قصة قصيرة : تراشقات

قصة قصيرة : تراشقات

السماء صحو، زرقاء صافية، من البعيد تأتي أصوات التراضقات المتبادلة. ننظر إلى انعكاس صورنا في الماء فتجعدها أنفاسنا، ثم ما تلبث أن تلتم لتعود فتتمدد، وفي الأسفل منها الأحجار، بيضاء ساكنة، وثم سمكات ضئيلة الحجم تهتز في مواجهتنا، فيما ظل هو راقداً في القاع، وعلى وجهة انطبعت الشمس التي تحمم فيها كثيراً. عيناه مفتوحتان باتساعهما، فيما انطبقت شفتاته على ابتسامة صماء، شاردة، وغسلت المياهآثار المطاردة وحمرة الدم، عدا بقايا خفيفة ظلت تحف بشراشيب الثقب لمهدب، نرى فقاقيع الهواء إذ تصاعد من داخل الثقب فتهتز الشراشيب محمرة الأهداب.

نهتف:

- هي الحياة تدب فيه هو حي حي

غير أن ثعباناً مائياً يأتي من ناحية قدمية الحافيتين ويلتف حول عنقه، ثم يمر من أمام ينيه المفتوحتين، ويعبرهما إلى البندقية الملقاة إلى جوار كفه المفرودة باتساعها يدور حولها ثم يدخل الماسورة ويسكن بداخلها.

تقول كبرانا:

- هو أبونا تمعنا في خيرة الحياة إذ ترتسم على وجهه.

وتقول الوسطى:

- هو أخونا.. تأملا العزم الذي تنطق به ملامحة.

وأقول أنا:

- بل هو ابني انظرا كم هو جميل وحالم.

وجاء يسمكة، دارت حول وجهة وألصقت فمها بالشفتين الباسمتين، فلم ندر هل تلتقط شيئاً أم تقبله. ضربت بزعانفها الماء فامتط الوجه وتعرج ثم عاد والتم. ظنناها قد عادت من حيث أتت، لنها اتجهت إلى الصدر ومست الشراشيب ومن الثقب المهدب انزلقت إلى داخله فاهتز الصدر والبطن لكن وجهه ظل على ما هو عليه، وظلت شفتاه منطبقتين على ذات الابتسامة الصماء الشاردة، ولم تتحرك كفه المفرودة على اتساعها بجوار البندقية.

بكينا وقلنا: لا يمكن أن نتركه هكذا فلنرفعه وندفنه بما يليق.

وشمرنا أكمامنا وذويل جلابيبنا وهبطنا إلى ماء البحيرة.

لكن أقدامنا عكرت الماء فلم نره.. دلينا رءوسنا حتى ابتلت ضفائر الأختين، وخضنا في الماء بكامل ملابسنا فلم نره.

نخطفنا القاع المعكر بقبضاتنا دون أن نلمسه. أخذنا الهوس فرحنا نضرب الماء من أسفل ومن أعلى وترتمي فوق عكارة القاع ونجوس بين الطحالب، نحفر ونزحف ونتقلب دون أن نجده.

في وقت واحد خرجنا إلى الحافة، الأختان مبلولتان مشعثتان، تهزنا ارتجافات البرودة والحسرة، ومن عيوننا انهمرت الدموع حارة ملتهبة إلى أن صفا الماء، فرأيناه ثانية راقداً في القاع، وعلى وجهه انطبعت الشمس التي تحمم فيها كثيراً ومن البعيد ظلت أصوات التراشقات تأتينا عالية مفزعة.

 

قاسم مسعد عليوة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات