التلفزيون والرياضة

التلفزيون والرياضة

زواج المصلحة وهاجس الإثارة

هل كان باحث الاجتماع الرياضي الفرنسي Raymond Thomas محقاً عندما أدرج محقاً عندما أدرج التلفزيون ضمن العوامل الرئيسية التي تفسر الطفرة الهائلة التي عرفتها التظاهرات الرياضية؟ لإيجاد شق من الجواب لابد من معرفة ما يجنيه كل طرف من تعامله مع مقابلة، فهدف القنوات التلفازية، حسب الباحث الفرنسي، ينبني على مبدأ بسيط: إيجاد برامج تضمن جمهور عريضاً تتضمن: ألعاباً، أساطير، شحنا درامياً، وطنية. إن خصوصيات الرياضية تجعلها منتوجا موجها للنجاح الإعلامي. أما الرياضة فقد استفادت حتما من تدخل عنصر التلفزيون لأنه أعطاها بعدا عالمياً، إنه يشكل وسيلة تطور لا مثيل لها بالنسبة للرياضية، فقد وسع مساحة الملعب بأسره، وبفضل تقنياته مكن من معاينة مشاهد كانت مستحيلة سابقاً كإرجاع اللقطات أو إبطاء سرعتها، لقد قدر عدد مشاهدي الألعاب الأوليمبية ببرشلونة 1992 بما يقارب 4 مليارات متفرج، وخلال كأس العالم في الولايات المتحدة 94 وطيلة 52 مقابلة وصل عدد المشاهدين إلى 27 ملياراً بمعدل 510 ملايين في كل مقابلة. وقد قامت 80 شركة برعاية مونديال فرنسا 1998 أبرزها "كوكاكولا" و "جيليت" و "ماكدونالدز" وتبلغ مساهمة كل شركة 20 مليون دولار وتقول الأرقام إن مونديال فرنسا حقق أرباحا بلغت 500 مليون دولار.

العلاقة بين الرياضية والتلفزيون أشبه بقصة غريبة الأطوار ابتدأت باللامبالاة لدرجة التجاهل وتبعتها حالة تقاطع وتباعد، وبعد ذلك سنجد مسيري الرياضة هم من يطرق باب التلفزيون يستنجدون به من أجل قليل من الاهتمام والتتبع، قبل أن تنعكس الآية فينفجر صراع وسباق ضد الساعة بين القنوات التلفازية تتسارع وتتلهف لأجل الظفر بامتياز نقل هذه التظاهرة أو تلك، ولنبدأ من البداية:

أغلب الدراسات تقدم تاريخ 1936 الذي تزامن مع تنظيم الألعاب الأوليمبية ببرلين كأول حدث رياضي يبث تلفزيا، آنذاك كان عدد المنازل المجهزة بتلفاز قليلا جداُ، ففي فرنسا مثلا كان عدد الأجهزة في سنة 1939 لايتعدى 300 تلفاز، تلك الفترة أكثر ما ميزها هو الاعتماد بشكل كلي على باقي الوسائط الإعلامية وبالأخص الجرائد والمذياع، بفعل يسرهما وسرعة وجودهما في موقع الحدث، في حين كانت كاميرات ذلك الوقت تتسم بالضخامة والتعقيد مما يستحيل معه إجراء بث مباشر. لقد كان التلفزيون ينحت طريقه ببطء في شتى مشارب الحياة ما عدا الرياضة، فقد كانت أشبه بالطفل اليتيم، وقلة الاهتمام هذه كانت حافزا للعديد من المسيرين الرياضيين للتفكير في كيفية استقطاب هذا المولود التكنولوجي الجديد والاستفادة من الخصائص التي تميزه عن باقي الوسائط الإعلامية الأخرى، حيث أقدم العديد من الأطر التقنية بالتوجه إلى استوديوهات التلفزة قصد شرح وتفسير مبادئ ذلك النوع الرياضي.

لكن هذا الاهتمام المزدوج والوعي والأهمية بالمزايا التي يمكن أن يستفيد منها كل طرف من خلال تعامله مع الطرف الآخر، لم يكن لها أن تمر بهدوء وتناسق تامين دون أن تنتفض جملة صراعات وحالات شد حبل، وبالأخص في رياضة كرة القدم، ففي سنة 1952 اختفى هذا النوع الرياضي كليا من القناة الفرنسية العمومية، بسبب خلاف مالي مع الاتحاد الدولي لكرة القدم، وكرد فعل أقدم هذا الأخير على منع كل نقل مباشر لمباريات كرة القدم، وشمل المنع الصحفيين حيث حظر عليهم دخول المعلب، إذ في الوقت الذي تعتبر فيه القناة العمومية بأن المطالب المادية لمسيري الاتحاد تتجاوز بكثير الإمكانات، نجد أن الاتحاد يعتبر التلفزيون مهدداً خطراً لمستقبل كرة القدم، فالمشجع سيتحول إلى مفترج تلفزيوني، الشيء الذي سيشكل خسارة فادحة بالنسبة للأندية التي تعتمد بصفة كلية على مداخيل الملاعب.

في سنة 1957 سيتجدد صراع آخر وهذه المرة مصدره طواف فرنسا الشهير، فالقناة العمومية Orft ستركز في مطالبها على مبدأ بسيط وهو حق المواطن الفرنسي في الإخبار عن تظاهرة رياضية من المفترض أنها تستغل الطرق الوطنية، يعد مرفقا عمومياً، لكن المشرفين على طواف فرنسا، وإن كانوا يعترفون بهذا الحق فإنهم كانو يركزون في نقاشهم على تبيان أين تبدأ وتنتهي حدود مفهوم "الإخبار" وتحوله إلى فرجة مربحة. هذا النزاع سيتجدد سنة 1958 وسيتم الاتفاق على أحقية المواطن في رؤية بعض المقاطع من طواف فرنسا وليس كلها، وفي سنة 1959 سيتم الاتفاق على بث الدقائق العشر الأخيرة من المقابلة.

لكن يجب أن نشير إلى أنه حتى الظرفية الاقتصادية للنادي كانت تحتم هذا التخوف من استحواذ التلفزيون على مرتادي الملاعب الرياضية، فالأندية كانت تعتمد بالأساس على مداخيل الملاعب بنسب قد تصل إلى 80% وهذا ما أفرز بعض التصرفات اللاخلاقية والمنبثقة من اتفاق ضمني بين اتحاد كرة القدم والقناة العمومية، كأن تعلن عن برامج مغلوطة ليتم في آخر لحظة مفاجأة المتفرج بخبر النقل المباشر لهذه المقابلة.

وصفه سحرية

إلا أن نقطة التحول الرئيسية في علاقة الزواج المصلحي بين التلفزيون والرياضة هو عند بداية وقوع تغير في المشهد الإعلامي بتلاشي احتكار الدولة وبسط يديها على قطاعي السمعي- البصري، وظهور قنوات جديدة. وهكذا أصبح الرهان الأول والأخير لهذه القنوات سواء عمومية أو خصوصية هو كيفية جلب وإثارة انتباه المتفرج، ما هي الوصفة السحرية التي بإمكانها أن تضمن وفاءها لهذه القناة دون الأخرى ليتحول في لحظة صراع المصالح إلى أشبه بحرب دبلوماسية ما تفتأ أن تخمد حتى تندلع شرارتها مجدداً.

على الصعيد العالمي نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية تضرب الأرقام القياسية فيما يتعلق بالمبالغ المخصصة للنقل التلفزيوني والتي لاتزيد إلا ارتفاعا، وإذا أخذنا تظاهرة رياضية عالمية بحجم الألعاب الأوليمبية سنجد أن المبلغ المؤدي خلال ألعاب روما 1960 لم يكن يتحاوز 0.5 مليون دولار، لكن برسم الألعاب الأوليمبية الأخيرة فإن الرقم تضاعف عشرات المرات ليصل إلى 456 مليون دولار وذلك لفائدة القناة الأمريكية NBC، وهذا المبلغ أخذت منه اللجنة المنظمة للألعاب 60% في حين أن 40% المتبقية عادة للجنة الأوليمبية الدولية، وللإشارة فإن آخر عرض للحصول على حق البث التلفزيوني جاء من قبل شركة NBC التي وافقت علىٍ دفع مبلغ قدره 1.27 مليار دولار في الولايات المتحدة فقط وذلك لدورتي الألعاب الأوليمبية بسيدني ودورة الألعاب الشتوية بسوتليك سيتي الأمريكية عام 2000 و 2002.

وفي نهاية سنة 1996 منحت الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" حقوق النقل التلفزيوني لمونديال 2006 إلى مجموعة "كيرش" الألمانية السويسرية مقابل 2.2 مليار دولار.

تغير المشهد الإعلامي

من الطبيعي أن يتبادر إلى الذهن التساؤل البسيط عن سر هذه الالتفاتة الغريبة التي تحولت في ظرف وجيز إلى جري ولهث قصد الظفر بحق النقل التلفزيوني لتظاهرة معينة، فما بين حالة اللامبالاة إلى مرحلة الزواج المستديم يمكن أن نستخلص عناصر الإجابة من خلال معاينة وضعية المشهد الإعلامي في الدول الغربية، والتي انساقت في مسار خصخصة المؤسسات العمومية بدعوى تخفيف العبء عن ميزانية الدولة، وكذلك منحها، أي الدولة، فرصة الانكباب بجدية وعمق على القطاعات الاجتماعية الأخرى ذات الطابع الاستعجالي كالصحة والتعليم والسكن. كما أن خصخصة المجال السمعي- البصري بدأ في لحظة معينة أمرا معقولا ومنطقياً، إذ من غير المقبول استمرار الدولة في احتكاره، بكل ما يحمله ذلك من تعارض واضح مع حق الإخبار وتعددية مصادر المعلومات. لكن بالنسبة لأي قناة حديثة العهد تريد أن تشق طريقها نحو إثبات الذات وإيجاد مشروعية اجتماعية واقتصادية لضمان استمرارها في الوجود فلابد من البحث عن الوصفة السحرية التي تجعل المتفرج يتخلى عن عاداته القديمة ووفائه للقنوات العمومية، أي الإتيان بالجديد والمثير والطريف. وحسب تعبير الاقتصادي الفرنسي ج. ف. بورج فهي تزاوج بين أربعة عناصر تجعل منها أكثر ملاءمة للمد التكنولوجي والاتصالي الجديد ونقصد لا مادية الصورة، الحمولة الدرامية للحركة، استمرار الفرجة، البعد الكوني للرهانات.

إلا أن القنوات التلفزيونية لا تستفيد فقط من جذب مشاهدين جدد، ولكنها تراهن على مايمكن أن يحمله المشهد الرياضي من استقدام مستشهرين ومحتضنين جدد، وهذا ما يفسر حتما تلك المبالغ الطائلة التي قدمتها قناة NBC مقابل الظفر بأحقية النقل التلفزيوني للألعاب الأوليمبية الأخيرة، ففي الوقت الذي قدمت فيه مبلغ 456 مليون دولار، فإنها استطاعت أن تبيع 3774 وصلة إشهارية بثمن 4 مليارات دولار أي ضعف ما استثمرته.

إن التلاقي المصلحي وحتى التلاقح النفعي بين كلا المجالين أفرز إيجابيات جمة أثرت كثيراً في التطور المستمر الذي شهده كلا القطاعين.

من بين الإيجابيات التي حملها مقدم التلفزيون نجد أساس مساهمته بطريقة أو بأخرى في النهوض بالرياضة وذلك وفق معادلة بسيطة. فلكي تستمر الأندية الرياضية في جلب موارد مالية مهمة فهي مدعوة لتقديم نتائج باهرة تجلب المتفرج وتديم وفاءه، وهذا ما يفسر في شق كبير الحرص الكبير الذي يمتلك الأندية الأوربية في التصارع على تقديم مبالغ خيالية قصد جلب مشاهير اللاعبين، وذلك بغية الاستمرار في التألق والحضور الدائم في الملتقيات الدولية، فنادي أوليمبيك مارسيليا الفرنسي أصبح كل فوز يحققه سواء في البطولة الفرنسية أو في البطولة الأوربية فرصة إضافية لاستقطاب موارد مالية إضافية ومحتضنين جدد.

وفي دوامة الاهتمام المتزايد بالعلاقة بين كل من التلفزيون والرياضة بدأ الحديث يقوى عن دور وسائل الإعلام وأثرها في تعميم وازدهار الممارسة الرياضية، واتخذ مسار الاهتمام صبغة توظيف مناهج البحث العلمية كالإقدام على جرد تاريخي لإحصاءات المنخرطين أو استعمال تقنية استقصاء الرأي، وهي معطيات وإن كانت تؤكد أن الاهتمام بمشاهدة الرياضة قد زاد كثيراً بفعل ارتفاع الحصص المخصصة للرياضة داخل خانة البرامج المتلفزة، فهذا لا يعني بتاتا أن هناك تأثيراً مباشراً، وأنه بمجرد الإكثار من مشاهد الرياضة فسيستتبع ذلك بصفة مباشرة وآلية ارتفاع في عدد المزاولين لذلك النشاط الرياضي، على اعتبار أن مسار التأثير والتأثر عملية جد معقدة والإعلام لايشكل سوى شق وطرف واحد بداخلها.

انصياع الرياضة

إلا أن جملة التطورات الإيجابية التي أفرزها هذا الزواج المصلحي بين الرياضة والتلفزيون، حملت معها العديد من السلبيات التي أثرت بثقلها في كلا المجالين.

فقد صدق من قال إن الرياضة لا يمكن لها أن تستغني عن التلفزة، فمن دون موارد حقوق النقل التلفزيوني، فإن العديد من التظاهرات الرياضية لم يكن لها أن تظهر، إن انسحاب الكاميرات يعني انقراض العديد من الأنواع الرياضية.

إن الأهداف الاقتصادية المحضة التي تحرك القنوات التلزيونية، في سياق تنافسها الحاد وبحثها المستمر عن وفاء دائم للمتفرج، أخضعت الرياضة لقوانينها ومنطقها الجاري، وإن كانت هذه الرغبة تتم بصفة ضمنية ومتسترة فيما مضى، فإنها الآن أصبحت واضحة إن لم نقل مفضوحة، فعلى سبيل المثال قصد تحول فريق العاصمة الفرنسية إلى المستوى الذي يمكنها من الحضور بقوة في البطولات الأوربية، فقد استدعى ذلك تحوله من إطار جمعية يضبطها الظهير الفرنسي المتعلق بالحريات العامة لسنة 1901 إلى شركة ذات أهداف اقتصادية (SAOS) والجديد المثير أن قناة Canal + أصبحت تستحوذ على 40% من رأسمال النادي الذي يقدر بـ13.5 مليار فرنك فرنسي.

إن جري القنوات التلفزيونية وراء الجديد والمثير جعلها تفرض شروطها، مما أثر سلبا في الخصوصية الطبيعية للمشهد الرياضي، يمكن استجلاء ذلك من خلال التصريح الأخير لخوان انطونيو سمرانش، رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية، بتأكيده "على أن مرحلة مهمة في الألعاب الأوليمبية ستنتهي مع سنة 1996 ومن بعدها يجب إحداث ثورة بتنحية كل الرياضيات التي لا تعيش إلا لكونها أوليمبية".

إن الوظيفة التقليدية للصحفي من إخبار المواطن وتقديم كل الأوجه المتناقضة للقضية له، واعتباره مربيا وحارسا للديمقراطية بدأ يتم التخلي عنها، لم يعد يطلب من الصحفي سوى موافقة الصورة دون أي تعليق أو انتقاد، لقد تحول إلى طرف متواطئ في صناعة الفرجة المبنية على الإبهار وإثارة الانتباه وبالتالي فعلية أن يوظف ملكات البائع والتاجر قصد تحبيب منتوجه.

وهكذا يعاين المتتبع للشأن الرياضي، مدى خطورة الانزياح عن المبادئ السامية التي تأسست عليها الرياضة، فهل من الآن فصاعدا سنرمي في سلة المهملات المقولة الشهيرة لمؤسس الألعاب الأوليمبية البارون بيير دوكوبرتان "الأساسي هو الاحتفاظ للرياضة بالطابع النبيل والفروسي الذي ميزها في الماضي، حتى تقوم في إطار تربية الشعوب المعاصرة، بالدور الفاعل الذي أوكله إياها الأساتذة الإغريق" وهل علينا كبديل التسلح بمقولة أخرى وهذه المرة لا تيلد تورنر صاحب القناة التلفزيونية CNN "ما نطلبه من الرياضة هو خلق الحدث وإلا فسنخلقه عوضا عنها" لتصبح بالتالي العملة الرائجة والرابحة.

 

عبدالرزاق العكاوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات



ش