القصة الكويتية المعاصرة فيما لا يراه نائم

القصة الكويتية المعاصرة فيما لا يراه نائم

"حين يصاب أحدهم بحلم يراوح ما بين الخلسة والخلسة فقد يفاجأ بنفسه متأخرا"

مشهد أول :

ما عن على بالى البتة- وأنا الذى أطل من مكان متشرف ليس بالعالى ولا المنخفض- أن أرى صاحبى ذاك وسط احتشاد بشرى هائل العدد يدافع بعضه بعضا بالأكفاء والمناكب نحو شتى الاتجاهات عبر ظرف بدا جللا .

" أين صاحبي من كلّ هؤلاء؟ ! "
كنت جاهلا ما يدور، وكان الوقت غرائبيًا ... لا هو نهاري بمعناه، ولا هو ليلي، كنا نعيش زمنًا أسطوريًا يتشرب إضاءة رمادية باهتة، لحظتها تساءلت بيني وبيني:

" أين نحن من البرزخ ؟ ! "

لحظتها- أيضا- مددت بصرى- من مكانى حيث أعلو- صوب صاحبى- حيث ينغمر- هادفا أراه جليا .

" عهدى به ! "

شاهدته يرتدى سروالا أبيض ناصعا ، يعلوه قميص رمادى فضفاض .

شاهدت شعر رأسه أبيض مطلقا .

" أعرفه .. بلغ سن أربعينه بالكاد . يفترض- مع أسوأ الاحتمالات- أن يترمد شعره ".
مددت نظرى أكثر . تنبهت إلى أن شعره قليل الكثافة لدرجة تبدت معها جلدة رأسه صفراء فاقعة ، مما أحالنى لمن صادفه علاج كيمياوى مكثف .

" كيف ؟ ! "

هالنى- وعمر صحبتنا بما لا يقاس- أنى نسيت اسمه الأول ، ولم يحضرنى سوى لقبه .

" شبيب " .

تمعنت المدلولات هل أن كلمة " شبيب " تعنى عنفوان العمر، أم أنها من اتقاد النار ؟!

" غير هذا وذاك .. ربما !"

وما عنيت أدقق أكثر . كنت مشتت البال بعدما عجزت عن تذكر اسمه الأول .

أدركت- من خلال الحركة المتواترة للحشود البشرية- أنها آخذة تتفرق ، ولأنى لم أر وجهه حينما وددت لو أوفق أفعل . لم أوفق .. الحشود وقد تلاشت بغتة أخلت المشهد عن مساحات رملية شاسعة دون أن تترك آثارا لأقدامها ، بينما تراءى . فى البعيد- ما وراء خط التقاء الأرض بالسماء- جبل أجرد له قمة محدودبة تشبه سنام جمل .

- مزح-

***

مشهد ثان

غمرنى ضباب كثيف . احتجبت رؤيتى . وجدتنى أنزلق بنعومة فى فضاء مضيب ، كمن يطير- دون جهد- مستلقيا على قفاه ، صافحت وجهى نسمة هواء طرية ، لينكشف المشهد عن عرش نخيل منقوش السعف ، يتسم باخضرار رائق .

" لماذا هو ؟! "

لم ألحظ أى كائن بشرى عداه ، عرفته من قفاه ، كان واقفا أعلى تلة ترابية عند جانب العرش .

" لماذا هنا ؟! "

حطت بى قدماى مدى خطوة خلف ظهره . حضرنى- فى التو- اسمه الأول : هتفته :

- جميل !

بعثت وراء دلالة الكلمة ، هل هى منسبوة للجمال إياه ..

أم أنها صفة تعويضية ملحقة بالصبر والمكابرة ؟!

" غير هذا وذاك .. ربما !"

- أنت !

استجاب من غير ما دهشة ، استدار إلى بكامل جسده ، لم تسنح لى فرصة رؤية وجهه .

" لا أوان! "

باغتنى- هكذا- عيناى ، تدفقا دموعا غزيرة . وجدت حالى أنتحب عند صدره .

استغربت نفسى لنفسى بكائى لم يكن تأكيدا لحزن داهم ، ولا ردة فرح كاسح . هو أشبه بالاغتسال كنت على هامش سلام داخلى .

سمعته يواسينى :

- لا بأس !

قلت له :

- ليس هذا !

تابعت :

- طوال عمرى وأنا أحلم أن أزرع نخلة !

اصغى صامتا . عدت قلت:

- النخلة شجرة مباركة .

تابعت :

- لكننى زرعت شجرة شاى !

ظننته سيعقب :

"- .. آسيا البعيدة ! "

التزم صمته استغاثتك ..

ظل ملتزما صمته . كاشفته :

- ما باليد حيلة !

أردت أن أختم :

- أولى الأمر منك ..

اختصر رده متفهما :

- لا تحمل هما !

لم أعقب بكلمة . أضاف مشيرا تجاه العرش :

- سأذهب هناك !

أصغيت له ، واصل بهامش من تمن :

- لعلي أجد خضارا !

آثرت أتابع إصغائى ، أنهى بصيغة طلب يتمضن اعتذرا :

- اسبقنى إلى البيت !

لدى تلاشيه من بين ذراعى حضرنى أنى- شأنى منذ قليل- لم أعرف أشاهد وجهه .

- قطع-

***

مشهد ثالث :

حدث .. غرفة ذات جدران حجرية متراصة . نظراتى عالقة بنافذة لها ستارة صفراء خضراء مثبتة ببضعة مسامير صدئة . أنا داخل الغرفة . لم أتساءل :

" كيف ؟ "

انحدرت بعينى أسفل . رأيت زوجته جالسة القرفصاء تريثت عند وجهها . استغربت أن عوامل الزمن لم تفعل فعلها فيه .

" باقية .. لم تتجاوز عشرينها رغم مرور ما يزيد على عشرين سنة أخرى !"

قسمات وجهها تنم عن تسليم بالمقدور .

" المرأة / الحالة "

سمعتها تقول بصوت ودود هابط :

- أدرى أنك تحب الشاى .

بادرت استدركت :

- إنما ..

أبقت جملتها مفتوحة على احتمالاتها .

"- أدرى ".

كدت أقول ، لكننى أحجمت ، بعدما اكتشفت وجود ثلاثة صبية أكبرهم بلغ سادسته . خيل إلى أن قاماتهم باقية مثلما هى قبل عقدين .

" هل يصدف .. ؟!"

احتفظت باستغرابى . نقلت بصرى بينهم . كانوا- بدورهم- جالسين قرفصاء هم .

" منعى ديمومة " .

لاحظت انتفاخ بطونهم ، بينما شفت جلودهم عن هياكل عظامهم .

وخزنى صدرى من داخل .

" واعز مفترض ".

سبق أن رأيت مشاهد تلفزيونية إخبارية بصدد ناس من جنوب السودان .

" هنا جنوب ثان !"

انشد اهتمامى إلى وجوهم ، خدودهم غائرة عميقا ، ببشرة مجعدة حد القسوة .

" مجعدة حد القسوة .

" أن يشيخ الأطفال ..".

عيونهم- رغم كونها مفتوحة .. سعتها- بنظرات كابية

محايدة فى الوقت ذاته ، لا نأمة تبدر ..

" اعتدتهم مشاغبين !! "

تراها أدركت ما خطر ببالى ؟ !

- هم هكذا .

قالت مشيرة إليهم . أضافت :

- بانتظار أوبة أبيهم .

تذكرت عرش النخيل ، تذكرت كلماته :

" لعلى أجد خضاراً ! "

تملكنى إحساس طارئ بارتكاب غامض

" أنا الذى رأى ! "

رادونى- فى الحال- حنين غياب .

- قطع-

***

مشهد أخير

رأيتنى وسط زحمة بشر متباينين ، أكاد أعرفهم ولا أعرفهم وجدت الأرض تحت قدمى طينية موحلة .

" علاقة هذا بذاك ؟!"

الأحال بلونها البنى الصارخ تتسربل الناس والموجودات كافة ، رائحة متخمرة تزكم أنفى .

" كيفية التأقلم ؟!"

الأرض- على اليمين منى- تتفجر ينابيع وحل فوار ضارب إلى الاحمرار ، شد انتباهى- إلى شمالى- مرتفع صخرى داكن يتبدى عن شلال يساقط دفق مياه غزيرة حمراء موحلة أيضا ، عمدت أصغت سمعى .

" بلا هدير !"

الصمت والسكون يطنبان حولى ، باغتنى شعور- لم أعهد- بالثقل ما وراء أدنى .

" لا صدى فى الخلفية!"

نازعتنى رغبة المغادرة .

" لو .. واسطة نقل !"

تراءت لى سيارتى على مبعدة خطوات . لطخ الأوحال العالقة بهيكلها تشف عن لونها الرمادى الباهت .

" منذ متى ..؟!"

لفت نظرى وجود صبى قارب عاشرته يعبث بمحتويات صندوق أمتعة السيارة .

- احذر !

صرخت به لا أدرى كيف ، ولا أدرى كيف لم أسمع صوتى فى وقت سمعه هو . تجمد مكانه . اقتربت . أطللت داخل الصندوق . كان خاليا تماما . استنتجت :

" هذا الصبى لم .."

ولم أتذكر إن كنت تزودت بأمتعة شخصية محددة . استدرت متطلعا ناحية الصبى .

" ما الذى دعاه لئلا يهرب ؟!"

طالعتنى سلسلة مفاتيحى عالقة فى يده . خطوات مادا كفى تجاهه ، لم يعبأ لحركتى ، عمد أرخى أصابعه . انفلتت سلسلة المفاتيح منه ، سقطت فى الوحل .

" لكيلا تنطمر .. تضيع !"

سارعت انحنيت هادفا ألتقط خاصتى .

" اغتنام الوقت .. بصرف النظر .."

لحظة انحنائى شملتنى رائحة العطن لدرجة مدوخة .

" أنا طارئ .. ماذا عنهم ؟!"

لحظتها- أيضا شاهدت ساقى الصبى العاريتين تنغرسان قويا فى الأرض الموحلة كما لو أنهما نبتتا هناك.

"أنا الطارئ .."

ألحت على رغبة المغادرة .. بادرت كفى امتدت أطبقت على مقبض باب سيارتى .

" النأى مدعاة أمان ".

عندما هممت أركب استرعى اهتمامى وجود فوهة متشظية فى السقف المعدنى للسيارة .

" قذيفة طائشة ".

تداعى ذهنى يستعيد أيام حرب الخليج الثانية .

" اللاأوان !"

دونما سابق تفكير حدقت فى الاتجاه .

" وجه المصادفة ! "

من مسافة سحيقة ، عند حدود الأفق ، وقعت عيناى على صاحبى جميل ، إحدى يديه تشير ما معناه :

" إلى أين ؟!"

لم أتنبه له إن كان يحمل شيئا فى يده الأخرى ، شغلنى هاجسي الأساسى .. المغادرة .

شغلنى كذلك أنى بصدد اجتياز مركزين حدوديين ، ولأنى أحتاج إلى مبلغ معين- أربعة دنانير .. مناصفة لكل مركز- طفقت أبحث داخل جيوبى .

" ما العمل ؟!"

أوشكت أستسلم ليأسى ، جيوبى- كلها- خالية من أيما شئ .

" إلهى أعنى !!"

نقبت فى سيارتى .. درجها الأمامى .. تحت مقعد سائقها ..

" أخيرا !"

الحدث بما لا يتوقع . زايلتنى غمتى . كانت أصابعى صادفت بضع وريقات نقدية .

" عساها تفى غرضى !"

وما واتتنى جرأتى لا تأكد من كفاية المبلغ .

- قطع-

****

مشهد مقحم

وأنا أصحو أحسست بالرائحة الزنفة للوحل باقية تحوم عند أنفى ، كانت أشبه برائحة متخثر.

لم يعبأ ذهنى يلهث وراء تفسير دون آخر ، كان منشغلا أقصاه بسؤال وحيد :

" كيف- وأنا فى حمى بحثى عن مبلغ رسوم اجتيازى لحدودى- لم أنتبه لغياب جواز سفرى ؟!".

كوريتاج
قصة : ليلى العثمان

شهور قاتمة تمضي . ليس من جدران تخنق صوت الهدير ، أشعر كأنني قارب يتلوى ، يتخبط بي وسط الموج فلا أحظى باستراحة تفقدني هجوم المدى ، وعصف ذلك الحدث .

يأتي وجهها المكرمش بتضاريس الألم . يطاردني ، عنياها الـ .. كادتا تقفزان من محجريهما ككرتين من نار وتتدحرجان أمامي . تتصبان الآن كحارسين أسودين يحملان سيفهما الملتمع يهددان بذبحي .

الآن فقط ، أتحسس عنف تلك اللحظة ، أستعيد مظاهر الوجع المجنون الذي كانت تستشعره وهي راضخة. تكتم صراخها في لحم ذراعها الأبيض الثخين . كما هو الوسادة الموهومة التي تعضها ، وكأسياخ النار تركت أسنانها الحريق والقروح عليه .

بين لحظة وأخرى تفقد السيطرة على نفسها. فتح صرختها المكبوتة فأتوقف خشية أن تشق ستر الغرفة وجدرانها ، لكن صوتها الشاهق بالتوسل يطالبني :

- أرجوك . أكمل . " بدي أخلص ".

هي خلصت . اغتسلت ، طهرت ، ولعلها الآن دافئة وهانئة في أحضان زوجها يمارسان حقهما المشروع ليعوضا الطفل الذي ضاع .

أنا الذي ضعت . ضاعت راحتي . ضاع النوم ، ضاعت وظيفتي ، وبالطبع وجدتني مضطرا أن أعترف لزوجتي بسر فصلي . شعرت في تللك اللحظة أنها أقرب الطيور إلى قلبي ، من أحتاج أتكئ عليها بمأساتي ، لكنها ضاعت مني هي الأخرى واجهتنى عانفة ، ساخطة متآزرة مع تلك المرأة وأعاصير الغضب تندلق من عينيها ، هل تراها كانت محقة وهي تقذف بخزين غضبها في وجهي وتذكرني بالذي نسيت :

- أين ضميرك ؟

- ضميري ؟

هل كان لا بد من إقلاقه وزجه ليقف عقبة أمام حالة إنسانية ؟ أي تخريف تقوله زوجتي ؟ لو كانت معي ، رأت ، وسمعت توسل الزوجين وإصرارهما على إجراء العملية لما سمحت أن يرفع ضميري سيفه وأكون بذلك قد تسبت في عقم المرأة . أو ربما بموتها .

سخط زوجتي ، غضبها ، خروجها من البيت ، وجه تلك المرأة ، زندها المبرقع بدوائر العضات ، كل شئ يشعرني وكأنني كنت مجرما ، لا أرتاح ، لا أنام منذ ذلك اليوم .

دخلت العيادة واهنة تستند إلى ذراع زوجها ، دون مقدمات فتحت أمامي خرقتها الملونة- قد تكون قصاصة من فستان قديم ، أو قطعة من ممسحة الأرض- فاحت رائحة بيات اللحمة الساقطة معجونة بالدم والمخاط ، تولى زوجها شرح حالتها والآلام التي تعاني منها .

كطبيب . كان لا بد أشرح لهما ما حدث :

- حالة إجهاض سريع بلا إنذار .

بعد فحصها أوضحت لهما احتمال الذي يمكن أن يحدث :

- هناك بقايا لا تزال عالقة . لو بقيت ستؤدي إلى مشاكل صحية بالغة الخطورة .

- " وشو الحل " ؟

- شهق الزوج بالسؤال . وقررت :

- لابد من إجراء عملية تنظيف .

- " وقديش بدها تقعد بالمستشفى "؟

قال الزوج وأردف كمن يرجوني أختصر المدة :

- تعرف " عندنا بنت صغيرة بالبيت ".

وثبت الراحة إلى وجهه حين قلت :

- لا لزوم أن تبقى . ترتاح ساعة بعد إجراء العملية

وتخرج . ولكن !

تلك " اللاكن " الملعونة . كان لابد أن أنطقها . فاتسعت بشكل سريع حدقات الزوجين بانتظار غير المتوقع :

- صدر قرار من وزارة الصحة أن يدفع- غير الكويتي- أجرة كل عملية تجرى تحت البنج . وكذلك بالنسبة للعلاجات الأخرى الصعبة .

سريعا تهجت عيناي سر النظرات التي حامت في أفق وجهيهما . كنت صائبا ، ألقى الزوج سؤاله الأليم :

- كم سندفع ؟

لم يكن المبلغ ضخما كما في تلك المستشفيات الخاصة . لكنه كان كذلك بالنسبة لهما .

الفجيعة التي وشمت الوجهين أكدت أن نكبة ستحل بالميزانية الفقيرة . عينا الزوج محائرتان . عيناها النائحتان باليأس تصب نحو زوجها . انتظرت لحظة ، ثم انفرطت كلماتها كقرار :

- " بلاش من هالعملية . بيسقطوا هالبقايا لحالهن ".

قبل أن يوافقها- وقد لمحت ذلك من ارتياح سطع على وجهه- تدخلت :

- ليست مجرد بقايا . هي بعض قطع من المشيمة عالقة بصعوبة في جدار الرحم .

تأفق الزوج ساخرا من تقديري للأمر :

- " يعني شو بدو يصير لو تركناها "؟

كان لابد أن أصفعه برأيي الطبي الذي يجهله :

- يستمر النزف والآلام ، تتعفن البقايا ، تحدث التهابات قد تحتاج لعلاجات أكثر تكاليف . أو لا سمح الله يتسبب الأمر في- عقم- تصعب معالجته .

اختض وجه المرأة . سيصل الأمر لبوار رحمها وقطع نسلها . هي من شعب يحرص على الأولاد والشرع يسمح للرجل- بمثنى . وثلاث . ورباع . وما ملكت الأيمان- ما الذي يمنعه أن يبحث عن رحم امرأة أخرى ؟

اندفاع الفكرة المقلقة جعلها تقرر بحدة وتحد :

- سأجري العملية .

- من أين لنا ؟

دفع الزوج باحتجاجه إليها ثم إلى :

- من أين دكتور ؟

لم أتوان حينها أن أعرض خدمتي لهما دون تريث :

- بإمكاني إجراء العملية بلا بنج .

كأنهما الغريقان في اليم ، وكأنني كنت قشة النجاة .

هتف الزوج :

- موافقان .

لم تنطق الزوجة . ولعلها كان توافقه بصمتها .

كنت قد تعجلت بعرضي وبذرت لهما الأمل . لكنني استدركت محذرا :

- ستكون هناك بعض الخطورة . وكثير من الألم .

( ذلك الاستدراك ألا يعني وعي ضميري الذي اتهمتني زوجتي بعد ذلك أنني أقصيته ) .

رغم تحذيري أصرت الزوجة :

- " شو عليه . رح أستحمل ".

هي تدخل الخطر بإرادتها ،

هل لاستمالة موافقة الزوج ؟ أم هي لذة الخلاص من معوقات قد تهدم أحلامها وجدران بيتها ؟

قبل محاولتي الثانية ( لإرضاء ضميري ربما دون أن أدري ) كان الزوج يتدخل فخورا بشجاعة قبل زوجته ، طرق على كتفها ثلاث طرقات سريعات معتزا :

- " هادي أخت الرجال . هلق شوف كيف ابتستحمل ".

للخوف قرون حادة تبرر مهما حاول الإنسان إخفاءها ، لم تنطل على مظاهر الشجاعة التي أبدتها المرأة . ولا اعتزاز الزوج بأخت الرجال . كانت القرون تنطح كل شئ فيهما : الوجهين فيكفهران ، الأطراف فترتعش ، الصدرين فيخفقان حتى ليكاد القريب منهما يسمع دبيب الخفقان .

سارت أمامي مثل نعجة تساق إلى مصير مجهول ، عند بوابة جناح الولادة أوقفت خطوات زوجها :

- ممنوع- وقبل إغلاق الباب . كانت عيناهما تتصافحان ترتعش فوق رموشهما الدموع .

لم أدخلها غرفة العمليات ، إحدى غرف الولادات الخاصة- عادة ما تكون محجوزة لنساء البلد ذوات المستوى الخاص- استدعيت الممرضة الهندية ، رجوتها أن تساعدني دون إفشاء الأمر رحمة بظروف الزوجين المادية ، كادت رغم احترامها لي ترفض فاضطررت أتسخدم سلطتي عليها كطبيب يعرف أصول مهنته ويتحمل مسئوليته .

حين أستعيد نظرة الممرضة الآن ، أجدها تتحد مع وجه المرأة الذي يطاردني ، ووجه زوجتي التي صبت ثورتها علي لحظة عرفت .

لن أخفي على أحد أن قصفا وعصفا حل بجسدي كله قبل أن أبدأ ، لكنني الذي عرض " الخدمة الجلية " ، لا بد أن أكمل مهمتي لإنقاذ المرأة .

عقمت يدي ، حككت بالفرشاة عرقهما وارتعاشهما ، بالغت في ذلك قبل أن أرتدي القفازين الطبيين وأباشر العمل .

لم تكن المهمة سهلة ، كنت أتوقف مضطر حين تنفلش صرختها عضة على ذراعها أو حين يتلوى جسدها كحيوان لم يكتمل ذبحه ، لكنها بعجالة تكتم صرختها ، تهدئ روع جسدها لتعطيني الإشارة الآمرة المتوسلة : أكمل وخلصني .

أكثر من مرة أغفلت الممرضة تجفيف العرق المتزايد السائل من جبيني إلى عيني ، ألتفت نحوها لتفعل فألمحها قد زمت عينيها وعضت على شفتها السفلى بعنف وكأنها تصك على صرخة ملتهبة بداخلها مشاركة المرأة لحظتها العصيبة المؤلمة .

عندما أنهيت مهمتي الصعبة ، أغفلت هي مهماتها : سحب القفازين من كفي ، ورفع " الكمامة " عن أنفي . كانت اندفعت نحو المرأة التي دخلت في الغيبوبة تطبطب على وجهها ، تمسح عرقها الكاثح بأبخرة الألم ، والتعب ، وتسوي خصلات شعرها التي تشعثت وتلاصقت بعض خصلاته فوق الوجه كآثار سياط.

لم يهمني لحظتها أن أسبر أغوار الممرضة لأكتشف مدى يقظة ضميرها فلم أكن قد استفززت ضميري وخيرته ، لكنت ربما طرحت على الزوجين حلولا أكثر رحمة ، كان أعرض عليهما :

- تدبر المبلغ من بعض الأهل ، أو بيعا قطعة ذهب قديمة . لم أفكر حتى بطرح حلول بسيطة على نفسي ، كأن أطلب للمرأة استثناء من مدير المستشفى ، وفي حالة رفضه- لتمسكه بالقوانين- أجمع بعض زملائي ، أطرح عليهم فكرة التبرع بالمبلغ ، أو ( كما قالت لي زوجتي بعد ذلك وهي تؤنبني ) أن أتبرع به أنا خدمة لوجه الله ، واحتراما لقدسية المهنة وقوانين المستشفى .

كانت نظرتي ونفسي قد دارتا في مدار ضيق تركز على وضع الزوجين المادي ، دون أن أضع في حساباتي ما قد يحدث من مضاعفات ، ماذا لو تسببت " الكيوريت "* بنزيف مفاجئ أدى إلى الوفاة ؟ ( هذا أيضا ما تتفق عنه ذكاء زوجتي وهي تواصل تأنيبها لي ) مما جعلني أتساءل بداخلي : من منا الطبيب : أنا ؟ أم هي ؟ لم أعاند بيقظة ضمير الممرضة حين اعترفت للمدير بفعلتي التي أرغمت عليها غير آبهة بما ينالها من عقاب .

وحيدا ، تتخطب نفسي في عتمات الليل ، أحلم بثقب صغير لأخرج منه فتجهض الجدران حلمي ، وتلك الوجوه تسد بؤر الضوء عني .

حدث في الصين
قصة : الدكتور ياسين الياسين

نزل من المصعد الذهبي الزجاجي الجميل بفندق " لاي لاي شيراتون " في مدينة تايبه تايوان وفكرة واحدة في رأسه وهي السير كالعادة للتريض كل مساء ، ومع أن هذه الليلة ممطرة إلا أن ذلك لم يثنه عن عزمه .

كان شابا وحيدا وغريبا عما حوله في هذه المدينة الكبيرة ، وكان في رحلة تدريبية إلى أحد المصانع الصغيرة ، ومر مسرعا متفاديا الناس الذين يختلفون عنه في الشكل واللغة والعادات وإن تشابه معهم في اللباس ، حيث كان يرتدي حلة زرقاء غالية الثمن وحذاء أسود لا معا ينعكس لمعانه على الأضواء الساطعة في هذا الفندق الكبير الفخم ، دفع الباب الزجاجي الكبير وسار مهرولا في الطريق المظلم إلا من إشارات المرور وإعلانات المحلات التجارية الحمراء والسوداء المزينة بالكتابة الصينية ، والتي وإن كانت جميلة إلا أنها طلاسم لا يعرف أن يقرأها أو أن يميز أحدها عن الآخر .

وبينما هو يسير في خفة ويستنشق الهواء الرطب البارد والجميل مر في الاتجاه المعاكس شاب يحمل مظلة مفتوحة على رأسه . ويسير تحت الجانب المسقوف من الشارع وحين التقت النظرات ، واقترب الصيني ناحية صاحبنا الغريب مسرعا وقال بلهجة إنجليزية مكسرة :

- هالو .. وأكمل بسرعة " هل تبحث هذه الليلة عن فتاة جميلة "

- اصابته الدهشة وتلعثم قائلا : " لا لا إنني فقط أريد أن أسير إن لم يكن لديك مانع ! " انطلق هذا الرد بحدة ، ولكن هذا لم يوقف الصيني عن محاولته وإصراره فقال :

- هذه الليلة الباردة الممطرة تحتاج إلى فتاة جميلة يا سيدي لا أن تسير بمفردك ! قل نعم !

- نظر من خلف المظلة فرأى وجها صينيا شابا شاحبا تتدلى من فمه سيجارة ، وفكر قليلا حدث نفسه قائلا :

- لم لا ؟ كلامه صحيح لماذا لا أستمتع هذه الليلة بفتاة تبعد عني هذه الوحشة القاتلة ؟

- وكانت الفكرة تدور في خلد الغريب أحيانا ، مصادقة امرأة صينية جميلة كما كان يراهن كل يوم في المطعم وفي مكان التدريب بالمصنع وكن بالنسبة له صغارا في الحجم ويختلفن في الملامح التي اعتاد عليها ، وفي بعضهن إثارة واضحة وأنوثة صارخة . حدث نفسه مؤكدا " وما الذي يردني عن ذلك ؟ فزوجتي قد تركتني في جحيم مستمر حتى انفصلت عنها " لكنه تذكر ابنته الصغيرة التي تبلغ من العمر خمس سنوات فزادت معاناته .

أدخل الغريب يده في جيب البنطلون وتحسس نقوده وسأله :

- وكم سيكلفني ذلك !

- أوه ، فقط خمسون دولار أمريكيا .

- لماذا لا أدفع لكم بالنقود التايوانية .

- لا ، لا ياسيدي ، إن البنت لا تحب النقود الأمريكية ، وهي جميلة جدا .

- تردد الغريب قليلا ، ثم قال : " وهل ستأتي إلى غرفتي في الفندق ".

- لا ، لا يا سيدي .. أنت تعلم أنه ممنوع . قال ذلك الصيني رافعا بيده ، ثم أكمل بصوت منخفض به نغمة مشفوعة بالتوسل والاقناع هي ابنة وزير معررف .. ولا تريد أحد أن يراها في مكان عام كالفندق ؟ ثم إن المكان ليس ببعيد من هنا .. صدقني يا سيدي .

تردد الغريب قليلا ولكن رغبته الجامحة جعلته يومئ برأسه بالإيجاب رغم الخوف الذي بدأ يتملك حواسه ويدب في جوانبه ، وسار الاثنان في الطريق المظلم وداخلت الغريب فكرتان ، الفكرة الأولى البنت الجميلة بجسمها البض الأملس وشعرها الطويل الناعم وابتسامتها الساحرة تفتح له الباب وتتلقفه بالأحضان والفكرة الثانية ماذا لو ؟

ماذا لو كان الرجل الصيني مجرما متفقا مع صحبه في جلب الفريسة ؟ التي حالما تقع في المصيدة ينقضون عليها كالصقور الجارحة وينهشون جسده ويسرقون كل ما لديه من نقود ؟ .. وربما ؟ .. وربما يهشمون حتى رأسه ؟ وفكر وهو يسير بجانب الصيني في كيف أن أهله وأصحابه سوف يفتقدون اتصالاته الهاتفية أول الأمر ، ثم يعلمون بنبأ مقتله ويتساءلون عن السبب ؟ وهنا داخله الألم وازداد الخوف بين جوانحه فأخذ جبينه يتصبب عرقا مع برودة الجو ، واختلط مع رذاذ المطر المنهمر على وجنتيه . فتمهل قليلا في سيره مما حدا بالصيني أن يتلفت إليه ويقول :

- هل تريد أن نأخذ تاكسيا ؟ .. إن المكان ليس ببعيد أبدا .

- حسنا ، رد عليه الغريب وأسرع في خطاه ، وعزا إلى نفسه بطرد فكرة الخوف من قلبه قائلا لنفسه " لماذا أخاف ، أنا شاب قوي ، وقادر على الدفاع عن نفسي إذا ما احتدت الأمور " وقال مطمئنا نفسه المضطربة " من المؤكد أن هذا الصيني القصير ليس من النوع المجرم ، وإنما هي وسيلة عيشه القذرة في الحصول على المال بسرعة ودون عناء كثير ".

وقطع الاثنان الشارع المحاذي بعد أن مرت سيارة صغيرة مسرعة ثم انعطفا إلى اليمين في شارع فرعي ، رأى الغريب على جانبية المحلات المقفلة ، كما انتبه إلى أن السوق أصبح غير مسقوف كما هو الحال في الشوارع الكبيرة ، فأحس برذاذ المطر على رأسه ووجهه وفجأة وقع شئ ما وأحدث صوتا غير متوقع مما أفزع الغريب ، فقفز خائفا ووضع إحدى يديه على قلبه بفزع ملحوظ .

- " لاتخف ، لا تخف يا سيدي إنها فقط لعب القطط " ؟. قال الصيني ذلك والابتسامة مرتسمة على وجهه ، ثم أردف " أوكي ؟ ".

- " أوكي ، أوكي ؟ " كان ذلك رد الغريب الذي توقف دون شعور عن المسير ولعن في سره القطط اللعينة التي عكرت مزاجه وعاودت اضطراب نفسه، ثم لعن هذه الليلة المشئومة وأراد أن يرجع إلى حجرته ويأوي إلى كتاب أو رواية ، أو مشاهدة بعض البرامج التلفزيونية الممتعة .. ولكن كيف وقد وقع في قبضة هذا الرجل الصيني وقبل عرضه ؟

وفكر أنه لا سبيل إلا الإفلات ، وقد أضاع وقت الصيني فهو الآن لن يتركه يمضي في حال سبيله أبدا إن هو غير رأيه ، الأمر ليس بهذه السهولة ..؟

خطرت له فكرة فقال :

- أعتقد أنه لا بد علينا أن نأخذ تاكسيا!! .. كما قلت .

- لقد أوشكنا على الوصول يا سيدي الآن ، فلا داعي لذلك أبدا ؟

- أنت لا تفهم .. إن هناك مشكلة .. لقد نسيت حافظة نقودي في الفندق ! أنا .. أنا آسف لذلك .. سوف أدفع لك أجرا مقابل ذلك ؟

- أوه .. غير معقول ، غير معقول ، قال الصيني ذلك وأخذ يدور في مكانه ويضرب الأرض بقدمه .. كان الموقف حرجا ومملوءا بالخوف . وتوقع حدوث أي أمر من الصيني .. ولهذا سارع بالقول وهو مضطرب : صدقني إنني سأرجع معك بعد الذهاب إلى الفندق وسأدفع لك المصاريف بما فيها سعر التاكسي الآن . كان رذاذ المطر قد بدأ يتزايد ، ولكن الاثنين لم يحسا به ، والصيني مازال يضرب الأرض بقدمه بشكل انفعالي وعصبي ويردد كلمات صينية ثم يردفها بالإنجليزية " غير معقول " ، " غير معقول " .

- وأنا مستعد أن أدفع ستين بل سبعين تعويضا لوقتك ، أنا آسف ، لم أكن مستعدا بالنقود ، لقد كنت أتريض فقط .. وعند ذلك وقف الصيني مادا إصبعه إلى الغريب منذرا وقال :

- سوف تدفع سبعين دولارا إذا رجعت معك أليس كذلك ؟

- نعم سوف أدفع وأقسم لك بذلك .

وهنا خرجت ضحكة مصطنعة من الصيني ، وقال : أوكي ، أوكي ، وبسرعة رجع الاثنان إلى الشارع العام وأوقفا سيارة أجرة صغيرة ركب الاثنان بالخلف وخاطب الصيني السائق الصيني بعبارات صينية لم يفهم منها الغريب أي شئ ولكنه تمالك نفسه وارتخى على الكرسي بجانب الصيني وانطلقت السيارة مسرعة ودارت بشوارع عديدة صغيرة فدار رأس الغريب وأخذ يتابع حركات مساحات المطر ، وبعد لحظات ثقيلة توقفت السيارة فجأة وقال الصيني مخاطبا الغريب " فندق لاي لاي . سأكون في الانتظار ، بسرعة أرجوك ".

- أوكي أوكي . قال ذلك الغريب ، ونزل من السيارة وأسرع إلى الداخل ، كان هناك عند الباب جماعة كبيرة وصلت للتو من اليابان بينما وقف رجل أشقر غربي طويل يطلب مفاتيحه من الموظفة المبتسمة عند الاستقبال ، نظر الغريب إلى هذه المناظر المألوفة لديه بالفندق ، ومر مسرعا إلى المصعد الزجاجي الجميل وضاع في داخله .

قلة هوى
قصة: طالب الرفاعي

بلع ريقه. مشى في الممر يقرأ لافتات الأسماء ، آثر الابتعاد ، سنة ونصفاً وجعاً، وحيرة بالصغيرة، ما قابلها أو أحد منهم.

قطعة بلاستك صغيرة مثبتة على الباب " د.بدور" أسرته ووضعه المالي ، اكتفى بشهاد البكالوريوس، عمل مهندساً، هي سافرت على حساب الجامعة أكملت دراستها العليا ، افكارها الغريبة وخيالاتها ، تهيم بدراسة الفيزياء ، وظاهرة التخبط ، وتفسير الأحلام، وفرويد، وسارتر ، كل زاوية هنا تذكره، أربع سنوات.

"كيف ستقابلني؟" عب نفساً. بالكاد نقر على الباب. "تفضل" جاءه الصوت الذي ..

الجفاف في فمه. رفع بنطلونه لخصره. خطا داخلاً:

"صباح الخير"

جالسة خلف مكتبها . ردائها الأبيض، الأرفف خلفها وارمة، ووجه المكتب : كتب ، مراجع ، أوراق ، أقلام : "أهلا ماجد، أقعد.." قالت دون أن ترفع رأسها. ألجمته جملتها الباردة، كأنها كانت بانتظاره! سنة ونصفا..

" كنُت متأكدة أنك ستأتي اليوم" تركتْ القلم، رفعت عينيها لوجهه: "البارحة، في الحلم، صرخت بك أكثر من مرة، أيقنت أنك سمعتني". ناولته قصاصه صغيرة من أمامها : " اقرأ " أحس كأنه يختنق.. محاولاً إخفاء انفعاله، فتح الورقة البيضاء المربعة، يحفظ خطها بكلماته الصغيرة الناعمة، قرأ : " اليوم الاثنين سيأتي ماجد" رعشة باردة سرت في ظهره.

قصة شعرها أقصر مما .. نظارتها الطبية : "كيف أحواك ونونو؟"

" ممكن أقعد ؟" أجاب مأخوذا.

"تفضل" خرجت من خلف مكتبها، خطوتها المستعجلة ذاتها.. وقفت أمامه.. زاد وزنها قليلاً، استدارة الـ.. جعلت تتفحصه : " تغيرت كثيراً!" ابدت ملاحظتها.

" الأيام تركض" . رد من خلف تلبكه، " أين الهواء؟"

ظلت واقفة ، سنوات الجامعة..

" تفضلي دكتورة" . إشار إليها.

دكتورة! رددت بضحكتها:"أرجوك ماجد.." لاحظت ذبول نظرته. تسرب بعض الجد لوجهها: " أين اختفيت؟ "

"ليس بعيدا"

أحست حياد حسه .. فتر اندفاعها ، زوج أختها السابق، بعيداً لاح لها مساء عودتها من بعثتها الدراسية، بشاير جاءت تستقبلها في المطار، قرأت شيئا على وجهها، لحظة ركبتا السيارة، ما استطاعت الانتظار، سألتها : " ستتزوجين؟.

نط الارتباط خمش وجه بشاير :"من أخبرك؟! أردتها مفاجأة ، كنت انتظر عودتك!"

" من العريس؟"

"ماجد درجات" أفصحت بشاير

لحظتها احست كأن ماء بارداً اندلق على رأسها، تجمد الدم في عروقها، فهمت تفسيراً لحلمها الذي جعل يطاردها.

أضافت بشاير : " منذ سفرك ونحن معا، كم أحبه! ماجد صار كل حياتي ، عملت المستحيل لإقناع بابا" .

فكر يسألها : " كيف عرفت بموعد قدومه! ظل مطبقاً أصابعه على الورقة الصغيرة".

احتمى بعزلته . سنة ونصفاً، حمل الصغيرة على قلبه. فاجأته بشاير، طلبت الطلاق. اصرت عليه، صباح مساء جعلت تلاحقه ، تصرخ في وجهه : "كرهتك، لا أطيق البقاء معك".

تاه في شكوكه ، ما تأكد سبباً لثورتها ، تحطمت جميع محاولاته على صخرة عنادها. ما أفصحت عن .. قذفت بوجهه طفلته الرضيعة.

كان عليك ألا تتزوجها ! لطمته جملة بدور وكأنها تقرأ أفكاره، نظر إليها، لمعت برأسه حادثة الامتحان: الجميع كان بانتظار وصول دكتور الرياضيات ، كانت تجلس بجواره ، مالت عليه هامسة : "الدكتور لن يأتي اليوم، هيا ، انتظرك في الكافتيريا" وقفت بهدوء ، حملت كتبها تركته فاغرا فمه، ما جاء الدكتور!

البارحة في الحلم رأيتك تسير أمامي ، أردتك تلتفت التقت عيناهما، بثها، أحتاج مساعدتك

سرها ، رفرف قلبها ، توقع ما انبعث بصوتها: " تفضل"

اخرج لها جواز سفره : "شهران وتنتهي إقامتي . أبوك يرفض تجديدها، أو إعطائي كتاب تنازل يمكنني من الانتقال لكفيل آخر، يضغط علي كي أترك البلد"!

"ماذا" شهقت، انخطف لونها : "لهذا ما التفت البارحة!"

يعرفها منذ كانت طالبة. جذبته بقراءاتها الكثيرة، وافكارها ، أخافته باحلامها ورؤاها . ما وجد تفسيراً لنبوءاتها وغرقها بخيالاتها!

ألم أخرس امتد بينهما..

طرده ابوها من شركته حين طلق بشاير، والآن يطرده من البلد.

"أرجوك كلمي الوالد" انتشلها صوته.

داخلها شعور أنها تجلس أمام ماجد آخر غير الذي تعرف، تكره فترة زواجه بأختها، مساء حفلة زواجهما، هبط عليهما مغص بطنها والإسهال ، ما استطاعت المقاومة، نقلوها للمستشفى ، استبقاها الطبيب، قضت مساءها راقدة وكيس المغذي معلق في زندها، لم تحضر الحفلة ولا شاهدتها : ماجد وبشاير.

"لن أنسى معروفك" خاطبها.

"تريد تجديد الإقامة، اليوم مساء أكلم بابا" أرسلت تعده.

عاد يبلع ريقه :"متى أتصل بك؟ "

"غداً" طفرت منها دون تفكير.

"عفواً دكتورة" قاطعتها طالبة محجبة، وقفت عند الباب حاملة دفتراً بيدها.

"هاتي" أشارت لها الدكتورة بدور، خطت الطالبة ونظراتها في الأرض، وضعت الدفتر على طرف المكتب، انسحبت خارجة.

"غداً صباحا اتصل بي ، وسأرد عليك".

استرد جواز سفره .

 

إسماعيل فهد إسماعيل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات