أحزان "خليل الرحمن"

أحزان "خليل الرحمن"

تصوير: منى القواسمي

ومضى الشاعر الخليلي د. عز الدين المناصرة في واحدة من أشهر قصائده "يا عنب الخليل" منجيا قطوف حبيبته الجندلية، الذهبية الخليلية. يحوم، يلوب كجنية يذوب يدعو، يلتهب، شوقا لحبيبته المسبية لاعنا شؤم الليل المخنوق بأنفاس العابر المأفون. ثلاثون عاما، والعروس الخليلية أسيرة طرق التفاقية وبؤر استيطانية، وأنفاس وحوش بشرية تهلك الزرع، وتقلع الضرع وتنهب العين العسلية.

من سخرية القدر أن يتمترس غلاة المتعصبين في خليل الرحمن، في أرض السلام، في مثوى الأنبياء التي إليها عزمنا أمرنا بيد أن الطريق إلى الخليل تطلب من طارقها خطة وتدبيرا .. فإن كان طارقها من الغرباء، كان له أن يجوس فيها، ويجول ويصول، ويصلها عبر القدس، من رام الله في نصف ساعة أو يزيد، أما الذاهب إليها من بني أرضها فله في أمرها أمران أحلاهما علقم، أما الأول فهو التسلل من رام الله متجاوزًا حاجز ضاحية البريد، وما يليه من حواجز "طيارة" دائمة التنقل، متوقفا في القدس الشريف، لاهثا طالبًا سيارة "فورد" كبيرة ذات رقم تسجيل إسرائيلي لنقله إلى بيت لحم، ومن هناك إلى الخليل، أما المرّ الثاني، فهو الانطلاق من رام الله إلى الخليل عبر وادي النار، وهو واد ينبئ اسمه بجسمه، ولي في أمر الوادي قصة، فقد كانت أولى معرفتي به، من خلال جولة صحفية من رام الله إلى الخليل قبل التوقيع على إعادة الانتشار فيها، ضمت لفيفا من الصحافيين الأجانب، وبعض قناصل الدول المعنية بالوقوف على حقيقة الأمور. وقبل أن أنتقل بكم إلى قصتنا مع وادي النار ونحن ذاهبون لإجراء استطلاع "العربي" انتقل سريعا إلى قصة المكان مع الزمان، والإنسان، ولنبدأ بالمكان:

كالبتول مريم العذراء عانت أمنا الأرض قبل ملايين الأعوام مخاض ولادة بكر دون أن يطأها بشر، ودون أن تكون بغيا، تلوت أحشاؤها، وتعالت شهقاتها، لتنجب فيما أنجبت هضبة التوائية، سرعان ما عانت قسوة الحت والتعرية لتغدو مجموعة قمم جبلية تخترقها الأودية.. هذه الجبال هي الأعلى والأطول والأعرض فيما حولها، إذ يندر أن يقل ارتفاع قممها عن 900 م عن سطح البحر، وأخاديد هذه الأودية الشابة، لا تبلغ السطح العلوي للهضبة، وتحصر فيما بينها نجودًا عالية مستوى الأسطح، وعرة الجوانب.

وفي هذه الأخاديد نشأت على مدى القرون قريات كثيرة متناثرة تميزت على المدى بحصانة مواقعها بفضل الجروف التي تطوقها من ثلاث جهات، وفي تلك المواقع المشرفة، كان للمزارعين أن يقوموا بتدريج المنحدرات لزراعة البساتين، كما ساعدت مقاطع الأودية إضافة إلى حجرها الكلسي في انتشار الينابيع، كعين سارة، ونمرة، وقشتلة، والفوار .. ونتيجة الأوضاع المناخية والصخور السائدة تكونت في المنطقة تربة البحر المتوسط الوردية الرقيقة.

وعلى سطح أحد هذه الجبال، جبل الرميدة، بنى "أربع" سيد العناقيين الكنعايين العرب مدينة "قرية أربع"، كان ذلك منذ زمن طويل، فما كشفته الحفريات حتى العام 1967 م، كشف عن نحو 5500 سنة من عمر المدينة ثمة مكتشفات أجرتها جامعة أوتاوا الأمريكية في ذلك الحين تحدثت عن 3500 سنة قبل الميلاد، وثمة سور بسمك 36 قدمًا تحدث عن 1728 ق.م كانا جبابرة، وذكرهم الحق جل وعلا في كتابه الكريم على لسان قوم موسىسورة المائدة آية 22إ ن فيها قوما جبارين إنهم الفلسطينيون العرب الكنعانيون.

ومنذ تسعة وثلاثين قرنا، حل بالمدينة ضيف كريم، حليم رقيق القلب، عطوف، رءوف، أحبه أهل القرية ورعوه، وأحبهم ومكث فيهم، فقد كان هذا الضيف هو خليل الله إبراهيم، الذي ذكر في كتاب الله خمسًا وعشرين مرة، فضلاً عن تسمية سورة مباركة باسمه، وقال بعض العلماء إن الخلة، هي قمة المحبة وكان مما جاء فيه في القرآن الكريم وفي آيات عديدة سورة النجم آية 37وإبراهيم الذي وفىسورة الذاريات آية 24هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين،سورة الصافات آية 109سلام على إبراهيم،سورة مريم آية 41واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا سورة النساء آية 125واتخذ الله إبراهيم خليلاً وبعد زمن، فاضت روح سارة زوجته إلى بارئها فاتخذ لها إبراهيم من مغارة "المكفيلة" مثوى لها، وقد كان الدفن في المغاور سنة في الأمم الماضية، ولطيب المعشر استقر الخليل في الخليل إلى جوار زوجته ومن بعده ابنه اسحق وزوجته رقعة، وليئة زوجة يعقوب، وقيل إن يعقوب أيضا دفن فيها، وقيل إن يوسف أي ضا مدفون معهم.

أهميتها الدينية

وفي العهد الإسلامي، ذكرها الرحالة والمؤرخون بأسماء عدة منها "مسجد إبراهيم" و"حبري" و"حبرون" وأكثرها "الخليل". العرب المسلمون رمموا ما استطاعوا من الدمار الذي أحدثه الفرس يوم "غلبت الروم". وحظيت بأهمية دينية رفيعة عبرت عنها بعض الأحاديث النبوية ومن ذلك ما رواه أبوهريرة من أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لما أسري بي إلى بيت المقدس مرّ بس جبريل على قبر إبراهيم، فقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا قبر أبيك إبراهيم، ثم مرّ بي على بيت لحم وقال: انزل فصل ركعتين فإن هنا ولد أخوك عيسى، ثم أتى بي إلى الصخرة

ازدهرت الخليل على عهد المماليك، وكذا في عهد العثمانيين، واستمر تطورها في نمو واطراد حتى حلت القدم الهمجية ثانية، وحاولوا استعادة الأمجاد المأفونة، وتحقيق الأحلام المريضة، التي خلفت طريق وادي النار، وسواها من الطرق الإلتفافية، والمشاريع الاستيطانية، والجرائم اللاإنسانية وعودة إلى وادي النار .. والطريق إلى الخليل الطريق إلى الخليل عبر وادي النار، لابد أن تحمل في كل جولة منها مفاجأة تزيد المعاناة معاناة، وتزداد المعاناة أكثر وأكثر الذين يبذلون قصارى جهدهم لتجنب ارتياد تلك الطريق في ساعات المساء، وكان من سوء الطالع، الذي لم نكتشفه إلا متأخرا، أن كانت جولتنا الأولى في الخليل متأخرة، مع أذان العصر تقريبا، كانت البداية جميلة، في مطعم خليلي عتيق يروي أثاثه القديم حكايات قديمة وتردد بين جنباته أنفاس زبائن مدهشين اشتهروا بقدرتهم على مواجهة الصعاب، وعلى ادخار القرش الأبيض لليوم الأسود، وعلى خوض غمار التجارة في أي زمان ومكان وكانوا شاهدين على تطور المدينة جيلا بعد جيل، حتى عصر الهزيمة في الخامس من يونيو 1967 م. والمدهش في هذا المطعم أكثر من غيره من الدواهش، أن في سقفه الواطي في الطبقة الثانية من جسور ستائر إذا حدث وأراد الخليلي المحتشم الوقور أن يذهب مع عائلته، أو مع السيدة حرمه إلى المطعم، كان يمكنه أن يسدل الستائر حوله من أربعة جوانب الطاولة، فلا يظهر منه ولا من حرمه المصون إلا أرجل الطاولة، وثياب محتشمة فضفاضة في أدنى الأرض .. لقد كان واضحا التأثر التركي في المطعم وهو العصر الذي تطورت فيه الخليل كثيراً وزاد تطورها بعد نكبة عام 1984م، وإقامة عدد كبير من اللاجئين على مقربة منها، واستمرت قصة تطورها حتى خيم الظلام على مدينة وادعة ذات يوم واستمر حالكا كمن يقص حكاية حزينة، لا تنتهي أحداثها ففي العام 1927م. تأسست بلديتها، وأشرفت على تنظيم المدينة وإنشاء شبكة مجار وشق طرق، واشتهرت بزراعة العنب العسلي المذاق، وكذا التين واللوز والمشمش والزيتون، واشتهرت بالمهن اليدوية والصناعات الخفيفة، وخاصة الزجاج والأحذية، بلغ عدد أهلها في عام 1922، حوالي 16577 نسمة منهم 430 يهوديا عاشوا أهل ذمة، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعام 1945 م، بلغ عدد الأهالي حوالي 24560 نسمة، ووصل الرقم في سبتمبر عام 1967 إلى 38300 وفي أواسط 1996م. وصل العدد إلى 94758 نسمة.

قضى برنامجنا لذلك اليوم أن نترك للحرم الإبراهيمي ان يأخذ من الوقت ما شاء، لا ما نشاء نحن، وكان لهذا البرنامج غير المبرمج ضرورة خلاصتها أن الحرم الإبراهيمي لن ينل من الاهتمام الإعلامي أو حتى الديني، ما ينبغي أن يناله، ولربما كان هناك أسباب لهذه المعضلة، أولها قربه من أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وثانيها أن منطقة الحرم لم تؤهل فيما مضى للسياحة الثقافية، وبضمنها الدينية، وثالثها المضايقات الاحتلالية الإرهابية التي لازمت المكان منذ احتلاله فيا لعام 1967م، والتي وصلت إلى تقسيم المسجد، ففي اليوم الأول من احتلال الخليل دخل جنود الاحتلال المسجد بنعالهم، ومنعوا المواطنين من دخوله، وفي شهر رمضان في عام 1967م، منعوا المواطنين من فرش السجاد في المسجد، وفي الثامن عشر من ديسمبر 1967م، أدخل المحتلون خزانة خشبية إلى الحضرة الإبراهيمية بداخلها التوراة وفي العام الذي يليه وبالتحديد في أكتوبر 1968م، نسف الاحتلال الدرج المؤدي إلى المسجد مع الباب الرئيسي من الناحية الشمالية للمسجد المعروف بباب الناصر بن قلاوون وعمره 700 عام، وفي ذات اليوم نسفوا البئر الأثرية التي أنشئت في عهد صلاح الدين الأيوبي واستخدمت لغرض الوضوء، وبعد ذلك بعشرة أيام فقط منع أذان العصر أي في الحادي والعشرين من أكتوبر من ذلك العام.

