جمال العربية

جمال العربية

المعري: ناثراً وشاعراً

المعري هو شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء العرب . وهو فى نثره وشعره طراز فريد من العقول ، وأفق باذخ من البيان ، وتجليات التعبير فى رسالته : " ملقى السبيل " التى ألفها فى الدور الأخير من حياته زمن عزلته وانقطاعه- حوالى سنة اربعمائة وثلاثين هجرية- وقد زهد فى الدنيا لكبره واقتراب أجله ، يسلك المعرى طريق الوعظ والنسك والتمسك بالمعتقد .

والرسالة تقوم على الفواصل القصيرة ، والكلمات القليلة المثقلة بالمعنى والعظة . يصوغها نثرا ثم شعر طبقا لحروف الأبجدية فى قوافيها ، ويغير من خلالها ما شاععنه من رأى أو خروج على المألوف عندما كان يقول فى شبابه وعنفوانه :

ضحكنا ، وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البرية أن يبكوا
تُحـطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

ومثل هذا الكلام جر عليه اعتقاد البعض أنه لا يعترف بالبعث والميعاد . لكنه فى رسالة " ملقى السبيل " يقول :" وفى الآخرة يكون المجمع ".

ويقول : " وعند البارى تكون الزلف " .

يقول المعرى من قافية الحاء :

" إن ابن آدم لشحيح ، سوف يمرض من القوم صحيح ، تعصف بعقله ريح ، فإذا هو لقى طريح ، ثم يحفر له ضريح ، إن ذلك لهو التبريح " .

ثم يقول شعرا :

يا أيها الممسك الشحيح

 

سيمرض السالم الصحيح

مالك لم تنتفع بعقل

 

عل عصفت بالعقول ريح

إن شيد القصر فى سرور

 

فبعده يحفر الضريح

يطرح الهم بالمنايا

 

من جسمه فى الثرى طريح

ويقول من قافية الدال :

" أما بصرك فحديد ، وأما ثوبك فجديد ، وظلك بقضاء الله مديد ن وحولك العد والعديد ، ولكنك سوالك السديد ، طقك وعد ووعيد ، فهل تبدى وهل تعيد ، أم غريك " أى قبرك " هو السعيد ؟ ".

ثم يقول شعرا:

أرى ملكا تحف به موال

له نظر إلى الدنيا حديد

ضفا برد الشباب عليه ، حتى

مضت حقب وملبسه حديد

يزول القيظ فى صيف ومشتى

ويستر شخصه ظل مديد

وفت عدد لديه ، فمن دروع

وأسياف ينوء بها عديد

وكان السعد صاحبه زمانا

ولكن طالما شقى السعيد

بدا شخص المنون لناظريه

وقيل له : ابتدئ أم تعيد

تصعد فى المرابت غير وان

وأحرزه على الرغم الصعيد

تفرقت الجنود فما حمته

وأبطلت المواعد والوعيد

ويقول المعرى من قافية الراء:
" لقد هجرت الخدور ، وغدر بها الزمان الغدور ، فإذا الخدر عوضه قبر ، هل ينفعك جزع أو صبر ، من بارئك يجرى المقدور ، وتفنى الشهب والبدور " . ثم يقول شعرا :

تظهر أسرارها الخدور

بما قضى الواحد القدير

كم دار فى خاطر ضمير

من فلك دائب يدور

وضاق صدر بمشكلات

تضيق عن مثلها الصدور

بثبت فرد بلا نظير

وتهلك الشهب والبدور

من أسرار العربية

يقول العالم اللغوى ابن فارس:
الهمزة والباء والواو تدل على التربية والغذو .
تقول اللغة : أبا يأبوأبوة وأباوة : صار أبا .يقال : لقد أبوت أبوة وما كنت أبا .
ويقال : أبا فلانا : أى صار له أبا
يقول الشاعر الأبرش بن حسان يهجو أبا نخلة :

اطلب أبا نخلة من يأبوكا
فقد سألنا عنك من يعزوكا
إلى أب فكلهم ينفيكا

ويقال : أبا اليتيم : أى صار له كالأب فى الرعاية والتربية والتغذية . وقام له مقام الأب .
وأباه قال له بأبى أنت أى افديك بأبى .
وتأتى أبا : أى اتخذ أبا . وفى اللسان :

فإنكمو والملك يا أهل ايله لكالمتأبى ، وهو ليس له أب

والأب : الوالد وأصله : أبو: والجد وإن علا . وفى القرآن الكريم حكاية عن يوسف عليه السلام سورة يوسف آية 38 واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب .

فإسحاق : جده وإبراهيم : جد أبيه . ويقول أبوفراس الحمدانى مخاطبا بنى عمه :

بنى أبى فرق ما بينكم واش على الشحناء مطبوع

ويطلق " الأب " على من كان سببا فى إيجاد الشئ وظهوره ، يقال : أرسطو أبوالمنطق .

ويطلق الأبوان على الأب والأم من باب التغليب ، وفى القرآن الكريم سورة الأعراف آية 27 كما أخرج أبويكم من الجنة .

ويقال : بأبى أنت ، أى فداؤك أبى ، قال أبوتمام :

بأبى فتى ودعته تاهت بصحبته الرفاق

ويقال : لا أب لك . فى التعجب والحث والزجر ويقال فى المدح والتعجب : لله أبوك !

ويضاف الأب إلى غيره فيكون كنية .

ومن ذلك :
أبو الأسود : أى النمر
وأبو أيوب : أى الجمل .
وأبو براقش " طائرة .
وأبو البشر : آدم عليه السلام .
وأبو بصير : الأعمشى ، ميمون بن قيس .
وأبو تراب : على بن أبى طالب ، كرم الله وجهه .
وأبو تمام : حبيب بن أوس ، الشاعر .
وأبو جهل : عمر بن هشام بن المغيرة .
وأبو الحصين : الثعلب .
وأبو حفص : عمر بن الخطاب رضى الله عنه .
وأبو حنيفة : النعمان بن ثابت ، أحد الأئمة الفقهاء.
وأبو الدرداء : عامر بن زيد الأنصارى .
وأبو ذر الغفارى : جندب بن جنادة الصحابى.
وأبو جعدة : الذئب.
وأبو القاسم : من كنى النبى صلى الله عليه وسلم .
وأبو قردان : طائر.
وأبو لهب : عبد العزى بن عبد المطلب

ويقال فى النداء : يا أبة ويا أبة ويا ابت ويا أبت .

والتاء عوض عن ياء المتكلم ، فاصله : يا أبى ، جاء فى قراءة ابن كثير سورة يوسف آية 4 إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا .

وفى المعجم الكبير مجال أرحب لمن شاه الاستزادة من هذه المادة اللغوية الطريفة عن كلمة : أب

عبقرية اللغة العربية فى ترجمة إبداع الاخرين

فى الترجمة الجميلة ، الشديدة الدقة والأمانة ، التى قام بها العالم الراحل الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا أستاذ اللغات الشرقية بجامعة القاهرة لكتاب " مثنوى " لمولانا جلا الدين الرومى وهى الترجمة التى قام بها من الفارسية إلى العربية . فى هذه الترجمة دليل ناصع على قدرة البيان العربى واستاع عبقرية العربية لإبداع الاخرين وفكرهم ، حتى إننا لنقرؤه من خلال ترجمات شديدة النفاذ والجمال والروعة ، فنحس كأنه قد كتب أصلا بالعربية : لغة وتعبيراً وفكراً وإيقاعا وصياغة .

من بين صفحات كتاب مثنوى الذى ترجمه الدكتور شتا فى ستة مجلدات ضخمة ، هذه السطور المنقولة إلى العربية:

" للغيب سحاب آخر ، ومطر آخر
وسماء أخرى وشمس أخرى
لكنها لا تظهر إلا للخواص ، أما الباقون
فهم فى لبس من خلق جديد
فهناك مطر من أجل الإنماء
وهناك مطر من أجل الذبول
وأمطار الربيع ذات نفع عجيب
أما أمطار الخريف فهى كالحى بالنسبة للبستان
مطر الربيع يدللـه ، وينميه
أما مطر الخريف فيجعله مريضا اصفر الوجه
وهكذا البرد والريح والشمس
كلها تتفاوت ، فاعثر على طرف الخيط
هى أيضا فى الغيب موجودة على أنواع ،
فى الخسارة والربح والنفع والضر
فأنفاس الأبدال من قبيل مطر الربيع ،
منها تنبت فى القلب والروح مروج خضراء
وما تفعله أمطار الربيع فى الشجرة
يتأتى من أنفاسهم المباركة ، عند المقبل السعيد
وإن كان ثم شجرة يابسة فى مكان ما ،
فلا تعتبر أن العيب فيها من الريح ،
الذى ينعش الأرواح
لقد قامت الريح بفعلها وهبت عليها ،
وذلك الذى كان له روح فضلها على روحه"

