ابتعاد

ابتعاد

مر القطار أما المحطة متباطئا ، تطلع حوله فلمح مجموعة من المسافرين ، ولمحها تقف أمام مكتب مدير المحطة ، وقد جثمت حقيبة كبيرة أمامها .

ركز بصره عليها ، كانت ترتدى " بلوزة " سماوية اللون عليها زخارف بخيطان زهرية ، وتمسك بحقيبة يد مجدولة من خيطان قطنية .

رأى فى جمالها بهاء مستمراً ، كانت بين الفينة والأخرى تعدل من وقفتها ، مرة تستند إلى قدمها اليمنى ، وتارة يتأرجح جسدها فيستقر مرتاحاً على القدم اليسرى .

تبادل وإياها النظرات ، أراد أن يصرخ فى وجهها قائلا : " إن حياته كانت ممتلئة بمسرات قبل أن يراها " ، لكنه ظل صامتا ، كان يقف على مشارف انهيار داخلى .

أخذ يراقب اندفاع المسافرين ، وتراكض الأطفال نحو سلالم عربات القطار ، رآها تمشى وأحد الحمالين يحمل الحقيبة الكبيرة . صعدت درجات السلم بثقة ، وحين حاذت نافذة وهى تقطع الممر الداخلى جانبا لكى تراه .

انتبه على صفير الفطار ، وتابع بعينيه مأمور المعاينة ، قصير القامة ، وجاكيتته الزرقاء كبيرة ومتهدلة عليه ، وقد بدا اتساعها على جسده عندما رفع يده ليدق جرس الانطلاق .

نظر نحو القاطرة فشاهد الوقاد وهو يرمى الفحم الحجرى فى أتون النار التى كانت تتوهج من فوهة المرجل ، ثم تقل بصره إلى السائق الذى أرخى ذراع المكبح ، وشد خيط الصافرة فى صفرة طويلة أحس بها كأنها أنين قلبه .

مرت القاطرة ورأى السائق وهو يعدل قبعته الزرقاء ، وعندما مرت عربات الدرجة الأولى لمحها وهى تقف أمام النافذة . ولا يعرف كيف خيل إليها أنها ترفع يدها مودعة .

همس لنفسه " هكذا إذن ! ليكن الوداع سريعا كومضة برق ، كموت رغبة ، كانطفاء شهوة "

ظل واقفا ، صامتا برغم لهفته لتملي عينيها عن قرب . أدرك فى تلك اللحظة أنه لم يعد مجديا كسر حاجز المسافة التى فصلت كلا منهما عن الآخر . وكانت تمؤ فى صدره رغبة فى أن يصبح بها : " فاتنا القطار ! فاتنا الوقت ! فاتنا الزمن ! أنت غبية ، وأنا أغبى منك "

لكنه لم يقل شيئا ، وبينما كانت آخر عربة من عربات القطار تغيب رويدا رويدا ، وهدير القطار المتخافت يصل إليه مع ريح الظهيرة مخنوقا ، لاهثا كالغصة فى الحلق ، والحسرة الكاوية فى الصدر .

بعد أن خرج من ساحة المحطة ، سيطرت عليه رغبة خارقة ، لو أنها معه الآن ! لقبض على يدها وجره إلى شوارع التسكع . لو أنها معه ، ولكن الفراغ صفع وجهه .

الآن يقف على مدى جرحه الدامى .. ياه ! ياله من غبى كيف كانت لدية الجرأة لأن يضيع عينين مثل عينيها ! نهارين مشمسين اصطدما فى الظهيرة بجرح لا يندمل .

ترك أجنحة أحلام اليقظة ترفرف وهو يغوص فى وحشته وصورتها فى عينيه . لو أن الأرض مقبلة استدارت وملأت راحتيه ، لما أراد إلا هى !

وهو يضيع فى الزحام ، كان على إيمان مطلق ، أنه ولو مات ، ولو هالوا فوق جسده أكوام التراب ، فإن رائحتها لن تنطفئ لديه ، لقد احتلت رائحتها رائحته ...!

 

محمد أبوخضور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات