الكتابة عن الإرهاب

الكتابة عن الإرهاب

هل هناك أوجه تشابه بين الإرهابي السياسي والإرهابي الاعتقادي ، حيث يرفع الاثنان قناعين يؤديان في النهاية إلى الغرض نفسه .

أحسب أن فتحي غانم من أوائل الروائيين المصريين ، إن لم يكن العرب ، الذين تناولوا ظاهرة الإرهاب في أعمالهم الروائية ، سواء من الزاوية التي تكشف عن الدوافع الاجتماعية السياسية للإرهاب أو الزاوية التي تكشف عن دوافعه الاعتقادية أو الدينية. فالإرهاب موضوع أساسي في روايات فتحي غانم، يشتبك بموضوعات متعددة في علاقات الحبكة الروائية لأكثر من رواية. وينفرد ببؤرة المعالجة ومركز اهتمامها في ثلاث روايات على الأقل ، هي : " تلك الأيام " و " حكاية تو " و " الأفيال " . وهو اشتباكه وانفراده يظل ملحا على السرد في روايات فتحي غانم ، لافتا انتباه الوعي الذي يبحث في الإرهاب عن تجلياته المتباينة ، من حيث هو ظاهرة من ظواهر القمع وممارسة من ممارسات العنف العاري . والغاية هي اكتشاف أسباب الإهارب وبواعثه ، آلياته وتقنيات تنفيذه ، آثاره ونواتجه . قد تختلف كل رواية من الروايات الثلاث التي ذكرتها عن غيرها في موضوعها الأساسي وطرائق معالجته وبناء حبكته ، أو تتخذ كل شخصية مجراها المتسق مع تكوينها المباين لغيرها من الشخصيات ، ولكن ترجيعات الدلالة تؤكد علاقات الوصل ، وتكرار التسمية يكشف عن أوجه المشابهة ، وذلك من منظور " التيمة " المشتركة التي تجعل من الروايات الثلاث كشاف ، من زوايا مختلفة ، عن صناعة الإرهاب وتولده .

والمفارقة الدالة أن اثنين من هذه الروايات تعرضنا لعمليات من القمع الرقابي بحكم موضوعهما الذي لامس العصب العاري لقوى متعددة ، أولاها بالطبع قوة الدولة التي تنطوي أجهزتها ومؤسساتها الرقابية على حساسية خاصة من معالجة موضوع يسمها بطريقة أو أخرى ، وفي هذا الجانب ، تحديدا يكمن ما يمايز بين فتحي غانم في معالجة ظاهرة الإرهاب وشخصية الإرهابي ، وغيره من الكتاب الذين سبقوه في المعالجة ، وأخص بالذكر منهم يوسف إدريس الذي نشر روايته القصيرة " قصة حب " سنة 1956 وإحسان عبد القدوس الذي نشر روايته الشهيرة " في بيتنا رجل " في العام اللاحق مباشرة سنة 1957 . وكلتا الروايتين الأخيرتين من روايات مرحلة التحرر الوطني ، حيث ذروة الحماسة المناهضة للاستعمار في حقبة حرب السويس . والبطل في كل منهما ( حمزة : قصة حب ، وإبراهيم حمدي : في بيتنا رجل ) نموذج للفداء الوطني . أولهما يقوم بنسف معسكرات الاحتلال البريطاني ، وثانيهما يجمع إلى ذلك اغتيال الزعماء المتعاونين مع الاحتلال ويقبض عليه بعد قيامه باغتيال عبد الرحيم باشا شكري الذي كان صورة روائية لأمين عثمان باشا داعية الزواج الكاثولكيي بين مصر وبريطانيا .

وكلا الاثنين- أعني كلا البطلين- لا نرى من شخصياتهما وأفعالهما ، وأفكارهما وممارسات العنف التي يقومان بها سوى الجانب الوطني الإيجابي من العمل النضالي ، الذي قام به ، في الأربعينيات ، شباب مصر المتمرد ، تمهيدا لثورة 1952 التي انتسبت إلى هذا العمل ، ورأت فيه مقدمة وطنية من مقدماتها . أضف إلى ذلك أن العدو في مواجهة هاتين الشخصيتين ، حمزة وإبراهيم حمدي ، أو نقيض الموضوع بلغة الفكر الجدلي ، كان واضحا كل الوضوح في انتسابه إلى زمن مضى ، هو زمن الاحتلال وأعوان الاحتلال ، وهو زمن تدينه روايتا " قصة حب " و " في بيتنا رجل " من منظور الزمن الذي كتبتا فيه ، انحيازا إلى ما تحقق في هذا الزمن من استقلال وطني ، وحماسة لما اقترن به من إمكانات صعود المشروع القومي .

