسعهم أن يقوموا بردمها وردم قناة السويس إذا ما تسببتا فى خراب مصر .

وهنا يفصح سعد وهبه عن المهارة ذاتها فى بناء عالمه ونسج العلاقات المتشابكة ، ولكن طابع المقال الصحفى الجرئ والحر طغى على لغته المسرحية وأنزلها من سماء الشعر إلى لغة الصحافة ، إذ كان الكاتب معنيا بالدرجة الأولى بالرسالة- السياسية بالدلالة والمعنى ، حريصا على تجنب الجمود والالتباس مستعجلا جدا للتغير الذى يطول الشخصيات فى أعماقها بعد أنغماسها فى الحلم الوحشى ، وهى تعود بعد هذا الانغماس إلى الجماعة فى نهاية المطاف وكأنها كانت قد تاهت أو غامت الرؤية لزمن مصير معفر بتراب عاصفة صهيونية .

وهو أيضا يقفز بخفة على الصراعات الاجتماعية الضارية فى مصر والتى أسفرت عن نشوء ما يمكن أن نسميه باللوبى الإسرائيلى القوى المتشعب المصالح والمرتبط برأس المال العالمى والشركات عابرة القارات.

ولكنه يفاجئنا فى ختام النص بموال شعبى جميل ينفى كبوتنا مع وعد غامض بالقيام الذى يبشر به العمل رغم سوداويته وفجائعه ، كما تبشرنا به صابحة هذه العرافة الشعبية العفية بعيدة النظر الممتلئة بالحياة والثقة فى المستقبل ما دام الشعب حيا .

حكمت ع السبع راح للكلب عند الكوم
لما صحى الكلب قال له السبع صح النوم
أنا أسالك يارب ما يجرى زى عاداته
وترجع السبع يخطر زى عاداته
وترجع الكلب ينبش فى تراب الكوم

وبوسعنا أن نعرف الآن لماذا فشلت كل محاولات تقديم هذا النص على المسرح .

 

فريدة النقاش

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سعد الدين وهبة





غلاف الكتاب