قراءات تشكيلية.. تجربة ساميه الحلبي

قراءات تشكيلية.. تجربة ساميه الحلبي

حالة حرمان ساميه من التأسيس لأحلام أخرى هي حالة حرمانها من بقائها في وطنها، تقول إنها تبدأ العمل وكامل المخطط يدور في بالها. ولكنها رويدًا رويدًا تغيب عن إنهاء تفاصيله وتصبح كأنها آتية من حلم جميل.

كلما يطول الحدث معها يحلو، وكلما حاولت أن تفتح معها ثقبًا تكتشف أعماقًا، لا تعطيك إياها دفعة واحدة ولكن تتركك تكتشف، ربما كي تستمتع أكثر، أو ربما تترك للأمور أن تأتي بعفوية أكثر دون المرور بقناة الافتعال، ساميه الحلبي، الآتية من القدس بمولدها والحالمة على شاطئ يافا في طفولة استمرت تسع سنوات، هُجِّرت من بلدها قسراً عام 1948 فاختارت العائلة في البداية بيروت ثم الولايات المتحدة الأمريكية ولها من العمر أربعة عشر عامًا، الإقامة هناك لم تُغيِّب الحلم بفلسطين بل أصبح الحلم حالة تأخذ ساميه أثناء العمل إلى شواطئ يافا وإلى زيتون القدس.

تحلل الفنانة ربط الحالة الهندسية لهذه اللوحة والحالة الحلمية الحدْسية بأن عقل الإنسان مركب بطريقة غير بسيطة بحيث إننا لا نسيطر على كل تفاصيل هذه التركيبة المعقدة التي تمرر بعض الأمور من دون إذن من العقل المبسط، وتراكم هذه الأمور غير المأذونة يوصلنا إلى حالة من الفيض الذي أساسه الحدْس: «ففي هذه اللوحة حلمت بأنني على شاطئ البحر في يافا وأن موجة كبيرة كأنها امرأة مسنّة تأتي وتحدثني بأمور كثيرة وأمور تشدني إليها».

وتجربة كهذه تعطي معنى للحدْس المنفتح الذي ينقذنا من البقاء في مكاننا والذي يفتح أمامنا طرقاً لم تكن بالحسبان. فالفن عند ساميه مرتبط بالواقع ارتباطاً وثيقاً وبالفكر ارتباطاً عضوياً، فهو يعكس الأمور المجتمعية، فالثورات بالنسبة إليها تطور مفاهيم الإنسان بالإضافة إلى أنها تحسن الأوضاع المعيشية والسياسية والاجتماعية وبالتالي تنعكس على الحركات الفنية لأنها جزء من الحركات الفكرية.

ألوان ومراحل

من أجل ذلك تعتبر أن التصوير مرتبط بالواقع حتى التجريدي منه، لأنه يمثل رؤية الواقع من عدة زوايا ولعدة حالات لونية فالأخضر والأحمر أين لنا بهذه الألوان. أما الواقعي منه فإنه يرى الأمور من زاوية واحدة ويكون أميناً لكل التفاصيل.

أمر لافت في مسيرة ساميه الحلبي الأولى: ففي السنوات الأولى للفنانة نلحظ حالة لونية تجريدية وتبسيطية. ثم تفاجئنا بمرحلة ترتكز في أساسها على إبراز الحجم، وكأنها ترسم فقط مختارة الكرة والمربع، تبرّر الفنانة بأن ذلك كان موضة العصر في نيويورك وخاصة في الجامعات، «ولكن كنت دائمًا أسأل نفسي إلى أين يا ساميه مع هذا التقليد؟ هذا السؤال لازمني مؤرقًا لي. وبعدما كنت في المتحف أجول ودائمًا مع سؤالي هذا. إلى أن خاطبني Van Eyk بسلام غير عادي عن بقية الفنانين المعلقة أعمالهم: الضوء الآتي من الشباك والشالح نوره على بقية الغرفة، أعطاني حالة جديدة، ولكن هذه المرة كيفية مخاطبة الضوء للأشكال الهندسية وخاصة الكرة، وما تحمل بين معان لجذوري في الفن العربي».

لم تكن ساميه الحلبي حيادية في وجودها في الولايات المتحدة، وشيء طبيعي أن تكون الفلسطينية المهجّرة من وطنها، إلى جانب أهم قضية في أمريكا وهي قمع واستغلال السود، ولكن المفارقة هي أن ما أثر بها هو محاولة تماهيهم مع البيض ما يستتبع ذلك من تمليس للشعر وتبييض للوجوه بجميع الوسائل، ولكن الإحساس بالفن والمعاناة معهم يبقى قائمًا. وعند سؤالي لها ما علاقة حركة الصليب بهذه المعاناة أجابت بأنها لم تقصد ذلك، ولكن حدس الفنان ليس دائمًا تحت قيد المنطق والعقل.

هذه الألوان الغامقة المرمّز إليها ترابيًا إلى الإنسان والأزرق إلى السماء والسواد إلى هذه المعاناة لمجموعة من البشر. أما اسم اللوحة «الصليب الأسود» فهو تضامنًا مع حملة لحركة تحرر السود الأمريكيين لتخفيف معاناة هذه المجموعة من الناس والتي أطلقت شعار «الأسود الجميل» والذي تبنته الفنانة، وتابعت ساميه الحلبي مرحلة انبهارها بالانعكاسات التي تتلقاها المعادن.

فكانت ترسم بعض هذه الانعكاسات والإضاءة فوق رأسها فكانت ترمز إلى ظل رأسها باللون الغامق المسود. وتابعت الفنانة هذه المرحلة وهي تنظر إلى الأشياء بمنظار هذه الانعكاسات التي أخذت تمنحها في كل مرة لونًا إضافيًا.

أسئلة بلا نهاية

ساميه لا تكف عن الأسئلة وأهمها على الإطلاق ماذا بعد؟

لا تقف عند حدود التجربة مهما كانت مبهورة بها ومتفاجئة بنتيجتها. ولكنها تبقى مترابطة الجذور. انعكاساتها أخذت تستقل عن أحجامها لتأخذ خطوطاً مستقلة ولو أنها ذات منحنى واحد ومتوازٍ.

ساميه تقف عند آخر حرف في سؤالها ماذا بعد؟ وتبحث.

تقول: «كانت زياراتي للقدس سنة 1966 وقد عَبَرَ وتغلغل من خلال بصري جمالية أخّاذة للخطوط المائلة وللملمس الذي تميزت به مساحات الرقش لقبة الصخرة في الحرم الشريف. هذه الخطوط المائلة بدرجة محددة (45 درجة) بعض الأحيان والتي تحدد بدورها مساحات أخرى، ربما تدخل على مربع فتتشارك معه بجزء ليشكلا حالة جديدة: قرأتها ساميه وخزنتها يومها، ويوم نضجت تلك التأملات فتحت لها طريقًا متقدمًا لحالة الخطوط المائلة التي كانت تنتهجها في السنوات من 1974 حتى 1978.

في هذه الحالة الجديدة دخل المربع والخط المائل على صفحة مستطيلة. تتحرك متنقلة بطريقة تسمح للزمن بأن يكون شريكًا لها والتي نقلت لوحة ساميه الحلبي من حالة الجمود للخطوط المائلة فقط إلى حالة من الحركة، وهنا تنتقل أسطح ساميه الحلبي من التماس المغلق الآتي من البعيد وبدأت تقترب لترى أن الملمس الذي بدأته متأثرة بجدران قبة الصخرة، ووجدت أن هذا الملمس له قوة ما بحيث يجمع هذه الأسطح المغلقة، بعضها على بعض. فدخلت اللمسة على السطح مباشرة لتجمعه (43) هنا جمْعٌ للحركة الدائرية مع الحركة المائلة وبالتالي فإن الفنانة بدأت مع هذه اللوحة لم شمل عناصرها التي كانت تضعها في كل لوحة على حدة، مع بنية واضحة لهذه العناصر. فلمسة الظل والنور التي كان يمنع عليها أن تغادر مكانها أعطته ساميه الحلبي فيزا السفر على سطح لوحتها وهذا ما ميز المرحلة التالية تتابع الفنانة مرحلة التحرر داخل اللوحة بحوار بين عناصرها، فدخل عنصر الربط والجمع، الذي ربما لم تفِ اللمسة بما أرادته. وهنا كان دور الخط الذي أعطى حركة غريبة وجديدة على لوحتها، أسمتها الفنانة «بالفعل وردة الفعل». وقد بانت هذه الخطوط وكأنها ترداد لصدى ذبذباتها، بين مجيء ورحيل ولكن تصادم هذه الأصداء كان يخلق أصداء أخرى وهكذا دواليك حتى عجت اللوحة إلى حد الضجيج.

بعيدًا عن الإطار

يختمر الإحساس بحرية الحركة داخل اللوحة. لا تكتفي الفنانة بذلك فتحرر إطار لوحتها حتى من الخارج فلا يبقى إطار واحد للوحتها. فيتحول الإطار إلى عدة إطارات متجاورة ومتحاورة عن بعيد وقريب وحدسها المنفتح يقودها إلى تجربة متطورة ترويها: «كنت ألون وأركب وألصق على أوراق ذات مقاييس مختلفة وأكثر الأحيان غير هندسية، وأضع هذه الحالات بالقرب من بعضها، وفي بعض الأحيان فوق بعضها ولأن الصفحات غير متساوية، أخذت من بعضها وأعطت، وهكذا كنت عندما أقلب الصفحة أصبح أمام حالة جديدة، فالشعور بالزمن يتجدد ويأخذني إلى عوامل تفاجئني ويوقظ لدي حالة مؤسسة وهي علاقة البصر بالبصيرة.

حركة موجبة، الليل بعد النهار... والناس في حالة الانتظار.

يذهبون فيأتي غيرهم وهكذا دواليك.

الحمل يمشي - البحر وموجة. السمك في الأكواريوم...».

الخط وما يمثله من عنصر أساسي للحركة إن كان شارعًا في مدينة أو قادومية في حقل أو شرياناً في جسم الإنسان. ولكن عنصر التنظيم الذي يميز الخط في الحياة الواقعية أصبح عنصراً آخر في لوحة ساميه الحلبي، حتى تحول إلى حالة من ضجيج وربما هو انعكاس للحياة في مدينة نيويورك حيث تعيش الفنانة وتسألها عـن سبب تهوية العناصر في لوحة for niifau from Palestine. تقول: «المكان تغير عندما قمت بزيارة لهاواي حيث إن الشمس والهواء دخلا عناصر أساسية وتحول عندها الخط إلى عنصر راقص يمتلك المكان الرحب لحركته».

لأنها إنسانة باحثة، ولأن حشرية المعرفة موجودة بقوة عندها، هذه الصفة جعلتها تتوقف عند حدث الحاسوب ومغرياته، الذي اكتشفته يومًا عند أختها وجلست تتسلى. لأن عمقها يجذب كل ما تُدخله ساميه الحلبي إليه، فيختمر ويعود إلى السطح، وعملت بداية من دون برمجة ولكن القصة استهوتها فحولته إلى برمجة، وأخذت تقيم تجاربها المنوعة عليه , ودائماً من خلال صخب نيويورك، حيث يتصف نهار هذه المدينة بجمالية غربية عندما تفتح المحلات أبوابها حيث كل محل يزين ويرتب البضائع المعروضة للبيع بطريقة جميلة ولافتة للعين، وخاصة عين فنان تفتنه الألوان، ولكن هذه المرة استعملت الفنانة الكاميرا لتسجيل انبهاراتها بشارع القناة الشعبي المكتظ في نيويورك، هذا الشارع الذي يتحول إلى مخيف في الليل، ولكن ساميه الحلبي لم تقف عند حدود التسجيل فقط، بل عمدت إلى إعادة تشكيل لهذه الصور, ومن هذه الصور عمدت إلى صياغة لوحاتها مستعملة لعبة القريب والبعيد، محافظة على ضجيج تناقضاتها بين الغامق والفاتح والحامي والبارد. تجوال ساميه الحلبي زاد تجربتها غنى فحيث تذهب تترك أثراً وتحمل آثاراً تشكيلية في داخلها، فذهبت إلى شواطئ هاواي وفلوريدا وكولورادو وإلى شواطئ البحر الميت من جهة فلسطين، حيث حاولت رسم العلم الفلسطيني، وبصمة لقدمها مؤكدة أن هذا الشاطئ هو لها كمواطنة فلسطينية.

حكاية الزيتونة

لماذا زيتون ساميه الحلبي مختلف عن بقية تأثراتها؟ لماذا بقيت زيتونتها واقعية، أو بالأحرى لماذا بقيت الفنانة أمينة لزيتونتها؟ هل بذلك تكون أمينة للمكان المغتصب لتؤكد انتماءه إليها دون أن تسمح لأسلوبها الفني بأن يحوله؟ أم لأن الزيتونة بالشكل الذي رسمته هو إمضاؤها كفلسطينية؟!

تحدثك بشغف عن كل زيتونة رسمتها والمكان والزمان الذي أمضته معها، وخاصة حين أمضت رأس السنة 1999 معها وتحفظ ما يتردد من حكايات أسطورية حول هذه الزيتونات كما أن قريبتها سبقتها إليها ومن ذات الزاوية رسمتها. فالزيتونة عند الفنانة هي حالة أكثر منها نباتا فالزيتونة المشنوقة والشجرة اللاجئة حيث اقتلعت من مكانها لبناء الجدار الفاصل أو كما تسميه ساميه الجدار الخانق بكل الأحوال إنه جدار العنصرية كما أن هذه الزيتونة دخلت إلى شخصية الفنانة فتماهت معها بحيث أصبحت هذه الشجرة صورتها الذاتية.

ساميه الحلبي مازالت تتابع تجاربها مع المادة، فهي تصنع مادتها انطلاقاً من سلسلة أبحاث مع طلاب في جامعة بيرزيت في فلسطين، ومن أجل التوفير في شراء بعض المواد، قررت معهم أن تصنع مواد من عجينة الورق الملون والمواد اللاصقة، وهنا تتابع ساميه تحرير شكل اللوحة وكأن شيئاً يجمعها مع المنحوتة بحيث إنك ترى هذا العمل من كل جهاته.

وهناك لوحة مؤلفة من 12 جزءًا، ترصد ساميه الحلبي الحركة وتخزنها، تقيس الأمور وتسجلها تفسر ذلك بأن اللوحة عندها مقسمة إلى أجزاء ثابتة وأخرى صغيرة متحركة، بحيث إنها تكون متنقلة من مكان إلى آخر على الجزء الثابت أو حوله. وتشبّها بحالة ما نظرنا إليه (وكنا نجلس أمام البحر في قهوة عين المريسة في بيروت) نظرت ساميه إلى السماء والبحر والمكان المبني، وإلينا أنا وهي والأجزاء الصغيرة المتحركة من طاولات وكراسي وأشياء أصغر تسميها بالمتحركة. فالبحر والأرض والسماء هي أمور كبيرة وثابتة وباقي العناصر هي أمور متحركة بحيث تذهب فيأتي غيرها وهكذا دواليك، فإنها ترصف الأقسام بطريقة تتناسب مع الفكرة التي أيقظتها وهناك لوحة أخرى مؤلفة من 19 قطعة هي لفلسطين من البحر المتوسط إلى نهر الأردن حيث تتوسط هذه الخريطة التشكيلية مجموعة زيتوناتها التي تؤسس لذاكرتها. هذه اللوحة غير القابلة للتغيير مؤلفة من أجزاء ثابتة.

وتوجد لوحة ترمز إلى علاقة نيويورك بضجيجها وبيروت وعلاقتها بالأسود والأبيض، ونتوقف عند الأعمال الأخيرة وخاصة تلك التي اتخذت تدليات واضحة وكأن لها علاقة بغصن متدلٍ من العريشة. أما عند سامية فترمز به إلى شجرة البلوط التي لا تتغير ألوانها في الخريف فتبقى ساكنه في بنيتها، هذا ما ذكرها بالسكان الأصليين لقارة أمريكا وبقوه جذورهم لهذه الشجرة العريقة، وألوانها الثابتة كثبات حضارتهم التي تميزهم حتى الآن.

أمينة لأفكارها، أمينة لمعاناتها وصدق أحاسيسها امرأة لا تهدأ في تجوالها الإنساني الداخلي والخارجي، فهي كما تشرح لوحاتها الثوابت وما تفعله في الإطار الإنساني هو المتحرك الذي يشكل ديناميكية هذه الفنانة الإنسانة المرأة المناضلة.

ألم تَرَيا حُسنَ الربيعَ وما ضَفَا على هذه الأشجارِ من حُلَلٍ خُضرِ
فلو أنَ مَيْتاً يُكتَفى عن نُشوره إذنْ لاكتفى مَيْتُ النباتِ عن النَشْرِ
تَرَى الوَرْقَةَ الصفراءَ تنمو على الحيا رُوَيداً كما ينمو الرضيعُ على الدرِّ


محمد مهدي الجواهري

 

فاطمة الحاج 





 





البحر المتوسط. زيت على قماش 1984





الرقص في شارع القناة. صورة فوتوغرافية 1985





آثار قدمي على بحرنا الميت. صورة على شاطئ البحر الميت في فلسطين عام 2001





أشجار الزيتون التوأم. ألوان مائية على ورق 1999