أرقام

أرقام

مفاتيح المعرفة

على مر التاريخ، لم يمرالعالم بما يمر به الآن من تزاوج بين المعرفة وتطبيقاتها العملية التى تنعكس على حياة الإنسان. قديما، كانت أوجه المعرفة متعددة، ففي كل يوم يكتشف الإنسان ويحيط بما حوله، يضيف لدنياه، يصنع مستقبله، ولكن كان القسط الذي تتمتع به النواحي التطبيقية من صناعة وزراعة وأدوات مادية لازمة للحياة هو القسط الأقل، أما القسط الوفير فكان لأوجه معرفية أخرى، فالعرب يهتمون بالشعر، والأوربيون يهتمون بالفن والفلسفة، والآسيويون ينشغلون بعلوم الحكمة وصناعة الآلهة والروحانيات.

الآن، يختلف الأمر، تتقدم المعرفة التطبيقية وتتحول "التكنولوجيا" إلى قيمة مادية واقتصادية تسبق كل إنتاج إنساني آخر، وتصبح صناعة المعلومات هي الأولى وهي مقياس التقدم والتخلف.

لقد اختلفت أنواع المعارف، واختلفت نسب الأهمية ووجد ذلك ترجمته في أشياء ملموسة وذات طبيعة اقتصادية مثل التجارة الدولية والتي يسجل البنك الدولي عن التنمية في العالم "98" أبرز تطوراتها فيقول إن نصيب المواد الأولية من التجارة الدولية قد بلغ "34%" من حجم هذه التجارة عام 1976.. ولكن وبعد عشرين عاما، أي في عام "96" هبطت النسبة إلى "13% " وفي نفس الوقت قفز نصيب السلع ذات التكنولوجيا المتوسطة والعالية والتي تعتمد على المعرفة، من ثلث حجم هذه التجارة "54%" منها، وبكلمات أخرى أنه بينما كانت السلع ذات التكنولوجيا تأتي في المرتبة الثانية بعد السلع الأولية، أصبح مكانها- خلال عشرين عاما- يفوقها بمقدار أربع مرات إنها المعرفة، تلك التي تحيل عصرتصدير الخامات إلى التقاعد النسبي، والتي تضاعف قيمة الأشياء، وقيمة الأمم

والسؤال: أين نحن العرب، وكلنا يتحدث عن قرن جديد، بل ألفية جديدة، أين نحن من عصر المعرفة المتفجرة المتدفقة؟

مستهلكون أم منتجون؟

لقد دخل العرب إلى العصر الحديث وامتلكوا الكثير من أدواته فانتشرت أجهزة التلفزيون والأطباق والأقمار "الإنترنت"، لكننا كنا في كل ذلك، مستهلكين ولسنا منتجين في معظم الأحوال، مستقبلين ولسنا مرسلين، نأخذ ولانعطي بنفس القدر وندفع الثمن للآخرين، كما ندفعه من أقتصادنا الذي يعجز عن تقديم السلع المتوسطة وعالية التكنولوجيا، والتى يعتمد إنتاحها على "المعرفة" وليس مجرد امتلاك المادة الاولية.

ووفقا للتعريفات الشائعة للثقافة، فإنه لا يوجد شعب بلا ثقافة، لكننا لم نطرح على أنفسنا الأسئلة الصحيحة والضرورية والتي تقود إلى إجابات صحيحة، لم نسأل: الثقافة لمن؟ وأي نوع من الثقافة؟ ولو أننا قد سألنا لصدمنا رقم يقول إن "47%" من السكان العرب البالغين كانوا يجهلون القراءة والكتابة في منتصف التسعينيات، ولعرفنا أيضا أن جزءاً كبيراً من ثقافتنا يتجه للعلوم الإنسانية وليست العلوم التطبيقية، ولو استرسلنا أكثر لوصلنا لما وصلت له منظمة اليونسكو، وما وصل له البنك الدولي في تقريره "98" .

"في خريف 98" أصدر البنك الدولي تقرير عن التنمية في العالم تحت عنوان "المعرفة من أجل التنمية"، وبصرف النظر عن التناول الواسع والشامل للقضية فإن التقرير يضع أيدينا على ثلاث آليات تفتح الباب لدخوله عصر المعرفة من أبوابه الواسعة.

الآلية الأولي هي: التعليم، والآلية الثانية هي انفتاح التجارة، أما الآلية الثالثة فهي امتلاك بنية أساسية كبيرة للإتصالات، فالتعليم يتيح فرصة الاستفادة من العلم وتطبيقاته، والتجارة تفتح الباب لاستيراد المعرفة ممزوجة بالسلع وطرائق الحياة عند الآخرين، أما الاتصالات "التليفونات" فهي التي تتيح الحصول على المعرفة عند الحاجة.

ومن خلال دراسات ميدانية أمكن إثبات الفرقة بين المعرفة والتقدم وزيادة نسبة النمو في الناتج المحلي، بل ثبت على سبيل المثال- أنه عندما تتعلم الأمهات تقل نسبة وفيات الأطفال، وأنه عندما يزداد تناول الطفل للبروتين تزداد قدرته على الاستيعاب، وثبت أيضا أن التقدم ينحاز لمن يهتمون بالرياضيات والعلوم التطبيقية أكثر من غيرهم.

و..من العام إلى الخاص نعود للدائرة العربية، فيلاحظ البنك الدولي أن إحدى الآليات الثلاث للمعرفة وعصر المعلومات تعاني من التخلف.

لقد تحدثنا طويلا عن أن تسعة أعشار الرزق في التجارة، وظن العرب أنهم الأكثر مهارة في هذا الفن، ومع ذلك فإن نسبة مشاركتهم في التجارة الدولية محدودة، وقدرتهم على التصدير تحول دونها أسباب وأسباب. ومازالت المواد الأولية "النفط" تمثل معظم الصادرات.

ويلاحظ البنك الدولي أن كلا من الشرق الأوسط وإفريقيا قد حرصا في الآونة الأخيرة على تقديم حوافز للمصدرين من خلال إنشاء مناطق حرة، لكن ذلك لم يؤت ثماره لأن الرسوم الجمركية على الواردات وعلى مكونات أو مدخلات الصادرات رسوم عالية، والأكثر أن نصيب العرب من الاستثمارات الأجنبية "والتي تأتي ومعها فنون إنتاجية جديدة" محدود بسبب القيود على حقوق الملكية، وبسبب الهزات الاقتصادية وانتشار التضخم.

نحن إذن أمام آلية متواضعة نسبيا لنقل المعرفة، وهي آلية التجارة، فماذا عن التعليم وأدوات الاتصال؟

متعلمون.. ولكن!

سجل الوطن العربي قفزة في التعليم خلال الحقب الأخيرة، وتراوحت نسبة الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج المحلي بين "4- 6%" في المتوسط وهو مايساير المتوسط العالمي. أيضا، فقد سجلت نسبة الاستيعاب بالمرحلة الابتدائية ما يغطي معظم الشريحة السنية فكانت النسبة في الجزائر 95% ومصر 89% والسعودية 62% وتراوحت النسبة في التعليم الثانوي بين "50- 60%" من الشريحة السنية، وتزايد التعليم الجامعي.

رحلة التعليم إذن مستمرة، والمشكلة في نوعيته، والتي تعكس نفسها على عدد العلماء والمهندسين المشتغلين بالتطوير وتنمية العلوم، فمن هؤلاء تبلغ النسبة في مصر"458" شمخا بين كل مليون وتونس "388" والأردن " 106 ". أما إسرائيل فهي "4826" لكل مليون!

فإذا انتقلنا لأدوات المعرفة لأدركنا الهوة الواسعة بين ما نملكه ومايملكه الآخرون فنسبة انتشار الصحف لكل ألف من السكان في الجزائر "46"، وفي اليمن "17" وفي سوريا "18" وفي مصر "64" وفي السعودية "54"، واسرائيل (81)! نفس الشيء في أجهزة التلفزيون والتليفون والكمبيوتر الشخصي، فالكثير من الدول العربية يسبق إسرائيل في نسبة انتشارالتلفزيون، لكنه يتخلف في الكمبيوتر والاتصالات السلكية واللاسلكية.

إنها مفاتيح المعرفة: التعليم والتجارة والاتصالات، فهل نسأل بعد ذلك "لماذا لم نلحق بالدول المتقدمة؟" الإجابة واضحة.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات