قراءة نقدية في دايون

قراءة نقدية في دايون "الانسان الصغير"

للدكتورة الشاعرة نجمة إدريس

أننا أمام نص شعري واحد يعبر عن تجارب الشاعرة في الحياة الثقافية داخل الوطن وبين ديار الغربة وأهلها

يسترعي ديوان الإنسان الصغير للشاعرة الدكتورة نجمة إدريس الانتباه ويسجل موقعاً في حركة الشعر الحديث سواء في الكويت أو الساحات الأدبية العربية، وذلك لأنه يتمتع بخصائص نبدأ بمداخلها الرئيسية ، ثم نتجول بين القصائد ودروبها على نحو تفصيلي.

فالقصائد الخمس والعشرون تنقل عوالم تمتد من 1978 حتى 1997 مع فاصل انقطعت فيه الشاعرة أواسط الثمانينات إلى أعماق نثرية تجريبية ، لكننا نحس بحضور لشخصية تحمل رؤية متماسكة للإنسان في اختلاجاته الذاتية، ومواقفه في تيارات العصر المتسارعة ومحاولته التسامي على الحصار وعلى العتمة التي تجرده من جوهر كيانه الخلاق ، وهذه التسمية تجعل القصيدة الواحدة جزءاً من بناء يتكامل وترتسم أهدافه الجمالية والفكرية ونستطيع متابعة تناميه في خطوط متصاعدة مع مراحل تقطعها الشاعرة تجارب في الحياة .

وقد التزمت الشاعرة شعر التفعيلة في قصائدها، واستفادت من المرونة التي يمنحها هذا النهج بتنويعات السطور ونهاياتها البديلة عن حرف الروي في الشعر القديم والإحيائي ، وبمقدور القارئ الحكم على اتساع الإيقاع والموسيقى المسموعة أو المدركة بتماوجها الرقيق للهواجس والرغبات والصراع في زماننا ، ولعل إجابة تبزغ هنا حول تساؤلات عن كفاية أنماط الشعر التي نعرفها وضرورة اللجوء إلى صياغة نثرية تترك الإيقاع جانباً !

انفتحت الجسور بين نصوص الديوان وتجاربه والقراء على الرغم من اللغة الحديثة في وصوغها ودلالاتها ، ومع امتطاء صهوة المجاز والرموز والإشارة الخفية. وتجاوز نجمة إدريس إشكالية الغموض المغرق بتباعده عن الساحة المشتركة بين المبدع والمتلقي ، ولا نقصد أن القصائد تقدم المواقف والمشاهد مباشرة ومكتملة ، بل إنها تترك للقارئ متعة الصور المدهشة بتجاوزها ، وقراءة ما وراءها خاصة عند ربط الدوئار الدلالية ، وهكذا نجد الحداثة- وهي التي تواكب الراهن وتشرع منافذ للآتي المتطور- يتسع مركبها لكثيرين.

رومانسية شباب وتمرده

إن الدائرة الدلالية الأولى تنتشر في اثنتى عشر قصيدة لتعرض الشاعرة تجارب رومانسية يواجه فيها الشباب الدنيا، وبمقدور جموح أحلامه ورهافه إحساسه تصدمه انكسارات مفاجئة وحواجز لا يقوى على اختراقها ، ونلحظ جيلاً يتلامح مع خطاب الشاعرة ، وهي رغم استخدامها ضمير المتكلم لا تغرق في ذاتية فردية وتبدو خطواتها بعضاً من حركة المجتمع حولها وتشكيل أيامه المنطلقة بشموس نضره.

تطل الشاعرة في المحور الأول وقد أحاط بها الحزن وأغلقت المعابر بعد أن تمخضت التجربة عن خيبة مريرة، وهي لا تريد أن ترى أي شيء من عالم الآخرين ، فلها دنياها تسيجها وتحفظ روحها الألفة المتوثبة نقية كدرة في أصدافها ، وتستخدم دلالة التقوقع ، وتبعد العصفور لأن لحن الحياة لديها تختلف أنغامه عما يألف هؤلاء الذين يدرجون في السهول والدروب.

وتعرض قصائد المحور الدلالي الثاني تماسك الشاعرة وتأملها للأحداث والوقائع في مواجهاتها ، ورغم الألم وشدة الطرف الآخر المسيطر على الساحة فهي تكشف مكامن الضعف ليغدو ضوءاً للخلاص ، لأن أكتشاف الحقائق يحطم الجدران، وفي قصيدة " ثلاثية الشجرة والعصفور والشمس" يتماهى الواقع والحلم إذ تهتز الأغصان وتغتني بنسغ شرايينها، والطائر الأبيض يعمر عشه ويغزل أغنية اللقاء ، وفجأة وفي حركة درامية تهوى الشمس الصفراء على المشهد بلهيب وأنياب تتناثر إثرها الأغصان والجذع وتدفن آخر ريشة في الرمال، وهكذا غادرت الشاعرة قوقعة القهر المطلق ومن جراح التجربة تتهيأ للخروج.

نتابع المحور الدلالي الثالث سعي الشاعرة في كل اتجاه لتحقق انتصارها وترسم الصباح القادم بخطوط تجمع الأسطورة والجذور المتلفعة بطيات التاريخ ومعالم الواقع القريب من الأنفاس ونبض القلب ، وتشخص عيناها في "العنقاء" نحو أفق خارق يتغلب على العقبات المحاصرة، والشاعرة لا تضيع في وهم هذا الطائر الخرافي ، وإنما تستمد صورة لها ألوانها المتعالية على المألوف والمؤدي إلى الامحاء والذوبان ، فمن العنقاء تتعلم البداية من زاوية مختلفة وطاقة متفوقة ، وهنا يبدو أنفصال مؤقت عن الواقع لكنه يعود بخطو ثابت وواثق وعنفوان يغسل الانكسار، وتعقد نجمة ادريس مصالحة فريدة في خضم الدفق الروماسي والتطلع المتمرد على محيط محاصر الشباب فهي تعود إلى التراث والتاريخ مفتشة عن الصفاء والنقاء في تجارب الجد الجليل ، وكان هذا في الاحتفال بحلول القرن الخامس عشر الهجري، إن الصلة الحميمية بين الأحفاد والجد تبعث الامل بهدية آتية من مقام ترفع عن النوازع والرغبات، وهو يستل من غمار السنوات صدق الكلمة والقيم النبيلة، ومن الصور الآسرة في القصيدة التفاف الصغار ببراءة حول جدهم يلتمسون الهدية بين ثنايا ردائه:

" أحفادك الصغار يحلمون
بكلمة بيضاء وابتسامة
وزهرة تحملها حمامة
وعالم وضيء..." .

هروب إلى الفضاء

تمثل الدائرة الدلالية الثانية مرحلة جديدة من تجارب الشاعرة نجمة إدريس، ويبلغ الوعي مرتبة تجعلها تفتح ملفات هذا الإنسان الضائع رغم أضواء المدن وصخبها ونلحظ أن الخطاب يغلب عليه صيغة الجمع أو ضمير الغائب ، فالذات التي تصدر إطار القصائد في الدائرة الأولى تحولت إلىعين تراقب أو تغدو بعضاً من هؤلاء الساعين في الارض تطاردهم همومها.

ولعل الشاعر مثال للفنان والمبدع في صخب العصر، فهؤلاء تحيط بهم الأضواء وتتلقف العيون والأسماع إبداعهم، وتملأ الصحف والشاشات صورهم ، وما أن تنحسر الموجة ويغلق واحدهم بابه ، أو يضعف يدرك أنه وحيد تجرده الأيام من سطوته وبريقه ، ولا يشفع له ذوب روحه الذي اعطى الشباب والأعصاب للناس، إننا مع قصيدة "الشاعرة" نلحظ انطفاء المصباح بل تحطيمه بهذه المعادلة الظالمة في عصر يستهلك كل شيء حتى الإنسان مصدر الإبداع وينبوعه .

تميز هذا الديوان "الإنسان الصغير" بأن صاحبته عثرت على مواقع وطاقات تواجه الشرور وأخطار الانكسار في بنية الحضارة الحديثة ، لقد وجدت عالم الطفولة والأسرة ملاذا تتفيأ ظلاله وتعدو منه إلينا حاملة ضياء يبدد عتمه الاضطراب وزيغ الخطوات .

توزعت هذه الدائرة على أربع قصائد "ابنتى ، السقوط ، تبقى المسافى يبقى الشارع ، وجهات نظر فوق أرجوحة " وفى مقاطع في " صوت وصور " وفى " انتظار فوق هدية جدنا " إضافة إلى ومضات انتشرت في خمسة عشر موضعا ، ويعد هذا الاهتمام والتناول موجة تقابل ذاك الاجتياح المفرغ لحياتنا من الرهاقة والتآزر والقدرة على مواصلة الرحلة ، إن دفاعا واضحا ينتشر مع حقائق وصور تبثها الشاعرة وهى ترى البراءة والطهر في وجه الطفلة يبعثان الأمل ببداية جديدة نقية مع أجيال يعطيها خصب متدفق ، وهو الذي يغسل النفس مما أصابها في زحام واختلاط للبصيرة ، ويمتد الطريق فتطمئن ذواتنا مع اليد الطرية وهى تتحول سندا لنا ، وتستحضر نجمة إدريس في " ابنتى " رمزا ثريا عندما تحدق فترى ابنتها نخلة عمرها تمنحها العون رطبا شهيا ، وتذكر كيف تجلت معجزة السيد المسيح الطفل المبارك ، إنها إيماءة إلى منطلق بعد أن سدت سبل أمام البشر .

