د. فؤاد زكريا ثمانون عاما من الفكر

د. فؤاد زكريا ثمانون عاما من الفكر

إذا أردنا دراسة خريطة الفكر الفلسفي العربي المعاصر، فإننا سنجد العديد من المفكرين في عالمنا المعاصر قدموا لنا عطاء فلسفيًا وفكريًا، وأثروا تأثيرًا بالغًا في بلورة وجهات النظر المختلفة على امتداد خريطة العالم العربي في مشرقه ومغربه.

من هؤلاء المفكرين المعاصرين الدكتور فؤاد زكريا، فمفكرنا يمثل علامة مضيئة في تاريخ فكرنا الحديث والمعاصر. نقول هذا بصرف النظر عن اتفاقنا مع فكره وآرائه تارة، واختلافنا معه تارة أخرى. إننا لا يمكن أن نغفل أو نتغافل عن الدور الرائد، الدور الإيجابي الذي أدّاه ومازال يؤديه مفكرنا فؤاد زكريا، وإذا أردنا أن نكشف عن حلول لبعض مشكلاتنا السياسية والاجتماعية، فلابد أن نضع في اعتبارنا عمق آراء الدكتور فؤاد زكريا وحكمته الناضجة، وإننا لا يمكن أن نتخطى دوره في الإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي بأي حال من الأحوال، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة من قريب أو من بعيد.

غير مجد في ملتي واعتقادي محاولة تخطي آراء هذا المفكر العملاق سواء اتفقنا معه أم اختلفنا، كما أشرنا منذ قليل، لأنها آراء تعد آية في النضج والعمق. إنها تعد من جانبه ثمرة لتأمل طويل، وقراءة مستمرة منذ نصف قرن من الزمان. ثمرة لموهبة نقدية قل أن نجد لها نظيرًا. ثمرة لما يتمتع به من ذكاء حاد يدركه أي فرد إذا جلس للحديث معه، وإذا قرأ ما يكتب. ثمرة لشجاعة نادرة ورغبة في خوض المعارك الفكرية دفاعًا عن الحق، دفاعًا عن الحرية، دفاعًا عن حق العقل في ممارسة دوره، لأن العقل أشرف ما في الإنسان، وإذا قمنا بالابتعاد عن العقل وارتضينا لأنفسنا طريق اللامعقول، فمعنى هذا أننا قد ارتضينا لأنفسنا طريق الهوان، طريق التخبط والضياع.

مفكر متنوع الثراء

وأبادر بالقول، وقبل أن أعرض بإيجاز للحياة الفكرية للدكتور فؤاد زكريا، الذي يعد علمًا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان سامية وخلاّقة، بأنه من الصعب، بل من المستحيل تمامًا أن نشير ولو مجرد إشارة إلى كل أبعاد حياة مفكرنا من خلال النطاق المرسوم للمقالة، بل لابد من الحديث عن بعض تلك الأبعاد والجوانب، إذ إننا أمام مفكر من طراز ممتاز، مفكر بلغ فكره مبلغًا كبيرًا في التنوع والثراء، مفكر لم يرتض لنفسه أن يكون الفكر محصورًا في النطاق الأكاديمي فقط، بل إنه يتعدى هذا النطاق بحيث يضيف إليه أبعادًا تدخل في صميم الإصلاح الاجتماعي والسياسي. إننا أمام مفكر ترك لنا مجموعة كبيرة من الكتب المؤلفة يعد كل كتاب منها فتحًا جديدًا في عالم الفكر والفلسفة والموسيقى، وليس بإمكان أي فرد مهتم بهذه المجالات أن يتخطاها من قريب أو من بعيد. ترك لنا عشرات الكتب التي ترجمها سواء في مجال الفلسفة طوال تاريخها أو في مجال السياسة والاجتماع. ترك لنا مئات المقالات التي ندرك من خلالها أن دور الدكتور فؤاد زكريا إنما يمثل دور الرائد، دور الأستاذ. وكم أثارت كل مقالة منها العديد من المعارك الفكرية، ونبهت العقول إلى التعرف على عوالم جديدة لم يكن بالإمكان التوصل إليها أو معرفتها إلا من خلال فكر فؤاد زكريا، وقلم فؤاد زكريا. وليرجع القارئ - على سبيل المثال - إلى مقالته بمجلة الفكر المعاصر، ولنشر الآن إشارة موجزة إلى تاريخه الشخصي والفكري، وننتقل منه إلى معرفة طرف في آرائه الفلسفية، ونماذج من مجهوداته العظمى في مجال الدراسة الأكاديمية من جهة، والإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي عن طريق التنوير العقلي النقدي من جهة أخرى، وسيتبين لنا أن كل مجال منهما لا ينفصل عن الآخر، بل يرتبط كل واحد منهما بالآخر ارتباطًا وثيقًا.

وُلد مفكرنا الدكتور فؤاد زكريا في اليوم الأول من شهر ديسمبر عام 1927 بمدينة بورسعيد. وقضى ثلاث سنوات بالمدرسة الأولية بالعباسية بالقاهرة ثم التحق بالتعليم الابتدائي عام 1940 وقضى فترة التعليم الثانوي، حيث حصل على شهادة الثقافة عام 1944 والشهادة التوجيهية عام 1945 «القسم الأدبي». وقد تخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة عام 1949 «القسم الأدبي». بعد أربع سنوات من دخوله الجامعة، إذ أنه التحق بالجامعة عام 1945.

وقد تلقى محاضرات الفلسفة وعلم النفس على يد كبار الأساتذة في مصر في تلك الفترة، لقد تتلمذ على أيديهم سواء بطريقة مباشرة أي عن طريق محاضراتهم، أو بطريقة غير مباشرة، أي عن طريق كتبهم ومؤلفاتهم. ومن الأساتذة الذين تلقى على أيديهــم العلم د. زكي نجيب محمود ود. عثمان أمين، ود. توفيق الطويل، ود. يوسف مراد، ود. عبدالرحمن بدوي، د. محمد عبدالهادي أبو ريدة، د. مصطفى حلمي، د. أحمد فؤاد الأهواني، محمود الخضيري.

وقد ذكر لي الدكتور فؤاد زكريا في لقاء تم بيننا أن من أكثر الأساتذة تأثيرًا عليه خلال فترة وجوده طالبًا بالجامعة، هو الدكتور زكي نجيب محمود. إنه يقول عنه: لقد جاء هذا الأستاذ ونحن طلبة بالسنة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدراسة الفلسفية، يحمل إلينا أفكارًا غير تقليدية، تخالف ما درجت عليه دراستنا قبل وجوده، جاء هذا الأستاذ ليعطينا صدمة فكرية كانت ضرورية لنا في هذا الحيز، لكي نعرف أن الفلسفة ليست اتجاهًا واحدًا، وليست اتباعًا لأي نوع من التقاليد والتراث. لقد جاء إلينا زكي نجيب محمود وهو مشبع بالأفكار الجديدة الثورية التي أثرت فينا تأثيرًا كبيرًا. كما يذكر الدكتور فؤاد زكريا من هؤلاء الأساتذة الذين أثروا فيه وفي زملائه أثناء الدراسة، الدكتور عبدالرحمن بدوي. لقد كنا - في ما يقول فؤاد زكريا - نبهر باتساع معلوماته وبإنتاجه التأليفي الغزير وبالعدد الكبير من اللغات الأجنبية، التي يقرأ بها، بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الفلسفي بينه وبين تلاميذه في تلك الفترة، واهتمام الدكتور فؤاد زكريا باللغات الأجنبية وضرورة تعلمها بدأ منذ سنوات تعليمه الأولى، كما أنه فور تخرجه في الجامعة، عمل مترجمًا بكلية الآداب - جامعة القاهرة لمدة ثلاث سنوات حصل خلالها على درجة الماجستير وكان موضوع رسالته: النزعة الطبيعية عند نيتشه كما حصل على درجة الدكتوراه عام 1956، وكان موضوع رسالته: مشكلة الحقيقة . وهذه الرسالة لم تنشر بعد.

علامات مضيئة

وقد تدرج الدكتور فؤاد زكريا بعد حصوله على درجة الماجستير في الوظائف العلمية. لقد عمل مدرسًا مساعدًا حتى عام 1947، ومدرسًا منذ عام 1957، وسافر بعد ذلك مباشرة إلى نيويورك للعمل بالأمم المتحدة، وبقي هناك حتى عام 1962. وفي هذا العام، تم تعيينه أستاذًا مساعدًا، ثم أصبح أستاذًا لكرسي الفلسفة بجامعة عين شمس عام 1970، وكان قبل هذا التاريخ قد تولى رئاسة قسم الفلسفة وذلك منذ عام 1967، والدكتور فؤاد زكريا - كما أشرنا - يعد شعلة نشاط. إنه لا يكل ولا يمل. لقد أسندت إليه أعمال علمية وفكرية عدة، وقد قام بها خير قيام، وترك بصماته البارزة على كل عمل من الأعمال التي قام بها سواء داخل الجامعة أو خارجها، داخل نطاق وطننا العربي أو خارجه. لقد أشرف على العديد من الرسائل العلمية الجامعية، وناقشها، كما تولى رئاسة تحرير مجلة الفكر المعاصر، وأيضًا رئاسة تحرير تراث الإنسانية، وكان ذلك منذ عام 1968 بعد الفترة التي قضاها أستاذنا زكي نجيب محمود رئيسا للتحرير والحديث عن فترة رئاسة فؤاد زكريا لهاتين المجلتين يحتاج إلى مقالة منفصلة. إن رئاسته للتحرير، كانت تمثل علامة مضيئة وشعاعًا برّاقًا متوهجًا في حياة مصر الفكرية. وقد قدم الدكتور فؤاد زكريا خلال فترة إشرافه على هاتين المجلتين خدمة ثقافية كبرى لمصر وللعالم العربي، وأضفى على المجلتين العديد من بصماته الفكرية النقدية.

كما عمل الدكتور فؤاد زكريا مستشارًا للشعبة القومية لليونسكو لشئون العلوم الاجتماعية والثقافية. وكم مثل مصر مرات عدة في المؤتمرات العامة لليونسكو بالإضافة إلى العديد من المؤتمرات الفلسفية والثقافية.

الواقع إن إشعاعات الدكتور فؤاد زكريا الفكرية والثقافية، قد بدت بأجلى صورها، ليس عن طريق كتبه ودراساته ومقالاته العميقة غاية العمق، فقط، بل ظهرت أيضًا من خلال ما قام به من أعمال ونشاطات لا حصر لها. لقد تولى بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرناه منصب الأمين الفني لمجلس العلوم الاجتماعية في أكاديمية البحث العلمي.

أما عن أعماله بالكويت، فإنها تعد فخرًا لنا جميعًا، لقد عمل طوال سنوات عدة رئيسًا وأستاذًا بقسم الفلسفة، وذلك منذ عام 1978، ويقوم بتدريس العديد من المواد الفلسفية، ومن بينها علم الجمال والفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة والمعاصرة وفلسفة العلوم. كما يعمل مستشارًا بسلسلة عالم المعرفة وذلك منذ عام 1978 أيضًا. ويقوم بتزويد العديد من المجلات والصحف بمئات المقالات والدراسات التي أصبحت حديث العالم كله، ليس العالم العربي فقط، بل العالم الغربي أيضًا. وفور نشر مقالة أو دراسة، فإنها تصبح حديث المهتمين بالفلسفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها من مجالات. تصبح مجالاً للعديد من المناقشات سواء من جانب من يتفقون معه في الرأي، أو يختلفون، وهذا إن دلنا على شيء، فإنما يدلنا على أنها تقدم لنا فكرًا متفتحًا، وليس فكرًا مغلقًا جامدًا انتهى عصره وزمانه. إنها مقالات حية تمس أخطر قضايا الساعة، وليست مقالات ميتة أو شبه ميتة بحيث تحتاج إلى غرف الإنعاش. إنها لو كانت ميتة لما أثارت الجدال حولها. وكم كانت تلك المقالات موضع حوار المدارس والاتجاهات الفكرية كلها في أرجاء العالم شرقًا وغربًا. ومن بين تلك المجالات والصحف، مجلة العربي ومجلة عالم الفكر، ومجلة الكويت، ومجلة العلوم الاجتماعية، وصحيفة الوطن، وصحيفة القبس، بالإضافة إلى الإذاعة والتلفزيون.

لقد سافر إلى الكويت منذ عام 1974 وجميع أعماله في تلك الفترة سواء بالكويت أو غيرها من البلدان، التي يسافر إليها لإلقاء بعض المحاضرات تارة، وحضور العديد من المؤتمرات تارة أخرى،إنما تجعل الفرد منا ينظر بعيني الإعجاب والإجلال والتقدير لشخصية الدكتور فؤاد زكريا، وما حققه من أمجاد وإنجازات في عالم الفلسفة وغيرها من عوالم آفاق ومجالات.

رؤية تجديدية واتجاه عقلاني

إن أعماله الفكرية - كما سنؤكد ذلك في ما بعد - تكشف عن رؤية تجديدية ولا تعبّر عن رؤية تقليدية مظلمة. إنه لا يعد متابعًا للآخرين. إذ لم يرتض لنفسه موقف المقلد - ذلك الموقف السهل الذي يعبر عن كسل فكري، بل ارتضى لنفسه موقف الإبداع والتجديد. والمجدد لا يكون متابعًا للآخرين. إنه يرى أبعد مما يراه الآخرون. إنه يكشف عن آفاق جديدة بحكم ذكائه، لا يستطيع أن يصل إليها أهل التقليد، والذين يعانون فقرًا في الذكاء يؤدي بهم إلى النظر إلى الوراء والبكاء على الأطلال، وكأن الله خلق عيونهم في مؤخرة رءوسهم وليس في مقدمتها.

ويمكن القول إن الاتجاه العام السائد في كتابات الدكتور فؤاد زكريا، إنما هو الاتجاه العقلاني، ذلك الاتجاه الذي يؤمن بأهمية التفكير النقدي. الاتجاه الذي لا يغرق في الموضوعات الميتافيزيقية أو في الغيبيات، وفي الوقت نفسه، نجد الدكتور فؤاد زكريا يعتقد أن الفلسفة يجب أن تكون أداة لخدمة قضايا الإنسان بمختلف أنواعها ومجالاتها.

ولهذا نجده يضيف إلى البحوث الأكاديمية البحتة في مجال الفلسفة، بحوثًا تحمل في مضمونها رسالة معينة إلى القارئ. إن ترجمته جمهورية أفلاطون يعد عملاً أكاديميًا، وفي الوقت نفسه، فإن القارئ يستطيع أن يستشف من التفكير الذي قدمه بالنسبة إلى أفلاطون أفكارًا يمكنه أن يستعين بها في مواجهة مشكلات عدة في العالم المعاصر.

وما يقال عن ترجمته جمهورية أفلاطون، وكيف أن هذه الترجمة بالإضافة إلى كونها عملاً أكاديميًا، فإنها تعد تحقيقًا للقول بالبعد الاجتماعي والسياسي للفلسفة، يقال أيضًا عن ترجمته للتساعية الرابعة لأفلوطين، ودراسته حياة أفلاطون ومذهبه الفلسفي، وأبرز الأفكار الموجودة في التساعية الرابعة، هذه الدراسة التي تقترب من مائتي صفحة. إن قيام الدكتور فؤاد زكريا بهذا العمل الممتاز، بالإضافة إلى كونه عملاً أكاديميًا، فإنه يحمل في طياته حمله على الاتجاهات الصوفية والسحرية، التي تميز بها العصر المتأخر من الفلسفة اليونانية. يقول الدكتور فؤاد زكريا في تقديمه لترجمة هذا العمل الفلسفي (ص58). إن أبسط نتيجة لهذا الضعف في تفكير أفلوطين، أن الفلسفة قد أخذت تسمح للخرافات بالتغلغل في أبحاثها الخاصة، وبدأت العناصر الغريبة تختلط بالأبحاث العقلية، حتى كاد العقل أن يخلي الطريق للأوهام فكان لذلك أسوأ الأثر في العقول في العصور التالية.

والواقع أن مفكرنا الكبير الدكتور فؤاد زكريا حين قام بترجماته الرائعة للعديد من الكتب، سواء في مجال الفلسفة أو غيرها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب نشأة الفلسفة العلمية من تأليف هانز ريشنباخ، وكتاب المنطق وفلسفة العلوم من تأليف بول مري، وكتاب حكمة الغرب من تأليف الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، وكتاب العقل والثورة لهربرت ماركيوز، وكتاب الفلسفة الإنجليزية في مائة عام من تأليف رودلف متس، وكتاب عصر الإيديولوجية من تأليف هنري أيكن، وكتاب الفن والمجتمع عبر التاريخ من تأليف أرنولد هاوزر، ومحاورة الجمهورية لأفلاطون، والتساعية الرابعة لأفلوطين، أقول إن الدكتور فؤاد زكريا عن طريق ترجمته هذه الروائع الفكرية كان منبهًا لنا على التعرف على الرأي، والرأي المضاد له. إنه كثيرًا ما يبني لنا من خلال مقدماته لترجمة هذه الكتب نقاط القوة، ونقاط الضعف أيضًا، التي نجدها من خلال أي اتجاه من اتجاهات مؤلفيها.

وحين ترجم فؤاد زكريا كتاب «نشأة الفلسفة العلمية» لمؤلفه هانز ريشنباخ، والذي يعد من الممثلين الكبار للوضعية المنطقية، كتب مقدمة لترجمته أشار فيها إلى المعركة بين أنصار هذا المذهب وخصومه، وذلك على صفحات مجلاتنا الثقافية، كما نبهنا إلى أن من واجبنا حين نتصدى لمناقشة المسائل الفلسفية، أن نكون على إلمام كاف بأبعادها الحقيقية.

العقل والمجتمع

والواقع أن الدكتور فؤاد زكريا لا ينظر إلى العقل نظرة مجردة، أي العقل النظري، أي العقل في حد ذاته، بل إنه يكون حريصًا باستمرار على الربط بين العقل والمجتمع، أي بيان دور العقل في الإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي. إن هذا هو ما يلاحظه الدارس إذا تعمق في كل ما يكتب سواء في مقالاته أو مؤلفاته أو مقدماته للكتب التي يترجمها، وهذا كله يؤكد دوره المتميز، والواضح في بعث حركة التنوير العقلي في مجتمعنا العربي، ويتمتع - كما قلت - بحسّ نقدي قل أن نجد له نظيرًا، وكم أدى به النقد إلى الدخول في معارك فكرية، والدخول في حوار مع هذا المؤلف أو ذاك، أو هذا المفكر أو ذاك. إنه لا يسلم برأي من الآراء مجرد تسليم. وليرجع القارئ - على سبيل المثال - إلى مقدماته لكتاب العقل والثورة لماركيوز (ص5-7) وكتاب الفن والمجتمع عبر التاريخ (ص5-10) وكتاب عصر الأيديولوجية (ص5-7)، والفلسفة الإنجليزية في مائة عام (ص6-8)، وكتاب حكمة الغرب لبرتراند راسل (ص6-13). إننا إذا رجعنا إلى هذه المقدمات، وجدنا فؤاد زكريا يدخل في حوار مع مؤلفي هذه الكتب. إنه يبني لنا نقاط القوة والضعف، ومواضع اتفاقه ومواضع اختلافه أيضًا.

بل إن هذا يتضح تمامًا من موقفه من العديد من الفلاسفة. لقد سألته في لقاء تم بيننا بمنزلة عن أفضل الفلاسفة من وجهة نظره على مراحل تاريخ الفلسفة. فذكر لي من القدامى هراقليطس وأفلاطون. ولكن لابد أن نضع في اعتبارنا أن معظم آراء هراقليطس تعد وليدة التفسير والتأويل دون أن نكون واثقين تمامًا مما إذا كان التفسير أو التأويل مطابقًا للأصل أم لا، أما أفلاطون، فإنه يستفزني للدخول معه في معركة مع إعجابي الشديد بعبقريته الفلسفية. إننا نجد هذا واضحًا تمامًا في كتابة «دراسة لجمهورية أفلاطون. إنه يقول في ختام تصديره لكتابه هذا (ص10): إن أفلاطون وجد في عالم الفلسفة ليبقى، غير أن الصورة، التي ينبغي أن نكوّنها عنه، ينبغي أن تكون صورة مفكر لا قديس، بل صورة مفكر وقع في أخطاء نظرية وعملية كثيرة وكان مسئولاً إلى حد بعيد عن كثير من الاتهامات التي توجه إلى الفلسفة والتي تسيء إلى سمعتها في أذهان غير المشتغلين بها، لاسيما العلماء.

وبالنسبة إلى العصر الوسيط، أو الفكر الفلسفي العربي نجده يفضل المعتزلة بوجه عام، وأيضًا ابن رشد، وهذا يكشف عن اتجاهه العقلي، أما بالنسبة إلى الفلسفة الحديثة، فنجده يفضل نيتشه، وكان نيتشه موضوع رسالته للماجستير كما سبق أن ذكرنا، كما ألف عنه كتابًا غاية في الدقة والروعة كما يفضل أيضًا سبينوزا، وقد ألف كتابًا مهمًا عنه، كتابًا رائدًا استحق من أجله الحصول على جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة عام 1956. وبالنسبة إلى الفلسفة المعاصرة، نجده متأثرًا ببعض الجوانب في فلسفة برتراند راسل، وفلسفة جان بول سارتر، ولكنه لا يتفق معهما في جوانب أخرى. وأهم كتبه المؤلفة التي يعتز بها، والتي أثرى به مكتبتنا العربية كتاب نظرية المعرفة والموقف الطبيعي، وكتاب التفكير العلمي، وكتاب سبينوزا، وكم أصدر الدكتور فؤاد زكريا كتبًا ودراسات أخرى غير هذين الكتابين، من بينها الإنسان والحضارة في العصر الصناعي، والجذور الفلسفية للبنائية.

إن الدكتور فؤاد زكريا إذا كان قد تأثر بهؤلاء الفلاسفة والمفكرين الذين ذكرناهم، بالإضافة إلى إعجابه بالجاحظ وطه حسين وزكي نجيب محمود، فإنه لم يرتض لنفسه موقف المؤيد تمامًا، بل موقف المعارض في بعض الأبعاد والمجالات، ولا يمكننا القول إن فكر فؤاد زكريا يعد حصيلة لكتاب معين أو لمجموعة من الكتب، إذ إنه يضيف إلى استفادته من الكتب والأفكار الموجودة بها، أفكارًا أخرى تعد تعبيرًا عن روحه الإبداعية وحسّه النقدي، لقد سألت الدكتور فؤاد زكريا عن أهم الكتب التي شكلت فكره، فأجاب قائلاً: لم أتأثر بكتاب واحد أو بمجموعة من الكتب تأثرًا مباشرًا. وموقفي عند قراءة أي كتاب هو أن أستجمع قدراتي النقدية، وأتخذ منه موقفًا استقلاليًا، ولا أستطيع بحكم تكويني الفكري أن أخضع نفسي لتأثير كتاب معين. قد تكون هذه خصلة سيئة، ولكن لابد أن أعترف بأن اتجاهي التلقائي نحو ما أقرأه من الكتب هو النقد وليس الخضوع والتأثر، ولذلك فإن معظم الكتب أثرت فيّ تأثيرًا سلبيًا لا إيجابيًا، بمعنى أنها حفزت ملكة النقد في ذهني ودفعتها إلى العمل.

هذا القول من جانب الدكتور فؤاد زكريا إنما يفسر أكثر المواقف الفكرية والآراء التي ارتضاها لنفسه. إنه لا يقول برأي، إلا بعد نظر وتفكير طويل، لا يسلم باتجاه من الاتجاهات الفكرية أو الفلسفية أو السياسية إلا بعد الموازنة بين مختلف الاتجاهات والآراء. إنه يملك - كما قلت - شجاعة نادرة في التعبير عن رأيه، وفي بيان الأخطاء في الآراء المخالفة لرأيه.

جدية الموسيقى

وإذا كنت أشرت في البداية إلى أن الدكتور فؤاد زكريا قد أضاف إلى اهتماماته الفكرية العديدة، الاهتمام بالموسيقى، فإنه لا مفر من أن أقف وقفة قصيرة عند هذا المجال من مجال اهتماماته. لقد اهتم الدكتور فؤاد زكريا بالموسيقى اهتمامًا لا حد له. لقد ترك لنا العديد من المؤلفات والدراسات في هذا المجال، مجال الموسيقى، من بينها كتابه عن ريتشارد فاجنر، وكتابه عن التعبير الموسيقي، ودراسته التي تضمنها المجلد الخاص بالموسيقى في موسوعة محيط الفنون بإشراف الدكتور حسين فوزي، لقد ألف كتابه عن فاجنر بمناسبة مرور مائة وخمسين عامًا على مولد فاجنر. وألف كتابه «التعبير الموسيقي» في محاولة من جانبه لبيان كيف أن أحوال المجتمع تنعكس على الفنان، وتضفي على أعماله صبغتها الخاصة، ومن أن هذا الانعكاس ينبغي أن يترك حتى يظهر من تلقاء ذاته بحرية دون أن تفرضه على الفنان أي قوة خارجية وكيف أن هذا يؤدي بموسيقانا إلى البلوغ إلى مستوى الموسيقى العالمية (ص6 من مقدمة كتاب التعبير الموسيقي).

لقد سألت الدكتور فؤاد زكريا عن رأيه في الموسيقى العربية، وعن أفضل الموسيقيين من وجهة نظره، فأجاب أنه قد فقد الاهتمام بالموسيقى العربية من اللحظة التي شعر فيها بوجود أنواع أخرى من الموسيقى ذات أبعاد أعمق. إن مشكلة الموسيقى العربية تتمثل في أنها ذات بعد واحد فقط، وبالطبع هذا شيء لا يرضي أصحاب الذوق الموسيقي الرفيع طويلاً. ولابد أن يأتي عليهم وقت يبحثون فيه عن نوع أعمق من التجارب الموسيقية ولن يجدوا هذا إلا في الموسيقى الكلاسيكية. أما عن أفضلهم، فإنه بيتهوفن. إنه سيدهم بلا جدال، ولم يحرز شهرته إلا عن جدارة واستحقاق بالفعل.

إنني من جانبي لا أخفي إعجابي بهذه الآراء المتعلقة بالموسيقى. وإذا بحثنا عن الفن كما ينبغي أن يكون الفن وذلك في مجال الموسيقى، فلن يجد الفن إلا في الموسيقى الكلاسيكية في الموسيقى العالمية. أما ما يقال عنه موسيقى عربية، فإنها تعد فنًا على سبيل التجاوز، على سبيل المجاملة، إذ إنها محلية الطابع لا تستطيع أن تتجاوز البحر الأبيض المتوسط.

الواقع أننا حتى نتأمل بدقة في آراء الدكتور فؤاد زكريا في مجال الفن، والموسيقى على وجه الخصوص، نجد أنها آراء صادرة من دراسة عميقة متأنية. إنه لا يقول بهذه الآراء إلا بعد تحليله لخصائص الفن الموسيقي وعناصره، ومعنى الموسيقى، ولغة الموسيقى، ومن هنا كانت آراؤه جديرة بالدراسة، وإقامة الحوار حولها سواء اتفقنا معه فيها أو اختلفنا.

كما اهتم فؤاد زكريا اهتمامًا كبيرًا بالفكر السياسي المعاصر، ويكفي ما كتبه ردًا على محمد حسنين هيكل وغيره من الذين قالوا بآراء لا يتفق معهم فيها مفكرنا فؤاد زكريا.

هذا كله بالإضافة إلى اهتماماته العديدة بكل جوانب الفكر الإسلامي المعاصر، ومن بين مؤلفاته في هذا المجال كتابه الذي صدر بالكويت «كتاب العربي» بعنوان: خطاب إلى العقل العربي، وكتابه: الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة. وكل كتاب من هذه الكتب يحتاج إلى دراسة مستقلة، لا تتسع لها صفحات مقالتنا هذه التي نكتبها بمناسبة مرور ثمانين عامًا على مولده.

نعم إن فؤاد زكريا يعد علمًا وعلمًا بارزًا، يعد رائدًا بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معان سامية ومدلولات عميقة، نقول هذا بالرغم من وقفتنا النقدية بالنسبة إلى بعض آرائه، والنقد يعد ظاهرة صحية لأنه من أبرز خصائص الفلسفة والتفلسف.

هي النفسُ نفسي يسقط الكلُّ عندها إذا سَلِمتْ فليذهبِ الكونَُ عاطِبا
بلى ربما أهوى سواها لأنه يَجُرُّ إليها شهوةً ومآربا
ولو مُكِّنََتْ نفسي لأرسلتُ عاصفاً على الناس يَذروهم وفجَّرتُ حاصبا


محمد مهدي الجواهري


عاطف العراقي