تدنيس المسجد

واستمرت أعمال تدنيس المسجد لتدخل مرحلة جديدة في يناير من عام 1970م، حين أدخل كلب إلى المسجد، وتكرر هذا الحدث، وفي يوليو من العام نفسه دخل فتيان يهود المسجد وهو يأكلون المكسرات وينثرون قشورها في المسجد، واستمرت أعمال التدنيس،وفي العام التالي أقيم في الحادي عشر من أكتوبر منه حفلة رقص في المسجد واستمرت أعمال التدنيس، وفي سبتمبر 1974 م، وفي العاشر منه تحديدًا دخل المسجد عدد كبير من المستوطنين بإشراف الحاكم العسكري في الساعة الرابعة بعد الظهر وأجروا طقوس زواج في الحضرة الإبراهيمية شربوا خلالها الخمور وكسروا زجاجة بها خمر سكبوها على أرض المسجد، وفي مارس من العام الذي تلاه وفي الثامن عشر منه على وجه التحديد دخل المستوطنون برفقة الحاكم العسكري في تمام الساعة الثانية والدقيقة الخامسة والأربعين من عصر ذلك اليوم وقاموا بعملية ختان في المسجد، وسكبوا زجاجة خمر على أرض الحضرة الإبراهيمية، وفي يونيو من العام نفسه أدخل اليهود ترابًا وقشًا في زرفيل باب المئذنة فلم يستطع المؤذن رفع الأذان بواسطة مكبر الصوت، وفي أكتوبر من العام الذي يليه دخل خمسة عشر مسلحًا المسجد ومزقوا المصاحف وداسوها بأقدامهم، وفي سبتمبر في العام الذي تلاه، وبتاريخ 10/9/1977م، الموافق يوم الجمعة الأخيرة من رمضان لعام 1397 هـ وقبل صلاة الجمعة بنصف ساعة قام الجنود بكسر مواسير المجاري للثكنة العسكرية القريبة من المسجد وسالت المياه النجسة إلى مدخل المسجد، وفي الرابع والعشرين من مارس في العام الذي تلاه شرب مستوطنون الخمور في الحضرة الإبراهيمية بين صلاتي المغرب والعشاء، وفي السادس والعشرين من يونيو من نفس العام وضع المستوطنون مادة حارقة للعيون على باب غرفة الأذان فأصيب المؤذن بالعطاس وسالت دموعه ولم يستطع رفع أذان الفجر، وبعد ذلك بثلاثة أيام قام الجنود بشرب الخمر أثناء صلاة الجمعة . وهكذا وهكذا واستمرت الجرائم تتوالى حتى جاء اليوم الأشد شؤما ساعة صلاة الفجر من يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان المبارك 1414 هـ الموافق 25 فبراير 1994م، وفيما كان ضيوف الرحمن ساجدين للواحد القهار إذا بالمستوطنين يتزعمهم باروخ غولد شتاين يقتحمون المصلى ويفتحون النار على المصلين فيستشهد ثلاثة وأربعون مصليا، فيهب المسلمون دفاعا عن مقدساتهم ويستشهد ثمانية وأربعون آخرون و يجرح تسعة وعشرون، وكان أن لاحقت قوات الاحتلال الشبان الغاضبين إلى المستشفى الأهلي في الخليل فجرحت ثمانية عشر مسلمًا، ويلاحظ هنا أن عدد الجرحى هو أقل بكثير من العدد الحقيقي، لكن معظم الشبان كانوا يتهربون من ورود أسمائهم في تلك السجلات خوفًا من ملاحقتهم فيما بعد.

شهادة شقيق الشهيد

شريف زاهدة، كان أحد المصلين، وهذه هي شهادته: أنا شقيق الشهيد سفيان زاهدة، كنت أصلي في آخر صف للمصلين في الحرم الإبراهيمي، صلينا تحية المسجد ثم أقام الإمام الصلاة، نوينا الصلاة جماعة وعندما وصلنا إلى آخر سورة الفاتحة سمعت من خلفي صوت مستوطنين يقولون باللغة العبرية بما معناه بالعربية "هذه آخرتهم" فحدثت نفسي قائلاً: لعله يكون شخصًا مصاباً بالهلوسة أو الهذيان، وقرأت الفاتحة مرة أخرى لأشعر بالخشوع، وعندما وصل الإمام إلى السجدة وهممنا بالسجود سمعنا صوت إطلاق نار من جميع الجهات، كما سمعت صوت انفجارات، وكأن الحرم بدأ يتهدم علينا، ولم أستطع أن أرفع رأسي وطلبت الشهادة، لقد تفجر رأس الذي بجانبي، وتطاير دماغه ودمه على رأسي ووجهي، وعندها لم أصح إلا عندما توقف إطلاق النار، وبدأ الناس بالتكبير: الله أكبر، الله أكبر، فرفعت رأسي وشاهدت المصلين يضربون شخصا يلبس زيًا عسكريًا، شاهدت طفلاً مستشهدًا لا يتجاوز عمره "12" عامًا حملته وخرجت به إلى الخارج إلا أن الجندي اعترضني وأراد أن يطلق الرصاص علي، نظرت إلى الجهة اليمنى فشاهدت خمسة من المستوطنين في غرفتهم الصغيرة عند مقام سيدنا إسحق، استطعت الهرب بالطفل ووضعته في سيارة مارة، ثم صحوت لنفسي فشعرت بدوخة وصدري مبتل، حسبته عرقًا، تحسست بيدي مكان البلل فإذا بي أري دمي ينزف، فصعدت مع أول سيارة شاهدتها إلى المستشفى فإذا بي مصاب برصاص حي في صدري.

أما الشهداء فلهم الجنة، الشهيد صابر استشهد والده في معركة حوسان عام 1956م، قبل شهرين من ولادته.

الشهيد محمود أبوزعنونه، جرح في المجزرة وحمله ابنه على ظهره ليخرج به من المسجد للإسعاف، منعه الجنود، وحين استطاع الإفلات، ووصل إلى المستشفى كانت روحه في جنان الخلد.

جبر أو سنينة "10" سنوات كان مصابا يجري في عتمة الليل البهيم من رصاصات الغدر، رآه أحد الجنود فأطلق عليه النار ليسقط صريعًا تغسله دماؤه.

نمر مجاهد، كان من أوائل من حاولوا الهجوم على المجرم باروخ غولدشتاين إلا أن الرصاص أصابه قبل الوصول إليه، واستقرت عدة رصاصات في رأسه ليلة استشهاده. أوصى نمر شقيقه الأصغر بأولاده خيرًا وقال "كما دللتك في صغرك، فدلل أولادي واعطف عليهم لأنك عمهم".

