جمال العربية

جمال العربية

«العَيْن بالعيْن» للشاعر الإماراتي عارف الخاجة

لا يكفي أن يقال إن بداية الحركة الشعرية الحديثة في دولة الإمارات، تعود إلى عام 1950 - أو بداية الخمسينيات بشكل عام - متمثلة في الشعراء المجددين: صقر بن سلطان القاسمي وأحمد أمين المدني وسلطان بن علي العويس، وإن البدايات الأولى - والبعيدة - لهذا الشعر مُفتقدة وغير مدوّنة، وإن كثيرًا منها قد ضاع. ثم لا يكفي أن يقال إن هؤلاء الشعراء المجددين الثلاثة - وغيرهم - قد مهّدوا السبيل - في سنوات الستينيات والسبعينيات - لأصوات جديدة، أصبحت هي التي تستدعي الاهتمام كلما ذكر الشعر في الإمارات، من أمثال: حمد خليفة بوشهاب وسلطان خليفة ومانع العُتيبة وحمد شريف الشيباني وعباس العصفور وحبيب الصايغ وشهاب غانم وهاشم الموسوي ومحمد العبودي وسيف المرّي وعارف الخاجة. فالواقع أن حركة الشعر العربي في الإمارات تتطلب مزيدًا من الكشف عن هويّتها وتميّزها، وموقعها اللائق بها في ديوان الشعر العربي الحديث والمعاصر، وإلقاء الجديد من الأضواء على شعرائها الأكثر تمثيلاً لجوهرها وخصوصيتها، وعلى نصوصهم الشعرية التي تحمل تجلياتهم وإبداعاتهم ومغامراتهم.

من هنا تجيء هذه الوقفة مع عارف الخاجة الذي ولد في دبي عام 1959 وحصل على ليسانس اللغة العربية والإعلام من جامعة الأزهر، ثم عمل في الصحافة الأدبية، وتضمنت رحلته الإبداعية مع الشعر عددًا من الدواوين، أبرزها: بيروت وجمرة العقبة، وقلنا لنزيه القبرصلي، وصلاة العيد والتعب، وعلي بن المسك الشهامي يفاجئ قاتليه، ومن المعسكر. ويكشف التأمل الأول لشعر عارف الخاجة عن توهج الحسّ القومي لديه، وعن اهتزاز وجدانه لكل الوقائع والأحداث التي تمثل صدامًا بين الوطن العربي وأعدائه التاريخيين، وبخاصة حين يكون «لبنان» والجنوب منه - على وجه الخصوص - ساحة للصدام والنزال، وحين يحتدم هذا الصدام ويتوّج بالنصر والظفر، تصبح ترانيم عارف الخاجة للشهيد - المواطن العربي الأول والنموذج الحقيقي الممثل لمعنى المواطنة - فيضًا من الشعور النازف، والحسّ القومي العالي، والصياغة الشعرية المحكمة، التي يحتضن بنيانها في شموخ كبرياء الموقف، وعظمة صانعه الإنسان، وكأن النصّ الشعري يحاول في عُتوّه وسيطرته على أدواته ومفرداته أن يحاكي، وأن يطاول بطولة الشهيد، الذي تعرفه الأرض دون غيره، وتقدّس خطاه، بعد أن عادت إلى الأيام دورتها، وانزاحت النار والتسهيد والكدر. ولم يعد الشعر ديوان شقاء ودموع، وإنما هو غناء مجد، وفرح بطولة، وحُداء استشهاد.

الجمال في هذا النص الشعري الباذخ جمال موقف، وجمال لغة، والجلال فيه جلال ارتفاع وشموخ، وجلال تفجير لطاقات العطاء لدى كل مَن يمسّه وهج هذا الشعر، وناره السرمدية، وتألّقه الباقي، وجلال هذا النَّفَس الممتدّ، الساري في ثنايا هذا البناء العموديّ الراسخ.