ثم يقول مولانا جلال الدين ا لرومى فى ترجمة الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا:
قال الرسول : أيها الرفاق حذار أن تخفوا أجسادكم عن برد الربيع ذلك أنه يفعل بأرواح كم ما تفعله فصول الربيع بالأشجار لكن توقوا برد الخريف ، فهو أخذ الرواة هذا ال حديث على محمله الظاهر، وقنعوا منه بصورته ..
فقد كانت هذه الجماعة بلا علم عن الروج ، ورأوا الجبل ، لكنهم لم يروا فيه المنجم . ف الخريف عند الله هو النفس والهوى ، والعقل والروح هما عين الربيع والبقاء . وإن لك عقلا جزئيا مخفيا فيك ، فابحث عن إنسان كامل العقل فى هذه الدنيا فيصبح جزؤك من تاث يره كلا . والعقل الكلى على النفس كأنه الغل. ومن ثم فتأويل هذا الخبر ، أن الأنفاس الطاهرة ، كأنها الربيع ، وهى حياة للأوراق والكروم فلا تخف جسدك عن حديث الأولياء رفيقا كان أو قاسيا فهو فى الحقيقة ظهير لدينك وتقبل برضا قوله ، حلوا كان أو مرا حتى تنجو من الحلو والمر ومن السعير فحلوه ومره ربيع جديد للحياة وهو مادة الصدق وا ليقين والعبودية لله ومنها يحيا بستان الروح ، ومن هذه الجواهر يمتلئ القلب وفى قلب العاقل تسكن آلاف الأحزان إن نقص من بستان القلب عود واحد قالت الصديقة : يا زينة الوجود ماذا كانت الحكمة من مطر اليوم؟ وهل كان من قبيل مطر الرحمة ؟ أو أنه كان من أجل التهديد ، وإظهار العدل الإلهى ؟ هل كان من تلك الألطاف الربيعية ؟ أو من تلك الخريفية المليئة بالآفات ؟ قال : إنها من أجل تسكين الأحزان التى تتوالى على أبناء آدم من المصائب فإن بقى الإنسان مقيما على تلك النيران وقع خرا ب شديد ، ونقصان وخربت هذه الدنيا فى لحظة واحدة وغادرت أنواع الحرص الناس وعماد هذا العالم- أيتها الجبيبة- هو الغفلة والوعى بمثابة الشمس ، والحرص ثلج والوعى بمثاب ة الماء ، وهذه الدنيا دنس فهو يتسرب بشكل قليل من ذلك العالم لكى لا يلتقى ف ى الدنيا الحرص والحسد. ولو أنه تدفق بشكل زائد من الغيب ما بقى فضل فى هذا العالم ولا عيب وهذه المعانى لا حد لها.. فعد إلى البداية عد إلى قصة الرجل المطرب المطرب ، الذى كانت الدنيا مليئة منه بالطرب ومن صوته نبعث الخيالات العجيبة من صوته ، كان الطير يحلق وكان لب الروح يصاب بالحيرة ".

متى يكون سقوط اللغة ؟

قول الأديب والفيلسوف الأندلسى ابن حزم فى كتاب " الأحكام " :

إن اللغة يسقط أكثرها وتبطل بسقوط دولة أهلها ، ودخول غيرهم عليهم فى أماكنهم ، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم ، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها .أما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واستقلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم ، فمضمون منهم موت الخاطر ، وربما كان ذلك لشتات لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم ، وبيود " أى هلاك " علومهم ، هذا موجود بالمشاهدة ، ومعلوم بالعقل ضرورة " .

هو نص طريف نختتم به هذا الكلام عن جمال العربية .

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات