جمال العربية فاروق شوشة
جمال العربية
قصيدة الذئب لم يرتبط اسم شاعر عربي قديم بفكرة الشعر وحقيقة الشاعر كما ارتبط اسم البحتري. وتجلى هذا المعنى في المقولة التي ترددت طويلا: أبوتمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري. ولا بد أنه كان وراء هذا التعبير الشديد التركيز في صياغته ومدلوله ما يشبه الاتفاق العام على سمات للشاعرية ومواصفات محددة لها انطبقت على البحتري، وتمثلت في شعره بأكثر من سواه. ويبدو أن ما استوقف نظر القدماء في نسيج شعر البحتري من خصائص فنية، في مقدمتها قدرته الفذة على الصياغة المحكمة في يسر وطواعية، ودون عنت أو مشقة، وانسياب شعره في موسيقية جياشة بالإيقاعات والفواصل وحسن التقطيع، وامتلاء شعره بمشاهد التلوين والتفويف والإفتنان في التصوير، وغلبة الشعرية على المعنى، والتعبير على الفكرة، هو الذي حفظ للبحتري تلك المكانة البارزة والمتقدمة التي كانت موضع حسد معاصريه، ومجال تأمل باحثي شعره ودارسيه على تعاقب الأزمان والعصور. والبحتري - كما تقول لنا أخباره الموثقة - مدين باكتشافه ثم بذيوع صيته لأستاذه أبي تمام. لكنه - على الرغم من هذه العلاقة الحميمة وهذه التلمذة الشعرية - نجا من أن يكون تكرارا أو امتدادا لمدرسة أبي تمام الشعرية، وهي مدرسة الصنعة أو البديع. بل لقد استطاع - بفضل موهبته الشعرية، وإنصاته لصوته الشعري الخاص - أن يمثل النقيض بالنسبة لشعرية أبي تمام. فأبوتمام مضى وراء احتفاله بالمعنى والفكرة، وعمق النظر، والتأمل، إلى حد تشكيل اللغة الشعرية على غير ما ألف الناس واعتادوا، واستطاع أن يفرض سيطرته على بنية القصيدة ومعمارها الفني وقيمها التعبيرية في صلابة وتحكم. وإن يكن هذا الموقف قد جنى - فيما جنى - على قدر من ماء شعره، وانسياب قصائده وتدفقها، ودفع بقارئه إلى معاودة النظر والإستبصار مرة بعد مرة بسبب غموض الدلالة وعمق منافذ الصيد الشعري وعسر الصياغة الشعرية وتعقدها. أما البحتري، فقد نجح في أن يكون صناجة العصر العباسي كله، كما كان الأعشى في نظر سابقيه صناجة العصر الجاهلي. ولم يبال البحتري كثيرا بأن تكون مراميه قريبة التأتي سهلة المتناول غير عميقة الغور. ولم يدع لنفسه شيئا أبعد من طبيعة الشعر وحقيقته كما فهمها هو في بساطة ويسر. وأسلم نفسه لشعر الطبع يواتيه في غزارة وانثيال، وفي موجات متتابعة جعلت ديوانه واحدا من أكبر الدواوين في مكتبة الشعر العربي لا يفوقه غير ديوان غريمه وخصمه اللدود "ابن الرومي".ومن شأن هذا الشعر الغزير المواتي والمتدفق أن يهدر كالسيل، وأن يجرف في طريقه - وعبر ثناياه - أو شابا وصخورا ومعادن غير نفيسة. وهو أمر لا يستوقف البحتري ولا يعنيه. إنه ماض لغايته في عزم ومثابرة. يصاحب خلفاء بني العباسي واحدا بعد الآخر، ويرقى إلى أن يكون شاعر البلاط الرسمي لهم على اختلافهم وتباينهم في الطباع والأهو اء والميول. وحين يصرع المتوكل - الخليفة الأثير لديه - ومعه وزيره الفتح بن خلقان، يغادر البحتري بغداد، ويودع القصر وصاحبه المقتول ببكائيات فريدة، ويجد في "المدائن" صورة لنفسه المزعزعة اليائسة - المتماسكة في تجلد ومجاهدة - في إيوان كسرى الذي تهدمت شرفاته وتهاوت أركانه، ها هو ذا طلل مثله، حي يحاول أن يستعصم بما حوله ويتماسك، وكلاهما رمز لمجد غارب، وفخار ذاهب، ويبدع البحتري سينيته الشهيرة، شهادة على عصر، وبكاء على الذات وافتقادا لمعنى الوجود. لقد لمع نجم البحتري في بغداد منذ عهد الخليفة الواثق، وازداد تألقه في عهد المتوكل، ثم هو يعود إلى بغداد - بعد مصرع المتوكل ووزيره - في عهد الخليفة المنتصر، ويظل متصلا بعد ذلك بالمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد حتى كانت وفاته سنة مائتين وأربع وثمانين هجرية عن ثمانين عاما. هذا الاتصال الطويل بالخلفاء، هو الذي جعل قصيدة المديح تحتل مساحة بارزة من شعر البحتري، وإن كانت مداخل هذه القصيدة تظل وحدها شاهدة على إبداع البحتري وروعة تفننه في الشعر قبل أن يصل إلى موضوع قصيدته الأساسي وهو المديح. والقصيدة التي نعرض لها الآن قصيدة فريدة في شعر البحتري كله، وفيها يعرض لموقف لم يتكرر هو لقاؤه مع الذئب، وكعادته يبدع البحتري في تقديم صورة شعرية تعرض للذئب عرضا شاملا لا يترك صغيرة ولا كبيرة. وهنا تتجلى قدرات البحتري الشاعر الرسام بالكلمات في إبداع لوحة من عيون الشعر العربي، لا يفوته لون ولا حركة ولا انقباضة ولا توتر. وترتجف لغته مصدرة صوتا يحاكي صوت المقرور تصر أسنانه من شدة البرد. ويصل البحتري إلى قمة تألقه في إبداع هذه اللوحة حين يصوغ الأمر بينه وبين الذئب على هذه الصورة الشديدة الكثافة والتركيز والإيحاء ويقول: كلانا بها ذئب. لقد تم التشخيص والحلول الشعري، وضاقت المسافة حتى أو شكت تنعدم بينه وبين الذئب الذي يصوره، بل لقد حل فيه من "الذئبية" ما يجعلنا نتأمل أبياته في ضوء إحساس جديد وهو يمزج بين وعي الإنسان وقدرة الوحش الفاتك الجسور فيه. يقول البحتري
حتى نصل إلى قوله: ونلت خسيسا منه ثم تركته وأقلعت عنه وهو منعفر فرد إن جمال هذه اللوحة الشعرية يأتي في إطار العلاقة بين الشاعر والليل، الليل مغامرة وأنس بوحوش الفلاة ورداء نرتديه ونخلعه حين تدعوالرغبة وحيث تقود الجرأة والجسارة:
والحديث عن الليل ووحوش الفلاة في الليل يسبقه حديث عن السيف المرهف القاطع، لا صاحب للشاعر سواه، هو أنيسه ومرافقه كما كان الصعاليك القدامى يعتزون بأن جل ما لهم حسام كلون الملح أبيض صارم، يقول البحتري: ولي صاحب عضب المضارب صارم طويل النجاد ما يفل له حد ويسبق كل هذا الحديث في القصيدة وقفة مشهو دة للبحتري، ورسالة يسوقها لبني الضحاك ولبني واصل، خشية أن يفهمه البعض على غير حقيقته التي يعلن عنها في غير مواربة، إنه الأفعوان المخيف والأسد الجريء والموت المداهم. وهكذا يصبح للنص الشعري قوام واضح متماسك، وبنية فنية متآزرة، وموقف شعوري يمزج بين ما هو واقعي محتمل ورمزي متصور. والآن إلى قصيدة البحتري:
|
|