شوقي بغدادي وخالد السلامة الجويشي
شوقي بغدادي وخالد السلامة الجويشي
يأتي هذا الحوار مع شوقي بغدادي ليؤكد تفرد هذا الصوت الشعري الذي حصل على جائزة البابطين هذا العام عن ديوانه ( شيء يخص الروح) الذي اعطى فيه نفسا شعريا جديدا.منذ صدرت لشوقي بغدادي المجموعة القصصية الأولى (درب إلى القمة) عام 1952 بالاشتراك مع مجموعة من الشبان الذين اعتبروا أنفسهم ممثلين للواقعية الاشتراكية وهو يواصل دون توقف أو كلل المسير على دروب الإبداع مع ما عصف بهذه المسارات من تغيرات عنيفة تنبأ بها, بحاسته الملهمة كشاعر, أو بواقع وطأة التجربة التي تكون البرهان الثابت على قلق الروح. لم يحل انشغاله بالتدريس ولا تعرضه للسجن والنفي والاغتراب بسبب توجهاته الفكرية دون الصعود على طريق الأشواك فنشر أربع مجموعات قصصية ورواية واحدة ومجموعتي شعر للأطفال وإحدى عشرة مجموعة شعرية آخرها (شيء يخص الروح) التي تعتبرعلامة فارقة في تاريخ الشعر المعاصر وفي تاريخ تجربة الشاعر نفسه.وهو منذ ربع قرن يكتب زاوية تكاد تكون ثابتةفي الصحف السوريةحتى استقر أخيراً في جريدة ( تشرين) الواسعة الانتشار. وهذه الكثافة في الانتاج ذي السوية العالية والتي جعلته صوتاً متفردا له حضوره المتميز دفعته لأن يكون في مواقع النشاط الفكري في القدمة دائماً فهو أحد مؤسسي رابطة الكتاب السوريين وأمينها العام عام 1954 وهو الآن عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب بدمشق ورئيس تحرير مجلة الموقف الأدبي الشهرية التي يصدرها الاتحاد. يحاوره الأديب السوري خالد السلامة الجويشي الذي أصدر عدداً من المجموعات الشعرية من بينها (صقر قريش وحيداً) ثم تلتها ثلاث مجموعات شعرية أخرى إضافة إلى الخواطر التي ينشرها في الصحف العربية والسورية. ـ لا أعتقد أن هذه التقسيمات معيقة لتطور الحياة الثقافية إلا إذا تبناها أصحابها بعقل جامد متعصب يرفض الاعتراف بالتداخل الذي يحصل عادة ما بين المدارس الأدبية أو الأجيال. هناك فعلاً وباستمرار قواسم مشتركة بين المبدعين في حقول الفن, وخاصة حين تجمعهم مرحلة تاريخية واحدة بقدر ما هناك من فروق بينهم, سواء أكان ذلك في فهمهم الأشياء أم في طرائق تعبيرهم عنها. وهذه القواسم هي التي تدفع الدارسين إلى إطلاق التسميات والتصنيفات, غير أنه من الضروري في الوقت ذاته الانتباه أيضاً إلى الفروق بين البشر ـ وهناك دائما فروق ـ التي تحذر من التعميم والتبسيط المخلين بأبسط مبادئ الدراسات الأدبية. الإبداع والأجيال ـ لاشك أن الإبداع العظيم يتجاوز باستمرار ظرفيه الزماني والمكاني. أما بالنسبة لي فإن معظم النقاد الذين تحدثوا عن إنتاجي ألحقوني بما كان يسمى وقتها (المدرسة الواقعية الاشتراكية) وهي تسمية مطاطة جداً, لم يُتفق بشكل كاف على مواصفاتها, إلا فيما يختص بالمضمون نسبياً, أما من حيث الشكل الفني فقد كان الاختلاف كبيراً حول فهم طرائقه وأساليبه وعلاقة كل ذلك بالمضمون. ولهذا السبب يبدو الآن, وقد ذاب الجليد ,أن كثيراً من تلك الأحكام التي ألحقتنا, أنا وكثيرين من أبناء جيلي بتلك (المدرسة) كانت تفتقر إلى الدقة والعمق والمصداقية عموماً. لقد كنا رومانسيين مثلاً في بعض إنتاجنا, وواقعيين نقديين في بعضه الآخر, ومجرد غنائيين وجدانيين في قسم آخر منه, بقدر ما حاولنا أن نكون واقعيين اشتراكيين. إننا أبناء جيل التحولات الكبرى, أو بالأصح جيل الطموحات والآمال الكبيرة المحبطة والتي كانت أكبر منا, أو بتعبير آخر لم تكن على مقاسنا تماماً ولهذا السبب تجاوزناها في كثير من الأحيان واختلفنا عنها.. ولسوف يصنع المبدعون ذلك باستمرار وفي كل جيل. التعايش بين الأساليب - ليس هناك بدلاء في الفن, فالأصالة الفنية لا تستبدل وبهذا المعنى فكل الأشكال تتعايش من دون أن ينفي بعضها بعضاً شريطة أن تكون نماذج أصيلة, أي ممثلة حقيقية لصاحبها ضمن مستوى فني رفيع, وهذا ما هو حاصل دائماً على أرض الواقع, إذ نصادف أنواعاً مختلفة من الإصدارات الأدبية تتعايش جنباً إلى جنب على رفوف المكتبات في جميع أرجاء العالم ونجد باستمرار أنصاراً لها راغبين في اقتنائها وقراءتها. ومع ذلك.. فالحياة تتطور فعلاً وتغتني دائماً بأفكار وإنجازات جديدة, غير أن ميدان الإبداع الفني وحده من دون باقي الميادين هو المجال الذي يقبل التعايش بين الأساليب والمدارس الأدبية والفنية, بل هو يفرض هذا التعايش علينا فرضاً بعكس ما يجري عادة في ميادين الإنجازات العلمية والصناعية والاقتصادية مثلاً حيث يلغي الجديد القديم إلغاء تاما من الاستعمال اليومي لحياة البشر. لقد قضت السيارة والقطار والطائرة مثلاً كوسائل للنقل على عربات الخيل قضاء مبرماً, في حين أن كل قصائد (الحداثة) لم تستطع أن تلغي قصائد المتنبي وأبي تمام ولا استطاعت لوحات بيكاسو ورينوار أن تمحو من ذاكرة البشر وذائقتهم الجمالية لوحة واحدة لرفائيل ودافنشي وميكل أنجلو وغيرهم من الرسامين العظام في تاريخ الفن. أما فيما يخص (قصيدة النثر) فهي جنس أدبي كان موجوداً دائماً عبر التاريخ إلى جوار الشعر, وقد تكون بعض نماذجه أحياناً أجمل من كثير من القصائد الموزونة ولكنني لا أسميها مع ذلك (شعراً).. إن الشعر فن آخر! ليس هنا مجال شرحه وتفصيله.. وما يسمى بقصيدة النثر ـ وهي تسمية مستوردة على كل حال ـ ليس سوى نوع من النثر الفني الرفيع الذي يجاور الشعر ويتبادل معه بعض أدوات التعبير ولكنه يبقى جنساً أدبياً آخر. الكتاب العرب واغترابهم ـ هذا هو السؤال الذي يضنيني حقاً. لقد بات ينتابني في السنوات الأخيرة شعور خاص غريب بعض الشيء هو أن هناك نوعاً من (الاغتراب) ـ إذا صح التعبير ـ يمسك بخناقنا نحن الكتاب العرب, إذ نكتب بلغة غريبة ـ ولو نسبياً ـ عن النوعية الحقيقية لحياتنا الحاضرة, أي عن تركيبنا النفسي والاجتماعي والحضاري الحالي عموماً والذي يختلف إلى حد كبير عما كان عليه في العصور السالفة. لقد تغيرنا كثيراً في حين بقيت لغة الكتابة على حالها ـ من حيث القواعد الأساسية على الأقل ـ لأسباب خاصة بنا ليست هي موضوع حديثنا هنا. إنني أصف حالة لغوية استثنائية قائمة لا أكثر قد يكون من الممكن حلها في المستقبل لمصلحة الفصحى باتباع مناهج في التعليم والإعلام والخطاب العام أفضل مما يستخدم الآن, ولكن.. حتى يحصل ذلك فالحالة اللغوية الازدواجية قائمة ومربكة للجميع مبدعين ومتلقين. العامية.. لغة عاجزة ـ بالتأكيد لا.. فاللغة المحكية ـ أو العامية كما يقال ـ هي أيضاً لغة غريبة وعاجزة غالباً. إن جوهر المشكلة في تصوري هو أن الفصحى باتت لغة متعالية بمعنى ما, وأن العامية لغة سائبة مبتذلة أو منحطة بمعنى من المعاني وهكذا تغدو اللغة عندنا في الحديث العادي أو في الكتابة أداة لسوء التفاهم لا للتفاهم فقط. إننا نلجأ إلى الفصاحة عند الكتابة في زمـن لا فصاحة فيه, وقد نسترخص الأمر فنلوذ بالعامية فنقع في الركاكة والتسيب والابتذال في حين نكون راغبين في النقاوة والشفافية والجمال وهكذا نعاني من أزمة لغوية لا وجود لها بهذه الحدة عند أي أمة من الأمم, وهي أننا نملك لغتين في التعبير وكل واحدة منهما لا تمثلنا فعلاً كما نحن عليه الآن كمجموعة بشرية تغيرت وتطورت كثيراً وبلغت مرحلة خاصة جداً لا تشبه إطلاقاً أي مرحلة سابقة. إن الشاعر الفرنسي أو الانجليزي أو الألماني المعاصر يكتب شعره باللغة ذاتها التي يتحدث بها في حياته العادية اليومية ـ ربما مع فروق بسيطة جداً عن لغته المكتوبة ـ دون أن يشعر بأي اغتراب.. أما نحن فإننا نكتب بلغة ونتحدث مع الناس بلغة أخرى مختلفة عنها اختلافاً كبيراً.. فما عسى الشاعر العربي أن يصنع حيال هذا الوضع العجيب؟! أما ما صنعته أنا في قصيدة (أسئلة حول المدهش) فلم يتكرر كثيراً بالرغم من أنها كانت محاولة مقاربة لا أكثر وبخاصة حين اكتشفت أنني أنا أيضاً (مبرمج) حسب لغة عربية خاصة ليس في إمكاني بسهولة الخروج من (برنامجها) وربما لهذا السبب ـ ولغيره ـ يبدو أن معظم الشعراء العرب المعاصرين متشابهون, ذلك لأنهم يرطنون بلغة ليست هي لغتهم تماماً. العالم يتقارب ـ أنا لا أؤمن بالتنبؤات كثيراً ولا أحسن حبكها ومع ذلك فسوف أحاول.. إن العالم يتقارب ما في ذلك من شك.. والغالب والمغلوب حتى الآن كل منهما في خندق مستقل عن خندق الآخر. وسوف يبقى هذا الوضع قائماً على ما يبدو إلى أمد طويل, فكل الوسائل المستحدثة لأنظمة الاتصالات والمعلوماتية لا تؤكد أن الصراعات البشرية سوف تنتهي إلى السلام والإخاء والمساواة بين البشر.. ومع ذلك, فمن قال إن الحياة تغدو أجمل من دون صراع؟! تعال نتحدث إذن عن صراع آخر أقل وحشية!. هذا هو أقصى الأماني كما أتصور! ـ لشد ما طرح علي هذا السؤال, وأجبت عنه دائما الاجابة ذاتها وهي أن كل تجربة حياتية تختار جنسها الأدبي الأقرب إلى طبيعتها. وبهذا المعنى فأنا أجد نفسي في كل جنس أدبي أمارسه, ذلك لأنني أعتقد ولو لأمد أن ما أعبر عنه في هذه اللحظة بالشعر لا يليق به فن مثل الشـعر, وأن ما يكتـب قصة لا يكتب إلا بوسائل القص الفني وهكذا.. غير أنني سأقول لك شيئاً آخر مختلفاً في هذه المرة لا حباً في الاختلاف صدقني, وإنما لأنني أكاد أقول إنني لا أجـد نفسي بكل أبعادها وأغوارها ورغبـاتها ونزواتها وطموحاتها.. واختصاراً بأكملها في أي من الأجناس الأدبية التي مارستها حتى الآن.. دائما هناك أشياء تهرب من التعبير كما يخيل لي. فهل أجرب فنوناً أخرى كالغناء مثلاً أو التمثيل أو التلحين والعزف على العود والطبل? لماذا لا نحتفل بالحياة بكل الأساليب الممكنة؟! ما أجمل الحياة ـ إيه يا عزيزي.. ما أجمل الحياة, وما أعظمها من معجزة.. والطريف أننا لا نكتشف هذه البديهية إلا بعد فوات الأوان. أنا لست حكيماً, ولا فيلسوفاً, هذه مستويات فكرية لست كفؤا لها, وإنما أنا إنسان أحب الحياة والناس كثيراً, وأحب بالتالي أن يسهم في تحسين حياتهم ما أمكنه ذلك قولاً وكتابة وسلوكاً. ومازالت هذه الهواية تتملكني حتى الآن, مع فارق أنني لم أعد متعجلاً جداً, ولا مبالغاً في تقدير إمكاناتي الخاصة وإمكانات الآخرين, ولا مكتفياً بنظرة أحادية ترفض الاعتراف بقدرات الذين يخالفوننا في الرأي.. لقد صارت الرؤية أوسع ومتعة البحث والاكتشاف أشمل وأعمق.. وهكذا يقترب الإنسان من الحقيقة وبالتالي من نفسه أكثر.. ويندغم الخاص بالعام في تجربة إنسانية واحدة تبحث (عن شيء يخـص الـروح) ذلك لأن (الروح) ـ بمفهومها المجازي على الأقل ـ هي أصل كل الحقائق.
|