وثمة في شارع الشهداء مدرسة تعيد باسمها للذهن أمجاد الأندلس، إنها مدرسة قرطبة الأساسية للبنات، تدير المدرسة المربية فريال أبو هيكل، المرأة التي خاضت ومعاركها كلها، فاعتزلت التدريس مرتين الأولى للتفرغ لأبنائها بين الأعوام 1978م- 1982م إيمانا منها بأهمية وثقل الأمانة، واعتزلت ثانية لمدة نحو عشر سنين في العوام 1983م- 1994م، نتيجة قرار احتلالي بإيقافها عن العمل لأسباب أمنية ولم تعد إلى وظيفتها إلا لدى قيام السلطة الوطنية الفلسطينية وزوال سيطرة الاحتلال عن مسئولية التربية والتعليم، تتحدث السيدة أبوهيكل عن أحداث يومي العاشر والثالث عشر من سبتمبر 1995 م، التي تعتبر علامة بارزة في تاريخ المدرسة ودورها المقاوم للاحتلال الاستيطاني، تقول فريال: "كان يوم 10/9/1995م، يوماً واضحًا في تاريخ الاعتداءات من قبل المستوطنين ضد مدرسة قرطبة، حين تم إنزال العلم الفلسطيني عن سطح المدرسة حيث تسلم أحدهم بناء المدرسة بعد أن قمت بإقفال الباب لمنع دخولهم إلى بيت الدرج المؤدي إلى السطح، وغادرت إلى الطابق السفلي، أثناء المغادرة اصطدمت مع إحدى المستوطنات المرافقة لهم، ومنعتها من الاستمرار في تصويري بكاميرا فيديو كانت في يدها، وحاولت انتزاع الكاميرا من يدها، بينما هي آخذة في الصياح مستنجدة بالمستوطنين وبأفراد الجيش الموجودين لحراسة مبنى الدبويا المقابل للمدرسة، وبعد عراك بالأيدي بيننا استطعت أن أدخل المدرسة وأغلق الباب خلفي، وبدأت التخطيط لتنظيم مظاهرة احتجاجية نقوم بها مع الطالبات للاحتجاج على ممارسات المستوطنين والجيش ضد المدرسة خاصة بعد أن رأيت المستوطن الذي انتزع العلم الفلسطيني عن سطح المدرسة كيف أخذ يمسح بالعلم زجاج سيارته مما دفعني إلى إخراج علم آخر من حقيبتي حيث كان لدي يومها ثلاثة أعلام .. رفعت العلم عل عصا أمام عيونهم ووضعته أمام مبنى المدرسة، وابتدأت المسيرة الاحتجاجية التي قانت بها المعلمات والطالبات والعلم في مقدمة المسيرة ..ز انتزع المستوطن العلم الثاني من أيدي الطالبات وقام بضربهم بعصا العلم، فأصابهن الذعر واصطدم بعضهن بحاجز عسكري حديدي، وأصيب بعضهن بالإغماء وتم نقلهن إلى المستشفى واستمرت المسيرة، وكان لدي علم ثالث في حقيبتي، وقفت أمام صالون حلاقة قرب الحاجز العسكري المقام في شارع الشهداء، طلبت منه العصا ورفعت العلم عليها أما الحاجز، واستمرت المسيرة وشارك فيها أولياء أمور الطالبات والمواطنون احتجاجاً على الاعتداءات واستمرت الأحداث متوالية عدة أيام أم فيها المدرسة عدد كبير من الفعاليات الوطنية والشعبية، وفي صباح الثالث عشر من الشهر نفسه، فوجئنا بأكوام من القمامة قام المستوطنون بوضعها أما الباب الداخلي للمدرسة، فقمت باتصالات مع الأجهزة المعنية، وحضر مسئولون إسرائيليون وكان قد حضر قبلهم رئيس البلدية ومدير التربية والتعليم، وإمعانا في التحدي، قام المستوطنون بدعمهم بعض أعضاء الكنيست المتطرفين بمحاولة لرفع العلم الإسرائيلي فوق سطح المدرسة، وتم اشتباك آخر أدى إلى إصابة بعض الطالبات بحالة إغماء، وتم منع وصول الأطباء لإسعافهن ومنع عربات الإسعاف من نقلهن للعلاج، وفي ذلك اليوم اشتبك أولياء الأمور مع المستوطنون ولم ينته الاشتباك إلا بتدخل ما يسمى الإدارة المدنية التي سحبت المستوطنين من المدرسة، وتلا ذلك- طبعا- جملة من الاعتداءات لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، إنها استمرار للاعتداءات التي بدأت منذ عام 1975 م، حين أقام اليهود المتطرفون في بؤرة الدبويا بهدف الاستيطان وبهدف مضايقة طالبات المدرسة كعنصر فاعل في المنطقة.

جولة في الشارع

شارع الشهداء كان خاليًا حتى في حوالي الساعة الثانية ظهرًا عندما مررنا به للمرة الثانية، شاركنا جولة استطلاع "العربي" صديق قديم، جلسنا معًا على الطاولة الوحيدة، في المطعم الوحيد الباقي في شارع الشهداء، شعرنا بالوحدة، ولم يكن سوانا إلا عامل وحيد في المطعم، هو صاحبه، وهو طاهيه وهو نادله، وهو موظف النظافة فيه، جلست فيه وصديقي الخليلي الذي قال: "منذ أربعة أعوام لم أدخل خذا الشارع دخلته يومها لأمر بهم، وجلست في هذا المطعم، وها أنذا أستعيد ذكرياتي كمن يحاول الإمساك بمخطوط نادر لقصة حب مجوسية، وصلنا في شارع الشهداء إلى الحسبة، ثمة بائعون قلة وزبائن أقل، ويتناثر فوق المشهد أبراج مراقبة، ودوريات عسكرية راجلة ومحمولة، وفي وسط الميدان أعلام إسرائيلية تغزو المكان، كانت ثمة سيارة مراقبين دوليين فيها سائق يتكلم العربية بلهجة مصرية، وشخص آخر إلى جانبه كانا ودودين، يقول الأهالي إن المراقبين مغضوب عليهم من قبل المستوطنين الذين يتهمونهم بأنهم محابون للعرب، إلا أنهم مثل عدمهم تماما، فهم لا يفعلون أكثر من كتابة ما يشاهدونه أو إرساله في تقارير، وإن أخبرهم أحد بشيء ما فإنهم لا يهتمون به، إنهم لا يصدقون إلا ما يرون .. أنهم لا يساعدون في شيء ، كل ما في الأمر أنهم يكتبون، وينكون هؤلاء في العادة من جنود إسكندنافيين وإيطاليين وأتراك. وهو موجودون منذ مطلع عام 1996م. على خلفية مجزرة الحرم الإبراهيمي ويقدمون تقاريرهم إلأى كلا الطرفين. فيما كنا نلتقط الصور في المنطقة تبعنا فتى صغير يركض لاهثًا، وحين توقفنا قال: اذهبوا إلى الحرم الإبراهيمي، صوروه، ادخلوا وصوروا وأردف يقول: "استعينوا بالمراقبين الدوليين، ربما يساعدونكم، إذا منعتم دورية المراقبين الدوليين قالت أنه لا علم لنا بمنع التصوير داخل المسجد، لكن على أي حال لا يمكننا مساعدتكم لأنه يحظر علينا دخول المسجد بصفتنا مراقبين. ساءلت نفسي، كيف يمنع المراقبون من مراقبة الحرم الشريف من الداخل، أوليس جزءًا من المنطقة، وهل يحق لهؤلاء المستوطنين أن يراقبوا المسجد من خلال كاميراتهم التي لا تترك زاوية من المسجد إلا أحصتها من هم هؤلاء، وكيف جاءوا؟

يجيب الشوبكي في مكتبه بالمجلس التشريعي بالخليل: "إنهم أربعمائة فرد، نصفهم من طلاب المعهد الديني، ويغادرون المدينة نهاية النهار، ويتوزعون في عدة نقاط استيطانية في الدبويا، ومدرسة أسامة بن منقذ، والحسبة، وتل الرميدة إلى جانب تجمع عسكري ملحق بالحرم الشريف، يسكن هذه البؤر الأربع أقل من أربعين عائلة، وهم من المتطرفين، وهم لا يعترفون بوجود أحد غيرهم في المدينة لأن الخليل كانت عاصمة لدولة يهودا فترة من الزمن، وبالتالي فإن كل من فيها غرباء "غوييم" الحل الوحيد هو هجرتهم منها.

أكبر حي مدني قديم

في 2 H البلدة القديمة آثار إسلامية قديمة، مساجد، وسوق مغلقة، كانت هذه المنطقة العاصمة الدينية الاقتصادية لكل محافظة الخليل البالغ عدد أهلها (400 الأف) نسمة، لكن الظروف الاستيطانية تدفع إلى تهجير المواطنين، هناك بوابة حديدية على مداخل البلدة القديمة، وحسب اليونسكو، يقول الشوبكي فالبلدة القديمة هي أكبر حي مدني قديم موجود في مدينة في العام، ويضيف أنه كلما حدث حادث تغلق البوابات، ويفرض منع التجول، عديدون هاجروا من اجل تمسكهم بالعمل الذي يتطلب منهم الانتظار في الوصول إليه. لأن عدد أيام منع التجول بلغت في إحدى السنوات مائتين وخمسون يومًا، وبعد الاتفاق ظننا أن المشكلة يمكن حسمها ديمغرافيا بمعنى أننا إذا أعدنا المواطنين إلى مساكنهم فإن البؤر لن تتوسع، ولكن، وحتى بعد التوقيع على اتفاق الخليل فإن المواطنين يخافون عل أبنائهم بعد الساعة الثانية ظهرًا، وتنقطع الحياة في الشارع، يثر المستوطنون الرعب في ساعات الليل، يحدثون ثغرة في جدان البيوت المهجورة، ويستولون عليها، وعندما يتم اكتشاف الأمر، تتحرك القوى السياسية للضغط من أجل إخراجهم، لذا بدأنا بعمليات ترميم تقضي بترميم المنازل وتأجيرها مجانا لمدة خمس سنوات بسبب التعرض للمخاطر، علمًا بأن عمليات الترميم تقوم عليها لجنة خاصة حصلت على مبلغ مليون وسبعمائة ألف دولار من البنك الإسلامي للتنمية في جدة، وعلى مليون وستمائة وأربعين ألف دولار من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي "ومقره في الكويت"، إضافة إلى مليون وسبعمائة وستين ألف دولار من السلطة الوطنية الفلسطينية.

وفي بناية قديمة مرممة بالقرب من دائرة الأوقاف في المحافظات اتخذت لجنة الإعمار مقرًا لها، الواقف أمام المقر يجد دائرة الأوقاف وقد أحيطت بالأسلاك الشائكة لفصلها عن البؤرة الاستيطانية في الحسبة، أسفل الدائرة مدخل صغير يرابط فيه جنود إسرائيليون، إنه مدخل بؤرة الحسبة، وفي المبنى القديم نجد عماد حمدان المدير الإداري للجنة الإعمار، الذي يعتذر عن تقديم معلومات دقيقة وواضحة عن العمل حتى لا يستفيد الطرف الآخر منها، يبد أن العمل بدأ باتباع سياسة ترميم المباني المحاذية للبؤر الاستيطانية كأولوية، لكن عملهم ووجه بالمضايقات والاستفزازات الدائمة فقد ضربوا العمال بالزجاجات الفارغة وبالبيض الفاسد وبالحجارة وهم يقومون بأعمال الترميم على السقالات "رافعات قوامها ألواح خشبية مرفوعة إلى سطح المبنى بحبال" ثم يقومون بتقديم شكاوي على العمال بتهم ملفقة، وتعرض العمال وعددهم 250 عاملاً لـ "146" عملية اعتقال، و"116" حالة إيقاف لعدة أيام، ويوجد لدى اللجنة محام خاص تم تعيينه لمتابعة قضايا العمال وإخراجهم من المعتقلات ودفع الكفالات والغرامات المطلوبة، كما كانوا يلجأون إلى إفساد الخلطات الخرسانية بواسطة شظايا الزجاج والشوائب الأخرى، وقد طالت الاستفزازات المواطنين أنفسهم وبعض الحوادث لا يذكر من فرط بشاعته.

ردم الآثار

بجانب دائرة الأوقاف هناك قطعة أرض اسمها "حاكورة الكيال: وضعت سلطات الاحتلال فيها كميات من مخلفات الحفريات، وبعد طول طلب وعناء وضغط، أزالوا هذه الأتربة ووضعوها في أرض عربية أخرى لكن بما يؤهلها للعمل كمرآب للسيارات بمعنى إزالة الأتربة كانت تهدف لعمل مرآب، وليس لرفع الضرر. مخلفات الحفريات التي أشرنا إليها آنفا ناتجة عن إجراء حفريات غير شرعية تحت البؤر الاستيطانية مثل إبراهام أبيتو ويحاولون أحيانًا استغلالها لإنشاء أساسات لمبان جديدة، أو لردم أسطح دكاكين وبيون تابعة للأوقاف الإسلامية وفي بعض حالات كانت تستخدم لردم فتحات يكونون قد أحدثوها في أسطح المنازل والبنايات، ولذلك كثيرًا ما كانوا يستخدمون "شوادر" لتمنع رؤية ما يقومون به . استذكرت هنا ما تداولته وسائل الإعلام قبل نحو عام ونصف عن مخطط لنفق في الخليل يبلغ طوله "1350" مترًا يقوم بتخطيطه المهندس الإسرائيلي بار الكاتس وتموله وزارة البني التحتية بزعامة أريل شارون الذي يهدد عشرات المنازل، فضلا عن أنها تحيط بالحرم الشريف، الذي سبق أن جرت حفريات أسفله، شأنه في ذلك شأن الحرم القدسي الشريف، وكانت المصادر الإعلامية قد ذكرت أن الإسرائيليين يستغلون فترات حظر التجول في البلدة القديمة ليقوموا بأعمال الحفر وإزالة التراب، وأن النفق يشبه إلى حد كبير المترو بحيث يتفرع في خطوط عدة تصل البؤر الاستيطانية في البلدة القديمة بعضها بالبعض الآخر ومن ثم بخط يصلها بالحرم الإبراهيمي، وأن العمل كان يتم سرية إبان تلك الفترة. وهذه الحفريات النفقية مختلفة عن الحفريات التجارية، ففي بؤرة الدبويا تم اكتشاف منازل قام المستوطنون بدخولها من خلال مداخل في البؤرة نفسها ويستغلونها كمشاعل دون علم أصحابها، وكان منها مصانع للفخار أحيانًا، ولدى اكتشافها، وأمام الضغوط، فقد أهلى المستوطنون، على أن تحصل قوات الاحتلال على نسخة من مفاتيح هذه البيوت.

في بعض الأحيان كان المستوطنون يسابقون اللجنة في ترميم البيوت العربية لوضع يدعم عليها، وفي إحدى الحالات، حدثت حكاية غريبة إذ حاول الإسرائيليون منع اللجنة من ترميم مبنى يدعى "حوش حسونة وشاهين" وذلك بإغلاق مدخلا لحوش، ولك يكن الإسرائيليون يعلمون بوجود ربة الأسرة في منزلها داخل الحوش، فقاموا بإغلاق الباب وهو المنفذ الوحيد للأسرة التي تقطن فيه.

وعلى أي حال فاللجنة ليست حرة في عملها، فالحاكم العسكري قام بإرسال كتاب يمنع بموجبه أعمال الترميم في أبنية كثيرة تقع في ثلاث مناطق هي القصبة، ومدرسة أسامة بن منقذ، والدبويا، وجاءت هذه الأوامر بناء على صور جوية، ومعللة بقناعة شخصية لدى الحاكم العسكري بأن ترميم هذه المنازل يهدد الأمن. وعموما فإن في المدينة بؤراً إستيطانية عدة هي:

الدبويا: بيت هداس" يقطن فيها إضافة إلى مبنى مجاور يدعى حسون" وإحدى وعشرون عائلة.

تل الرميدة: أنشئ عام 1987م، حيث قامت مجموعة من غلاة المستوطنين تحت حماية الجيش بإقامة ثلاثة كرافانات تحولت إلى ستة وأقيمت على دونم أرض بقرب مقبرة، من وقف تميم الداري ويسكن فيها الآن سبع عائلات من حركة كاخ وكهانا حاي وأشهر ساكنيها باروخ مارزيل المسئول عن العديد من النشاطات الإرهابية.

مدرسة أسامة بن منقذ" بيت رومينو": أنشئت عام 1987م، حين استولوا على المدرسة وسكن فيها المستوطنون وحولوها إلى مدرسة يجري هذه الأيام فيها عمليات توسيع حيث بُني حتى الآن أربع طوابق إضافية ومن المقرر أن يبنى ضمنها حي يسمى " حزقياهو" على أرض المحطة المركزية القديمة ويتكون المشروع من عشرات من الوحدات السكنية ورياض الأطفال والحضانات وقاعة رياضية وكانت إسرائيل قد استولت على بنايات فارغة في المنطقة قبل إعادة الانتشار بهدف توسيعه.

استراحة الحرم: وهي إحدى الملحقات الخارجية بالحرم، تم الاستيلاء عليها منذ بداية الاستيطان في الخليل، وتم تحويلها إلى مطعم واستراحة للزوار من المستوطنين.

سوق الخضر "الحسبة"/ "إبراهام أبينو": تقع على مدخل مديرية أوقاف الخليل، وفي منطقة سوق الخضار، يقيم فيها المستعمر الأول في الخليل موشيه ليفنجر، وتجرى فيها أعمال توسيع ضخمة لبناء حوالي مائتي وحدة سكنية بالإضافة إلى كنيس ومركز أطفال ويعيش فيه عشرون عائلة. يقول مدير دائرة الخرائط في بيت الشرق والخبير في شئون الإستيطان خليل التوفكجي إن اتفاق التوسع الاستيطاني الذي يعني أن للمستوطنين الحرية الكاملة في البناء داخل الحي اليهودي بالإضافة إلى كريات أربع.

إزاء كل هذا يتبادر السؤال حول التاريخ الحقيقي لبدء الاستيطان في الخليل، وفي ذلك يقول سالم أبو صالح مدير مكتب تلفزيون فلسطين في الخليل إن اليهود كانوا يعيشون يف وئام كأهل ذمة ولكن في العام 1929م، نفذت المخابرات البريطانية عملية لخلق توتر بين العرب واليهود وتولد شعور لدى كل طرف بضرورة اقتلاع الآخر.

كريات أربع

والحديث عن الخليل، لا يتم دون الحديث عن مستوطنة كريات أربع الصيغة المزورة "لقريات أربع" الكنعانية العربية، ففي الحادي والثلاثين من أغسطس 1970م، أصدر الحاكم العسكري للضفة الغربية أمرًا صادر بموجبه ألفًا ومائتي دونم شمال شرق مدينة الخليل وفي 12/5/1981م، افتتحت أول محكمة إسرائيلية تقام في مستوطنات الضفة الغربية في كريات أربع. هذه المستوطنة أنشئت على أراضي المزارعين العرب الذين طردوا من أراضيهم ومنازلهم واستطاعوا في عام 1979م، التمدد إلى داخل البلدة القديمة من خلال بؤرة الدبويا.

رئيس بلدية الخليل مصطفى النتشة يبدو في غاية القلق إزاء ما آلت إليه الأوضاع في الخليل من النواحي الاقتصادية والتعليمية ومن مختلف النواحي الأخرى حيث يظهر قلقًا واضحا على طالبات مدرسة قرطبة في شارع الشهداء قريبًا من بؤرة الدبويا، وكذلك على أسواق الخليل التي أصابها العنت والشلل والكهولة وعلى المضايقات التي تمارس لمنع عمليات ترميم المباني في الخليل، وقدم لنا إيضاحا حول أثر الاستيطان في شئون الخليل المختلفة، وهذا ما يؤكده التاجر عبدالرحمن جمجوم إذ يقول إن الوضع في الخليل استثنائي إلى أبعد الحدود لأن المدينة مقسمة، ذهب جمجموم قبل دقائق إلى البنك لكن لم يجد فيه أي زبون، بعض التجار فقط يحتاجون إلى خدمات البنوك، المستثمرون يهربون،والأمل يتبدد باستمرار وبنبرة هادئة تحدث عبد الرحمن النتشة صاحب مصنع خليل الرحمن للزجاج. الحاج عبد الرحمن غير مغرم بالحديث، أو حتى بمجرد الالتفات إلى أي شيء سوى خامته الزجاجية التي يقوم بصهرها أو بتشكيلها، حدثني عن الأحوال الاقتصادية السيئة، إلا أنه والحق يقال، لم يكن مهتمًا إلى هذه الحد بالأوضاع الاقتصادية، فهو على درجة واضحة من البساطة والقناعة، لكن الحاج عبدالرحمن قلق بالدرجة الأولى على هذه الحرفة التي يهتم بها الأجانب والإسرائيليون أكثر من العرب أصحاب هذا التراث، وهو قلق من أن هذه المهنة لا تلقى الاهتمام الملائم، حدثني الحاج عبدالرحمن كيف كان الخليل حي كامل اسمه "حي القزازين" وكيف تبدد كل شيء الآن، وحدثني كيف أتى مطلع هذهالقرن رجل شامي يدعى محمد القزاز "أبو ياسين" إلى الخليل وتعلم صنع الزجاج واستقر هنا وله ابن يعيش حاليًا في القدس الشريف. وثمة أمر في غاية الأهمية إضافة إلأى المجهود الثقافي والاقتصادي البارز والمهم الذي يقوم به الحاج عبد الرحمن وهو الدور البيئي، إذ يعتمد في عمله على جمع الزجاج المهدور في البيئة، ويعيد تشكيله، وهو بذلك يشكل مثالا يحتذى للصناعيين المحدثين. وثم صورة جميلة أخرى مشرقة في الخليل خارج معمل الحاج عبدالرحمن، إنها رابطة الجامعيين التي قابلنا فيها مدير العلاقات العامة عمران التميمي، شرح لنا التميمي الدور المشهور للرابطة في تقديم الخدمات للمجتمع إبان السيطرة ا لكاملة للاحتلال على الخليل، بدءًا من إنشاء كلية البوليتيكنيك في فلسطين، ومرورًا بالمدرسة النموذجية التي استوعبت المعلمين الذين كان يفصلهم الاحتلال لأسباب أمنية مرورًا بالنشاطات الثقافية والاجتماعية والفنية التي كانت توفرها الرابطة للمجتمع المحلي، وانتهاء برفد السلطة الوطنية عند نشأتها لعدد من الخبرات التي كان للرابطة فضل في تأهيلها.

وفي الخليل أيضا مؤسسات أخرى منها جمعية الهلال الأحمر، وجمعية سيدات الخليل ومركز شباب الخليل، وجمعية أصدقاء المريض التي يتبع لها المستشفى الأهلي وكذلك اتحاد الجمعيات الخيرية والغرفة التجارية، والجمعية الخيرية الإسلامية، أما جامعة الخليل فهي الصرح العلمي الذي قدم على مدى خمسة عشر عامًا أحد عشر شهيدًا، ومنهم فايز الطريرة الذي استشهد في السجن عام 1981م، وسعد الدين صبري، وجمال نزال، وسميح أبوبكر وقد استشهدوا في اعتداء للمستوطنين على حرم الجامعة عام 1983م، وكمال صريع، وفضل النجار وأمجد ميمونة الذين استشهدوا في مطلع الانتفاضة عام 1988م، عطوة حرز الله الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية عام 1989م، أمجد أبوخلف اغتالته أيضًا المخابرات الإسرائيلية عام 1993م، وبسام مسالمة الذي استشهد عام 1995م، وعادل الشحاتيت الذي استشهد عام 1996م، وفي عام 1992م، كان الجيش الإسرائيلي قد اقتحم الجامعة وأحرق الكتب وأبعد عدداً من المدرسين والطلبة من أمثال الدكتور عزام سهلب، وماهر بدر، وأحمد السلامين ود. عبدالفتاح العويسي، وأغلقت الجامعة لمدة ثلاث سنوات ونصف بدءا من شهر ديسمبر 1987م، وحتى إبريل 1991م، أغلقوا بوابات الجامعة الرئيسية بالحديد والأسمنت، ولم تفتح إلا بعد اتفاق طابا قم أغلقت الجامعة مرة ثانية منذ 23 مارس 1993م، حتى 28 ديسمبر 1996م. مروان سلطان مدير العلاقات العامة في جامعة الخليل حدثنا عن تأسيس الجامعة التي تأسست في عام 1971م، وتطورت رويدًا رويدًا حتى طرحت ثمارها: خمس كليات، وثلاثة عشر تخصصا تمنح درجة البكالوريوس، إضافة إلى برنامجين للماجستير في اللغة العربية والشريعة الإسلامية وفي جامعة الخليل أمضينا وقتًا طيبًا. بدأنا الجولة بمجلس ا لطلبة ومقره غرفة صغيرة، تضم نحو عشرين طالبا يمثلون الأطر الطلابية السياسية في الجامعة في اجتماع تنسيقي، أحد المندوبين كان يتحدث عن ضرورة التكاتف والتعاضد والاحترام المتبادل. تجولنا في المكتبة والمختبر.

جامعة الخليل

في جامعة الخليل جو محافظ لكنه متطور ويحافظ على الخصوصية، المدخل الرئيسي ذو طابع عربي إسلامي، وفي جامعة الخليل، وفي مقسم الهواتف فيها قابلنا شاكر دعنا، موظف بسيط يبلغ من العمر ثمانية وأربعين عامًا، له ثماني بنات وأربعة أولاد، عشرة منهم دون السادسة عشرة عاما، يسكن شاكر بمحاذاة مستوطنة كرات أربع، على بعد 120 مترًا منها، شاكر يروي قصصا مؤلمة إنه يتعرض للعديد من الضغوط والإرهاب الموجه لجميع أفراد العائلة، أطفاله يعانون اضطرابات في النوم وحالات من الخوف، بيته يتعرض باستمرار لمحاولات حرق بالزجاجات الحارقة، وزجاج بيته معرض للتحطيم باستمرار مما يدفعهم إلى إغلاق الشبابيك بالصفيح على مدى الزمن عائلة بسيطة تعج بالأطفال أحباب الله، الذين يتعرضون دوما لإرهاب أعداء الله . الوصول إلى الحرم ليس بالأمر الهين، الأمر لا يتوقف قط على اختراق شارع الشلالة، وشارع الشهداء، ومنطقة الحسبة، مرورًا بكل البؤر الاستيطانية، حيث الوجود العربي الضئيل بعدده العظيم بدوره وبما يمثله من معاناة وصبر، وخلود، بل إن الحاجز المقام على باب الحرم الشريف يستوقفك لفترة طالت أو قصرت، خضعنا للتفتيش الإلكتروني، لكن قراءة بطاقة الهوية أخذت من الجندي وقتا طويلاً، فعلى المدخل جندي ومجندة لا يمكن لأي فلسطيني أن يدخل المسجد دون إذنهما، حيث أعطيته البطاقة الشخصية أخذه صوب جهاز اللاسلكي، وأخذ يخاطب المسئولين وبعد نحو ساعة من الانتظار سمح لنا بالدخول، كان مسموحا بإدخال آلة التصوير الفتوغرافي بعد فحصها أما آلة تصوير الفيديو فكانت معنا في المدخل الطويل، تصادفك استحكامات أمنية مضادة للرصاص، تجتازها لتوصلك إلأى ممر طويل. على اليسار مصلى النساء، المصلى بحد ذاته مفروش بالسجاد، ولكنك ثمة ممرات تخترق المصلى، وطرق التفافية مصنوعة من الحصير البلاستيكي، هذه الحصر مجهزة أيضًا للضرورة الأمنية، فإذا ارتأى جندي ان يخترق الصفوف أثناء الصلاة كان له ذلك، وكان له أيضا أ ن يجول يف كل أنحاء المصلى، والمعيار الوحيد الذي لا ينبغي عليه مراعاته هو السير على الحصير، على السجاد.

المسجد بحد ذاته تحفة فنية رائعة، المنبر، هو شقيق منبر صلاح الدين الذي التهمته نيران الحقد في المسجد الأقصى، منبر رائع الصنعة، يعبق بجلال التاريخ، ومستوى حضاري رفيع, يتكون المصلى من أربعة أجزاء رئيسية تبدأ بالمصلى الرئيسي والصحن المكشوف والأروقة والقباب المحيطة بالمصلى، مرورًا بمسجد الجاولية نسبة لبانيه ناظر الحرمين الشريفين "أبو سعيد سنجر الجاولي" الذي بناه عامي 718- 720 هـ، بجوار الجدار الشرقي للحرم، ثم غرفة سيدنا يوسف، حيث يوجد القبر،وهي ملاصقة للجدار الغربي للحرم من الخارج.

في الحرم الشريف قابلنا نائب الحرس محمد سعود الخطيب، وساعدنا بتصوير عجائب التراث الإسلامي الخالد لمجلة "العربي" التي افقدها منذ زمن طويل، من هنا سار المجرم غولد شتاين وهنا وقف،وأطلق قنبلة بين المصلين. هنا تجمع المصلون عليه وقتلوه .. هنا آثار رصاصة همجية ودعنا المسجد الأسير المخنوق برائحة البارود، ورجس الخمر، حقد الأعداء .. ومضينا ذات مساء مظلم بارد إلى حيث الطريق التي تذهب بعيدا عن ملتقى الأنبياء.

كان أذان العشاء بدأ ينشر صوته الشجي في سماء الخليل،وكان الشاعر الفلسطيني يقول:

قد قامت الصلاة والرصاص واليهود
قد قامت الدماء
يا خليل، يا خليل
يا أيها الخليل
يا أيها، وأينا وأيكم

 

محمد الخطيب الكسواني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





أحزان خليل الرحمن





بائع عقود في الخليل





في شارع الشهداء- الخليل





بائع ملبن (الملبن حلوى مصنوعة من العنب)





الحاجز الإسرائيلي على مدخل الحرم الإبراهيمي والبؤرة الاستيطانية الملحقة به





سيارة تابعة للمراقبين الدوليين في البؤرة الاستيطانية بقرب الحسية في الخليل





رئيس بلدية الخليل مصطفى النتشة





النائب جمال الشوبكي عن محافظة الخليل





عمران التميمي رابطة الجامعيين بالخليل





دكان في شارع السهلة





جندي اسرائيلي تأخذه سنة من النوم على احدى بسطات الخضار





مدخل جامعة الخليل، كان مغلقا لسنوات طويلة أثناء الاحتلال





طالبتان في جامعة الخليل





آثار لرصاصة تعود لمجزرة الخليل





الحرم الابراهيمي





أحد مصانع الزجاج





زجاج خليلي





أحد مراحل صناعة الزجاج في الخليج





جانب من إحدى ندوات رابطة الجامعيين