يقول عارف الخاجة في قصيدته «العين بالعين»:

الحمد لله أنّ الحقّ ينتصرُ وأنّ ليل العدى بالفجر يندحرُ
وأنّ هذي الأُنوف الشمُّ عزتنا من بعد أن عزّت الآمال والصورُ
وأنّ أرض الجنوب البكر ما فتئت تُملي علينا أمانيها وتنتظرُ
وأنّ روح الشهيد الآن واقفةٌ على التلال تُحيّينا وتفتخرُ
وأنّ لبنان طول العمر علّمنا أن المحبة أرض والفِدى مطرُ
وأنّ أصدق قولٍ أنت قائلُه يحيا الجنوب وتحيا فوقه العِبرُ
خذوا النجوم خُذوا عُمري خُذوا شفتي خُذوا غنائي يزْهُ العود والوترُ
ففي أنين ديار العُرْبِ قافيةٌ وفي حنيني زمانٌ مُزهرٌ عطِرُ
لم أتخذ من عطاء الريح داليةً ولا اختصرتُ غرامًا صار يُختصرُ
ولم أُوزّع سمائي وَفْق خاطبها ولم أُسلّمْ لمن باعوا ومَن حفروا
ولا اتجهتُ لنهرٍ جفّ منبعُهُ ولا انكسرْتُ كما الأمواجُ تنكسرُ
ولا تركْتُ فؤادي عند قاتلِه ولا اكتفيتُ بغيثٍ ليس ينهمرُ
ولا سجدْتُ على الأقدام ألثُمها ولا ارتبكْتُ إذا ما خانني البصرُ
هذا «الجنوب» وهذا وجهُ غاصبه فكيف يحلو الهوى والوقتُ والسّمرُ
إن كان مَن باع في الأحلام عفّتهُ يرجو الحياة فنيراني هي القدرُ
مُوزّع بين إنشادي وعلّتهِ فصوتهُ عدمٌ، بل صوتُه هَذرُ
أرمي إليه التمني عند سطْوتِه فيسقطُ الطيرُ بل قد يسقطُ الشَّجرُ
وأرتجيه مساء العيد، إن دمى دمُ الكلام، فماذا قالتِ السِّيرُ؟
ما بين صحْوتهِ في يوم موعدِهِ وبين عمري، تقومُ الأرضُ والبشرُ
موزّعٌ لم تنمْ عيني، ولا امتلأتْ تلك الكئوسُ، ولا رقّتْ لنا الغُررُ
كأنني من قديم الدهر مُرتحلٌ على الضفافِ، ولا تغتالني النُّذرُ
قطفْتُ نجمةَ شوقي عند غفوتها ولم يلنْ خاطري أو لانت السُّورُ
وحِرْتُ هل مقتفو صوتي ثمانيةٌ أم عشرةٌ، أم تُرى قد أُفلت الأثرُ
وربتُ مني لأني لم أجدْ نُزُلي ولا وجدْتُ الندى، هل غادرتْ مُضرُ
وعدتُ للريح لا أَلْوي على مَثَلٍ ولا شعرتُ بما الأصحابُ قد شعروا
وكنتُ أنظرُ حولي، لا أرى أحدًا سوى العواصف، لا تُبقي ولا تَذرُ
فكيف تصهلُ خيلُ الصبح في جسدي وكيف ترحل عن آهاتنا سَعَرُ
وكيف يُزهر روض الحُلْمِ ثانيةً وكيف يُقضى إلى أحبابِهِ السّفرُ
وكيف أسمع إن ناديْتُ في حلبٍ صوت «الربّاط» وصوْتًا اسمهُ «قطرُ»
هل جاءكم خبرٌ عن أهل أندلسٍ أم مثلها ضاع من أسماعنا الخَبرُ
هل جاءكم وحي «قانا» بعد غُربته ليسأل الغيب هل هبُّوا وهل ثأروا
«قانا» المساء الذي قد عاش يُقلقنا «قانا» العيونُ التي قد هدّها السّهرُ
«قانا» السيوف التي غاصت بخاصرتي «قانا» الزمان الذي ما عاد يُغتفرُ
«قانا» هُويّتنا، «قانا» ملامحُنا «قانا» الذنوبُ التي في الكونِ تنتشرُ
وكنتُ أسألُ عن تيجان أُمتنا وكنتُ أسألُ إن مرُّوا وإن حضروا
حتى دخلتُ عليكم فانتشت سُبلي وصار شعري بنصر الله يعتمرُ
عمامتي الفجرُ، والعلياءُ مسكنُها فيها الإرادة والإلهامُ والفِكَرُ
عمامتي المجدُ، في أعطافِ لُجّتها «القدس» يدمعُ «والجولان» تُعتصرُ
قد كنتُ من قبلكم أشقى بأغنيتي وكنتُ أحسبُ قلبي مسّهُ الخَدرُ
والآن عادت إلى الأيام دورتُها وانزاحت النار والتسهيدُ والكَدرُ
العينُ بالعينْ، لا سلمٌ وثرثرةٌ ولا أنينٌ بليدٌ موحشٌ ضِجرُ
فالأرض تعرف مَنْ صلّى لعزّتها والأرض تعرف من ضلّوا ومَن كفروا
لا يأسرُ الوردُ إلا في تفتّحهِ ولا المعاني، إذا لم ينطق الحجرُ
ولا يخرُّ المدى إلا لذي شَرفٍ ولا تدين العلا إلا لمن صبروا
ولا يُرى الحبُّ إلا في توهجهِ ولا السّرائرُ إن لم تُفصحِ الأُطرُ
والحبُّ أوله سهدٌ، وآخرهُ وصل الأحبة لو صدُّوا ولو هجروا
الحبُّ أرضُ وأسماءٌ وتضحيةٌ والحبُّ عمرُ بهيُّ مُشرقٌ نَضِرُ
الحبُّ روضٌ بنور الشوق نحرثهُ ولا نبالي إذا لم ينضج الثّمرُ
الحبُّ أجملُ ما يُهديه خالقُنا للعاشقين، وفيه السّعيُ والوطرُ
الحبُّ أكبرُ من وصفٍ ومن صفةٍ ومن عيون ظباءٍ زانها الحَورُ
الحبُّ درب إلى أحلام، يقطعُها ناسٌ أُباةٌ إذا حان الفدى ظهروا
الحبٌّ في الوجهِ، في العينيْنِ، في لغةٍ إذا حكاها أسيرُ الشوق تشتهرُ
الحبُّ لا تنتهي يومًا مآثرهُ وليس ينفعُ فيه الحرصُ والحَذرُ
الحبُّ نارٌ وإيمانٌ ومعجزةٌ في كفِّه مطرٌ، في قلبِه دُررُ
الحبُّ أنتم، وأنتم وجهُ أُمّتنا عبْرَ العصور وأنتم خيرُ من عبروا
هذا فمي يستقي منكم مدائحهُ هذا فؤادي بأمر الحبِّ يأتمرُ
مباشرٌ كالشهيد الحرِّ، وهو يرى أمامه لعْنةً الطاغوتِ تُحتضرُ
وواقفٌ كعمودِ الشعر في يده ورد الزمان، وفي أنّاته الشررُ
وواضح كشعاع الشمسِ، مخترقًا سجْن الخيامِ، ونور الله ينتشرُ
ومُفعمٌ بغناء الأرضِ إنّ لها في القلب وعدًا جميلاً ليس يعتذرُ
أمرانِ ردّا فؤادي عن تكلِّفه هذا «الجَنوبُ» وهذا المجدُ والظفرُ
لولا الشهيد الذي قد صان رايَتنا لضاعت الأرضُ والأشجارُ والقمرُ!


هذه البنية العمودية لقصيدة عارف الخاجة لم تجئ صدفة أو عبثًا، إنما هي ألصق ما تكون بفضاء هذا النص، ونَفسه المتنامي، وإيقاعه الجيّاش.

البحر البسيط هنا بإيقاعاته وأنغامه، والقافية الرائية بشجْوها وتدفِقها، والمعجم الشعري الذي اتسع لموروث العيْن ولغة الحواس، بصرًا وشميما وفضاءَ مدَى، وحداثة الروح الشعرية الجارفة، التي تسوق مقاطع القصيدة في جذلٍ واعتزازٍ وفخار، وتهيئ لبيتها الأخير الذي هو خلاصة الخلاصة في المعنى والدلالة:

لولا الشهيد الذي قد صان رايتنا لضاعت الأرض والأشجارُ والقمرُ


كل هذه العناصر تتآزر لتجعل من القصيدة عملاً شديد التفرّد والتميّز، وشهادة شعرية بالغة النفاذ والعمق والتأثير.

عَذبَةَ الرُوح يا فتّانَة الجَسدِ يا بنتَ «بيروتَ» يا أنشودةَ البَلدِ
يا غيمةَ الشَعرِ مُلتاثاً على قَمرٍ يا بَسمةَ الثغر مفترَّاً عن النَضَدِ
يا رَوعةَ البحرِ في العينينِ صافيةً يا نشوةَ الجبَلِ الملتّفِ في العضُد
يا قَطرةً من نِطاف الفجر ساقطها من «أرز» لبنانَ خفَّاقُ الظلالِ ندي
يا نَبتة الله في عَليا مَظاهرِه آمنتُ بالله لم يُولَد ولم يَلدِ


محمد مهدي الجواهري

 

فاروق شوشة