وليس الأمر كذلك في حالة فتحي غانم الذي لا يتمتع أبطال رواياته بوجه عام بواحدية الصفة المطلقة أو الخيرية الكاملة أو الإيثار النوذجى أو غير ذلك من صفات المثل الأعلى التي يتمتع بها " البطل الإيجابى " في النقد الواقعى ( الاشتراكى ؟ ) ذلك النقد الذي وجد في كل من " حمزة " و " إبرهيم حمدى " تجسدا نموذجا للبطل الإيجابى الذي ينبغى للجماهير أن تحتذيه . وليست مصادفة أن يكتب أنيس منصور في جريدة " الأخبار " القاهرة " 27 / 1 / 1956 " تعليقا على رواية يوسف إدريس تحت عنوان " قصة حب درس عملى في الأدب الهادف " وأن يمضى كل من سامى خشبه وغالى شكرى في الاتجاه نفسه ، متوقفين أمام " حمزة " بوصفه نموذج البطل الإيجابى ، سواء في مقال سامى عن " حمزة والحب والثورة " الذي نشره في " الآداب " البيروتية " 4 / 1968 " وأعاد نشره بعد ذلك في كتابه " شخصيات من أدب المقاومة " الذي يوازى كتاب غالى شكرى عن " أدب المقاومة " المنشور في القاهرة 1970 . والأمر نفسه يصدق على شخصية " إبراهيم حمدى " التي حظيت بثناء النظرة الواقعية التي انبنت عليها الكتابات الأولى التي تناولت رواية " في بيتنا رجل " لأمثال فؤاد دواره ومحمد مندور ورجاء النقاش وكامل الشناوى ، وأخيرا غالى شكرى الذي رأى في " إبراهيم " نموذحا من نماذج أدب المقاومة .

إذعان التصديق

ولا يعنى ذلك أن أبطال فتحى غانم يبدأون من غياب اليقين أو ضياعه على نحو مطلق ، وإنما يبدأون من دائرة لا تعرف المطلقات أو اليقين الكامل ، وتستبدل نزعة الشك بإذعان التصديق ، ورغبة السؤال برضا الإجابة التي تنغلق على نفسها في وهم المعرفة الكاملة . وحين يتحرك هؤلاء الأبطال في دوائر من النسبية المعرفية ، فإن كل شئ في عالمهم يغدو موضوعا للبحث ، وكل قيمة توضع موضع المساءلة التي لا تقتصر على زمن مضى وإنما تمتد إلى كل الأزمنة ، ولذلك لا ينغلق الزمن الماضى على نفسه بحدوده النائية في السرد الذي تنبنى به روايات فتحى غانم ، وإنما ينفتح الزمن الماضى على الزمن الحاضر ويشير إليه على سبيل التضمن أو اللزوم أو حتى المجاورة ، وذلك على نحو يجعل من مساءلة الماضى مساءلة للحاضر ، ومن نقيض الموضوع في الزمن الروائى نقيضا للموضوع في زمن الكتابة الروائية . وفى الوقت نفسه ، يحيل الحادثة الواقعية إلى حداثة رمزية ، والشخصية البشرية إلى تمثيل كنائى وقناع استعار ومرآة مجازية .

ونحن لا نرى شخصيات أبطال فتحى غانم هؤلاء في اللغة الخارجية ، أو سلوكهم الظاهرى ، أو أفعالهم الواضحة ، وإنما نراهم فيما يقع تحت السطح ، وبواسطة علاقات دلالية تنطلق المقموع من الخطاب المسكوت عنه ظاهريا ، وتبرز معنى الالتباس في أفعالهم التي لا يمكن أن توصف بصفة واحدة ، أو تختزل في نعت واحد ، فالحقيقة لها أكثر من وجه دائما ، والظاهرة لها أكثر من تفسير ، وكل فعل له وجهان ومعنيان على الأقل في عوالم هذه الشخصيات .

ويترتب على ذلك ما نراه من علامات اللغة الأيسوبية التي لا تبدو أيسوبية في ظاهر الأمر ، وازدواج الإشارة التي تستعيد ما وقع في الماضى لتضع ما يقع في الحاضر موضوع المساءلة ، وتتسرب بمعنى الإرهاب من الماضى ( الذي لا ينغلق على حدوده الزمانية ) إلى الحاضر الذي يكاد ينغلق على ثوابته القمعية ، وذلك في حالة من المراوغة التقنية التي تقول شيئا وتعنى غيره ، وتحكى عن زمن مضى وتعنى زمنا تعامد على حضوره . أقصد إلى ذلك الحضور المتذبذب ما بين الحلم والكابوس ، الورد والرماد ، الأمل والإحباط ، كأنه زمن يعد بالذى يأتى ولا يأتى ، لكنه لا يفضى قط إلى اليقين التام أو التصديق الكامل ، أوحتى التغير الإيجابى الذي تحتفى به علامات الإرهاب ولوزامه التي لا تفصل بين قمع سلطة الدولة وقمع المجموعات الموازية لها .

حدود الحرية

والنتيجة هي الحساسية التي تستشعرها الأجهزة الرقابية المباشرة وغير المباشرة ، الرسمية وغير الرسمية ، والتوجس الذي ينتج عن ملامسة المعانى الثوانى في السرد للعصب العارى من سلطة الدولة ، التي لم تتوقف أجهزتها القمعية عن رقابة الحرية الإبداعية بطرائق عديدة . ودليل على ذلك ما أبانته ، بشكل جدير بالتقدير ، الباحثة السويدية ما رينا ستاغ Marina Stagh في كتابها " حدود حرية الكلام : دراسة لكتابة النثر وكتابه في عهدى عبد الناصر والسادات " . وهو أطروحتها التي حصلت بها على درحة الدكتوراه من جامعة استكهولم ونشرت ضمن مطبوعات الجامعة نفسها سنة 1993 . وقد ترجم الأطروحة ترجمة جيدة طلعت الشايب بعنوان " حدود حرية التعبير ، تجربة كتاب القصة والرواية في مصر في عهدى عبدالناصر والسادات " ونشرتها دار " شرقيات " بالقاهرة سنة 1995 .

وتكشف مارينا ستاغ في دراسات الحالة التي تذكر نتائجها في كتابها عن أن رواية " تلك الأيام " لفتحى غانم هي روايته الأولى التي جعلت من الإرهاب موضوعها الرئيسى . وذلك منذ أن نشرت مسلسلة في مجلة " روزا اليوسف " بحوالى ثلاث سنوات لأسباب رقابية غير مباشرة . وكان نشرها ضمن سلسلة " الكتاب الذهنى " في العدد الذي صدر في شهر " نوفمبر " سنة 1966 . ولكن بعد حذف ما يقرب من ثلث الرواية التي نشرت مسلسلة من قبل مجلة تصدرها الدار التي تصدر السلسلة . وظلت طبعة " الكتاب الذهبى " هي الطبعة المتداولة لست سنوات تقريبا إلى أن تغيرت الأوضاع السياسية ، وحل نظام السادات محل نظام عبد الناصر ، وأخذ الجميع يتحدثون عن الديمقراطية وضرورة اتساع الهوامش المسموح بها في حرية التعبير ، فصدرت الرواية كاملة دون حذف هذه المرة في العد الثانى والأربعين من " كتاب الجمهورية " الصادر في شهر " سبتمبر " 1972 .

أما رواية " حكاية تو " ، وهى الرواية الثانية التي تعالج الموضوع نفسه لكن من زاوية مغايرة ، فحكايتها مقاربة بمعنى من المعانى ، فقد كتبها فتحى غانم سنتى 1972- 1973 بعد نشر النص الكامل من " تلك الأيام " ، ولعل النشر الكامل لروايته التي كانت في حكم المقموعة طوال العهد الناصرى ساعده في مقاربة الموضوع الخطر للتعذيب في معتقلات عبد الناصر ، فكتب " حكاية تو " مستلهما عمليات التعذيب الوحشى التي أفضت إلى موت المفكر الشيوعى المصرى شهدى عطية الذي تم تعذيبه حتى الموت في سجن أبوزعبل في " يونيو " 1960 . وكان من الأهداف المضمنة الذي تلازم حضوره علامات سردية تتجه المضمنة في الرواية الكشف عن تعاطف المؤلف مع المقموعين اليساريين الذين وقع عليهم فعل القمع الإرهابى . والسبيل الفنى إلى ذلك هو تأمل نتاج الفعل على فاعله " اللواء زهدى " الذي كان مسئولا عن عمليات التعذيب ، ومن ثم اغتيال شهدى عطية وأقرانه الذين ماتوا في المعتقلات الناصرية . وكان ذلك في اتجاه سردى مغاير كل المغايرة ، لكنه مواز كل الموازاة ، للاتجاه السردى الذي سلكه من قبل يوسف إدريس في روايته القصيرة الرائدة " العسكري الأسود " التي نشرها للمرة الأولى في العدد الثالث من مجلة " الكاتب " القاهرية الصادر في أول " يونيو " سنة 1961 ، قبل عامين من نشر " تلك الأيام " في مجلة " روز اليوسف " .

مواجهة الإرهاب

وكالرواية السابقة ، نشرت " حكاية تو " مسلسلة في مجلة " روز اليوسف " سنة 1974 . وكان فتحى غانم قد عاد إليها رئيسا للتحرير بعد فترة من الجفاء الساداتى الذي بدا بإزاحة فتحى غانم من الإشراف على " دار التحرير " مع متغيرات الخامس عشر من " مايو " سنة 1971 ، ونشرت " روز اليوسف " الرواية مسلسة في أعدادها ، تحت مسئولية رئيس تحريرها ، وفى سياق من الرواية مسلسلة في أعدادها ، تحت مسئولية رئيس تحريرها ، وفى سياق من الروايات المتتابعة التي تولت الكشف عن الدور القمعى لأجهزة الساداتية ووظفته لصالح العهد الساداتى الذي أراد أن يبدو واعد بالحرية والديمقراطية ومدافعا عنهما في آن . وأعنى بذلك الرويات التي سبقت ، في تتابعها مع بداية العهد الساداتى ، رواية جمال الغيطانى " الزينى بركات " التي بدأت " روزاليوسف " في نشرها قبل أشهر معدودة من ثورة التصحيح أو انقلاب مايو سنة 1971 . وكان جمال الغيطانى قد كتبها في نهاية عهد عبدالناصر وفرغ منها بعد موته . وبدأت روزاليوسف نشرها في سبتمبر 1971 بعد وفاة عبد الناصر .

ولكن سياق النشر يتوقف برواية " حكاية تو " عند هذا الحد ، إذ ظلت الرواية حبيسة أعداد مجلة " روز اليوسف " لا تجد من يجرؤ على نشرها من المؤسسات الرسمية لإدانتها الواضحة لأجهزة الشرطة ، وذلك في سياق سياسى متسارع الإيقاع في تغيره الذي أدى إلى تصدر رجال الشرطة للمشهد ، خصوصا بعد أن أخذوا على عاتقهم مواجهة علميات الإرهاب الذي يتستر تحت أقنعة الدين وشعاراته ، وهى العمليات التي بدأت في التصاعد الخطر مع عام 1974 ، العام نفسه الذي نشرت فيه " حكاية تو " في مجلة روزاليوسف ، والعام نفسه الذي كان بداية الاهتمام بمراقبة ظواهر التطرف الدينى ومارسات العنف الإرهابى التي أخذت تتخذ الدين شعارا لها ، خصوصا بعد تفجير الخلاف بين النظام الساداتى وحلفائه من الجماعات المتأسلمة التي سرعان ما تحولت إلى أعدى أعدائه .

ومهما يكن من أمر ، فقد ظلت " حكاية تو " غير منشورة في كتاب حوالى ثلاثة عشر عاما ، إلى أن نشرت أخيرا عن " دار الهلال " بمبادرة من مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة " المصور " الذي دفع بها إلى سلسلة " روايات الهلال " التي أصدرتها في عدد أول " ديسمبر " سنة 1987 .

وكان ذلك بعد حوالى ست سنوات من صدور رواية " الأفيال " التي نشرت دار " روزاليوسف " طبعتها الأولى سنة 1981 ، وهى الرواية التي تبدأ من حيث تنتهى " تلك الأيام " في امتدادها الذي أبرزته " حكاية تو " . أعنى أنها تبدأ من حيث تنتهى القناع السياسي للإرهاب ليحل محله القناع الاعتقادي أو الدينى ، مؤديا الدور نفسه في الظاهرة التي ترفع شعار السياسة مرة وشعار الدين أخرى ، محافظة على ابتاعية السلوك الذي ينطوى على تقديس الإرهابى المبتدئ للإرهابى المتمكن الذي يقع من الأول موقع القطب من المريد ، أو موقع المعلم الذي يتلقى المتعلم تعاليمه بالقبول والطاعة والمبادرة إلى الفعل الذي لا تردد فيه ولا ترو ، فالإرهاب يبدأ من حدية الفكر ويصل إلى ذروته مع تطرف الفعل الذي هو ممارسة القتل . وسوف نلحظ ، في موضعه من سياق هذه المعالجة ، أوجه المشابهة التي تصل بين الإرهابى السياسي في " تلك الأيام " والإرهابى الاعتقادى في " الأفيال " ، سواء من منظور التكوين الفكرى للإرهابى ، أو علاقته بمن يقوده إلى طريق الإرهاب ويحدد له خطواته فيه ، دافعا إياه إلى هاوية الفعل الذي لا يفضى إلا إلى الدمار لكل الأطراف الفاعلة والمنفعلة والمفعول بها أو فيها على السواء .

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات