مساحة ود

مساحة ود

كأنه أبي

فاجأني ابني الذي اخضر شاربه قبل أيام بالقول: «اريد أن اقول لك شيئا ولكن خائف أن تغضب». طمأنته.

فقال: «أنا ألاحظ دائما أنك لست جريئا .. قصدي يعنى متردد. بصراحة كنت اريد أن اقول لك ذلك من زمان», ثم راح يبرهن على كلامه من تصرفاتي. أضاف مبتسما:

- ثم انك لا تعتني بلبسك ولا مظهرك - ضحك مردفا - مع أني أعطيتك قميص شيك من يومين»؟

ضحكنا معا. ثم اندفع إلى عبور الشارع . لم يكن يمشي بل يقفز ويهرول في خط متعرج ، ويناور السيارات بجسده . ويضرب بيده الهواء في وجه سائق مندفع، ويزعق فيه.

كثيرا ما أفهمته خطأ ذلك الأسلوب فيمازحني قائلا:

«انتظر حتى تتعطف عليك السيارات وتقف .. لِمَ لا تنتظر اشارات المرور؟

وقفت أراقبه على الرصيف الآخر منخرطًا في حوار مع فتاة عابرة تنفض جانب ملابسها في عصبية بدا أنها تشاركه الغضب من السائقين وسرعة السيارات، وحين بلغتهما ميزت قولها عالي الصوت:

من الافضل أنك صرخت فيه. هذا المجنون اوشك ان يصدمني.

لبثا للحظات يتشاطران السخط. ثم يتبادلان بعض الكلمات وتركها لنواصل السير معا. بدا أن صحبته لي إلى عملي في ذلك اليوم، قد أمدته ببرهان جديد. فما إن اجتزنا باب المستشفى حتى بادرني الدكتور سمير زميلي .. «المدير مر مع رئيس القسم ، وقرر إحالة كل من تأخر إلى التحقيق». ثم اقترح أن أذهب لأشرح للمدير سبب تأخري وقال: «هو شخص متفاهم ومخه كبير .. وبعدين يا آخى كلنا دفعة واحدة .. وتحقيق يعني جزاء وخصما من المرتب».

بدا ابني غير مكترث، فقد كان يتطلع من الشباك إلى أبنية المستشفى وحدائقه وطرقاته والمرضى المزدحمين أمام العيادات . لكنه استدار قائلا بحدة:

- «يا بابا تذهب وتشرح لمن؟ هو يعني الوزير، حتى لو كان الوزير .. حضرتك تقبل على نفسك هذا الموقف»؟ بهذا القول أعادني ثلاثين عاما في الزمن . حين كنت استغرب لرؤية أبي الصامت دائمًا. فإذا تكلم جاء صوته هادئا. وكان إذا اصطحبني لشراء ملابس العيد أو أغراض المدرسة أتضايق من تسامحه الزائد مع الرذالات العابرة . وأكثر ما كنت أكرهه منه تلك المشية . كان يمشي وئيدا مطرق الرأس .. لكنني لم أكلمه في هذا أبدا.

بينما كنت متمردا، لا أسكت على بادرة إساءة أو خطأ.

في الحقيقة نسيت الأمر برمته، إلى أن كنت ذات يوم في زيارة لأختي الصغرى بعد انقطاع .

قالت بفرح غامر وهي تضع الشاي:

«والله كل ما تزورني أحس إن بابا الله يرحمه قاعد قدامي .. لك نفس قعدته. هأصورك مرة وأنت قاعد أو بتضحك .. نفس ضحكته الله يرحمه . حتى الكراملة والشيكولاتة التي تجيء بها للأولاد من نفس النوع». صمتت قليلا ثم قالت في شجن: «تصور شفتك من الشرفة وانت قادم من بعيد .. افتكرتك وحياة النبي بابا .. نفس مشيته .. ياااه . هتزورني تاني وتجيب أولادك معاك .. نفسي أشوفهم».

قلت لها مبتسمًا:

«هأزورك تاني والله .. وأجيء بالأولاد معاي».

 

رضا البهات