ومن المواقف النفسية المؤثرة في تصوير لهفة المرأة وخوفها من أن يتغير لون الانتظار الطويل إلى جدب وعقم ويصطبغ بالحزن ، فيتقلب نداؤها لذلك الطفل- الحلم الذي تتوق وتتهيأ لقدومه بين حنايا الصدر ونبض الشرايين ، إنها تعاتبه إذ لا يسمع وجيب قلبها وتحرفها . إن هذه المرأة تتطلع إلى اكتمالها بالولادة وبناء الخلية الأولى للحياة ، وهى لا تبالى بالمخاطرة ، والمغامرة مع الوجع وشبح الموت " وتبقى المسافة يبقى الشراع ":

" لك العبير شاغلى لك الحقول
وفسحة النهار روعة الفصول
يا طفلى المعذب البخيل .. يا
غلالة العمام يا سهول
تعشب فوق سفحها روائح الحنين في الأصيل
والعشق والأوراد والسنا "

وفى " السقوط " نسمع حوارا بين الشاعرة والقابلة التي تلقتها في لحظاتها الأولى فيعلوا في سبحات صوفية جميلة عن صورة العالم والأهل في إدراك الوليدة وقد حفرت كلمات هذه القصيدة القصيرة إشارات- نحس بها ولا تشرح- إلى سر هذا الكائن وكيف يتعاظم بعد ضعف ويمتلك قدرات في الكون بل يكون جبارا !

دائرة الطيور

عندما تضيق الأرض وتعلو الحواجز ، ويشل سعى الراكضين الباحثين عن مأمن أو مأوى لابد من ساحة تناسب تكاثف الأذرع وهى تحاول أن تحجب الشمس ، ولهذا اختارت الشاعرة نجمة إدريس أن تنطلق إلى فضاء لا تحد فيه الحركة ، واشتملت دائرة الطيور لديها على سبع قصائد ونثرت ومضات في أربع أخرى ، وهى في كل هذه المواقف تتخذ من طيورها رمزا وتخفق مع أجنحتها دلالات المجاز سواء في المرحلة الرومانسية أو في تتبع أزمات الإنسان المعاصر .

من الطريف متابعة موقفين تحدثت عنهما الشاعرة في أزمنة متباعدة وظلت أواصر تربط بينهما مع اختلاف التناول بين الرمزية والواقعية ، فما وراء تبدل الأداة الفنية ؟ لقد صورت نجمة إدريس في " أمام الباب الموصد 1982 " عذاب العصفور الخائف من بر العاصفة ، فالوحشة يرتجف لها قلبه والغيم يسد الآفاق وهو يحوم ويطلب عونا من خلف الباب الموصد ، يكفيه الدفء لكن الصوت الخافت والنسائى يتسلل " لا شئ لدى " ونلحظ أن هذا الرمز ينحسر وتخرج من إهابة الشاعرة وتعلى إصرارها على المحاولة من غير كلل حتى تخترق الأبواب

" سأظل أحوم
عصفورا مختلج الريشات أحوم
عند الباب المدفون وراء الغيم وراء الريح
أغدو وأروح
أغدو وأروح "

وتعود في قصيد " المواطن س- 1997 " إلى الموقف ذاته على نحو واقعي فالمدينة تلفظ هذا الإنسان وتنفيه منها وهو داخلها! عندما يفقد أحلامه الصغيرة والبسيطة غرفة ، وسادة معطفا، صديقا. كلمات نقية !! لكننا نجد حلاً لها الموت اليومي في صورة رمزية للنقاء، ونقطة بداية لم يفسدها البشر، لقد كانت "الشطآن المغسولة المدى، لعل في بياضها ، دروبه ومخرجه" حقا لقد نزلت إلى الإرض إلا أن الحل يحتمي بالبحر حيث يتضاءل البشر ويعلو موجه وهديره.

اختارات الشاعرة طيورها في كثير من الأحيان للدلالة على حلول قوة في سمت يعلو ليراه من على الأرض، وليظهر التفوق على نوازع الشر وعذاب الحصار وهي تفلح أو تخفق في سجال لا يهدأ ، ويقترن الفضاء العالي بعش يبنيه البلبل، وبخضرة تنتشر في الأغصان مع العصفور، وفي عمل شعري حديث (1997) يبسط الطائر جناحه الأبيض فلا يستطيع اللهبُ الحارق أن ينال منه ويواصل تغريده ويطفئ النيران لتزهر الدنيا ويكبر الإنسان، وهنا لا تفترض الشاعرة هبوط قدر سحرية طوباوية وإنما تشعرنا بعنفوان الأمل الذي ينهض من بين الرماد والحرائق، ولا يفوتنا أن نتذكر أنها أهدت القصيدة إلى "إنسان متفائل".

البحر وانبثاق الأمل

اتجهت نجمة إدريس إلى البحر فغمرت دائرته الدلالية ومفاتيحها سبعاً من قصائدها في خمسة وثلاثين موضعاً أو إشارة ، وحملت قصيدة عنوان " تبقى المسافة يبقى الشراع" وتغلغلت الإيحاءات والرموز بين أطراف التجارب ، ولم تقصد الشاعرة إلى حديث مباشرة عن الطبيعة والبحر، وهذا ما يدفع القارئ إلى تتبع الظاهرة الفنية وأصولها في رصيدها النفسي والاجتماعي والثقافي.

يتحقق للمواقف والأحداث التي تنتقل في قصائد إلى البحر اتساع ومسافات بعيدة في حضور هذا الجبار القاهر بأمواجه ومداه الذي يغيب فيه البصر وهنا تستطيع الشاعرة الخروج من الأرض إلى رحابة ملعب يحتمل جولات محتدمة لأحزانها وأحلامها وقد برّحها توق الرومانسية وقلق كوني في الحياة المعاصرة التي لا تحد خطوات الإنسان فيها، ولا يعرف لها انتهاء ولا محطات آمنة.

ويدهشنا كيف جمعت نجمة إدريس بين دلالتين مختلفتين الأولى ضآلة ابن آدم وضعفه وذاك الأفق الذي يحيط لونه الأزرق بكل شئ ، والدلالة الأخرى هي جرأة واقتحام ومعايشة لهذا العالم ورغبة في اقتناص ثمرات تعود إلى الأرض والشاطئ لكننا عندما نتأمل مرجعي الموقف تتكشف لنا وصل تراثية من بيئة الخليج العربى اتخذتها الشاعرة منطلقا وظهر في تجليات ، ووجوه متعددة للبحر .

إن اختيار هذه الوجهة دون غيرها مرتبط بتجارب البحر التي شكلت شريان الحياة في الكويت وأرجاء الخليج العربى آمادا طويلة ، وبنيت وأعاصير ، وبذلت قبلت التحدى والصراع ، ولاقت الويل في ظلمات وأعاصير ، وبذلت تضحيات غالية ، ولملمت جراحاتها مرات كثيرة لكنها في النهاية عرفت الانتصار وهو استمرار الأجيال على الشاطئ الموصول- عبر السفن وسواعد الرجال- بموانئ الدنيا وأعماق فيها اللؤلؤ .

إننا كلما تتبعنا المواقف والعقبات التي تحيط بالشاعرة أو من صحبتهم بعينيها خوفا وحبا نجد بريقا ينبثق للأمل ، ولا تترك السبل موصدة . إنها تتمثل تجربة الأسلاف في بهاء جوهرها لأنه يلتمع مع العزيمة والانتفاض من غمرة التجربة .

لقد استفادت نجمة إدريس من طاقات اللغة عندما شكلت دوائرها الدلالية ، وأخذت هذه الدوائر تتفاعل في تماوج يتحرك بين القصائد مدا وجزرا وتشتبك المفاتيح الدلالية للبحر والطير والطفولة مع تغلغل في الأهواء والمطامح يشق سبله وعرة أو منسابة تتهادى ، ونحن عندما نخطو مع السطور الشعرية تبرق أمامنا إيحاءات التجاور ، ونستطيع ما وراء المجاز والرموز ، وفى كل هذه الأجواء نزداد إدراكا لجوانب إنسانية لها كيانها وزواياها الدالة والمفعمة بأصداء دنيانا التي نرى أو نحلم بها ، أو تطل علينا بلا استئذان في شطحات تندفع مع هؤلاء الذين تتخطف أبصارهم أعاجيب هذا الزمان !

 

فايز الداية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الديوان





الشاعرة نجمة إدريس