أحمد إبراهيم الفقيه والهادي عبدالعالي حنيش
أحمد إبراهيم الفقيه والهادي عبدالعالي حنيش
- أنا وأنت ابنا بلدة واحدة ، يكاد كل أفرادها يشكلون عائلة واحدة ، وهذا يجعلك أكثر قربا من أى إنسان آخر وأكثر فهما لهذه العوالم التي استهلت منها بواكير أعمالى الأدبية ، والتى كان لها أثر في نشأتى الأولى ، إنها بيئة عامرة بتراث حضارى عريق ومتنوع .. فقد أثبتت الدراسات الإنثروبولوجية والحفريات الأثرية أن أكثر من سبع حضارات تركت بصماتها فوق هذه القرية الصغيرة التي نشأت بها ، والتى انتهت بالحضارة العربية الإسلامية التي منحت القطر الليبيين القدماء الذين تركوا نقوشا على الصخور ترجع إلى أكثر من عشرة آلاف سنة ، إلى الجرمنت الذين استوطنوا الصحراء وجعلوا عاصمتهم " جرمة ط بجنوب البلاد ، إلى الرومان والإغريق والفينيقيين ، إلى أقوام كثيرة أخرى جاءت ومضت كالوندال الذين بقوا مائة عام ، في حالة حرب دائمة مع أهل البلاد الأصليين . لا أدرى ماذا بقى أو لم يبق من ذلك كله ، غير أكداس المحجارة لأطلال وقصور قديمة تحيط ببلدة مزدة ، ولكن هيرودوت عندما مر من هنا منذ خمسة وعشرين قرنا ، ذكر اشياء عن رحلته تناول فيها عادات وتقاليد أهل هذه المناطق وأساليب إنتاجهم ومعيشهم ، ومازال بعض ما رآه موجودا حتى اليوم برغم أمواج التحديث والمعاصرة ، كما تحدث عن أكلات يأكلها الليبيون من بينها الشعير الذي يحمصونه ويصنعون منه ما يسمى " القليلة " و " الزميطة " ، مازال أهلنا حتى اليوم يأكلون هذه الأكلات ، ومعنى ذلك أن الماضى مهما تراجع اليوم يأكلون هذه الأكلات ، ومعنى ذلك أن الماضى مهما تراجع خلف الأفق ، فإن شيئا منه يبقى معنا ، والمنطقة كما قلت في سؤالك ظلت إلى عهد قريب معبر قوافل وتقاطع سبل ،وهمزة وصل بين المدينة والصحراء ، بين الحضر والبادية ، بين الشمال والجنوب ، وبين الشرق والغرب . فهى من مركزا اختلاط لثقافات متعددة ومتنوعة ، بعضها قادم من إفريقية الزنجية ، وبعضها قادم من المغرب وبعضها قادم من المشرق ، لتصنع بيئة غنية بفلكلورها وتراثها الشعبى . ولقد رأينا فرقا موسيقية حديثة تسمى نفسها " المزداوية " نسببة إلى هذه البلدة ، كما يمكن لمن يحضر أى عرس يقام في مزده ، أن يرى ما فيه من ألوان فنية وزخارف تدل على تراكم حضارى ، من هذه البيئة بأضوائها وألوانا وظلالها وأنغماها ، من أغانى الأفراح في الأعراس ومواسم الزرع والحصاد ورحلات الربيع ، ومن هموم رعاتها وفلاحيها وأغانيهم التي يقولونها على البئر ، أو أغانى النساء أثناء الجلوس على الرحى ، من ثقافة الزهد ، والعيش على الكفاف . وسط هذه الرياح القبلية الشرسة تشكلت الملامح الأولى لشخصيتى الأدبية وتكوينى الثقافى ، واستقيت بعض الرؤى والصور التي انعكست في كثير من بواكير أعمالى الأدبية . الفقه وجوهر الثقافة - كان الفقه هو الثقافة بالنسبة لأهلنا في تلك الأزمنة ، وكان عدد من أسلافى فقهاء ، بل إن جدى الفقية أحمد ترك مخطوطات احترقت مع الأسف الشديد في إحدى الهجمات الإيطالية على المدرسة القرآنية ، التي كانت تضم تراثه ومكتبته . علم الجينات الحديث يعطى للمسألة أهمية أكثر مما كنا نظن ، ويكشف كيف أ لهؤلاء الأسلاف تاثيرا في حياتنا لم نكن نعترف به ، كنا نعترف فقط بالبيئة والمحيط والجذور التربوية ، وقد صار واضحا الان أن الاثنين يتقاسمان مسألة التكوين المبدئى للشخصية ، العوامل الوراثية وعوامل البيئة والمحيط والتربية ، وهذا ما حدث معى ، حيث كان والدى يشجعنى على أن أحمل رسالة والده الدينية ، حيث شغلته هو ظروف الحياة عن حملها ، ووجد نفسه يشتغل بالتجارة ويترك العلم ، وبرغم إننى لم أحقق له ما أراد ، ولم أصبح فقيها كما كان يتمنى ، فإن تشجيعه لى أفلح في أن يقودنى إلى طريق القراءة والاطلاع ، وأعتقد أننى بشكل ما حققت له ما أراد ، وقد توفاه الله بعد أن رأى اسمى ينشر في الصحف ويذاع في الإذاعات ورأى الاحتفاء الذي لاقاه كتابى الأول " البحر لا ماء فيه ". مراحل مبكرة - قبل أن أنتظم في المدرسة الابتدائية قضيت عامين أو ثلاثة أعوام في المدرسة القرآنية ، مما جعلنى أجيد القراءة والكتابة وأنا في الصف الأول الابتدائى ، حيث بدات منذ ذلك العام رحلتى مع قراءة الكتب وكانت الكتب الأولى التي قرأتها تنتمى بطبيعة الحال إلى مكتبة الطفل ، ومن أهمها كتب كامل كيلانى ، عميد الكتابة للطفل ، وسلسلة أخرى اسمها المكتبة الخضراء لعطية الأبراشى ، وآخرين لعلمن بينهم سعيد العريان ، والتى كانت أغلبها مستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة وبعض القصص العالمى ، ثم انتقلت مباشرة إلى روايات جورجى زيدان الإسلامية ، وقرأت في تلك المرحلة الكثير جدا من القصص الرومانسية المترجمة التي تصدر في طبعات شعبية ، والتى قادتنى إلى بعض الكتاب الرومانسيين المعاصرين ، مثل محمد عبد الحليم عبد الله وقصص يوسف السباعى وإحسان عبد القدوس التي كانت تنشر في المجلات التي تقع في يدى في تلك المرحلة من بداية الخمسينات ، كما تعرفت إلى عبرات ونظرات مصطفى المنفلوطى ، وقصص وخواطر جبران خليل جبران ، ووقعت في يدى بعض أعداد مجلة الرسالة وأعداد مجلة الأديب . وأذكر أننى قرأت في هذه المجلة الأخيرة قصة قصيرة هزتنى ، وغرست في ذهنى نموذجا للقصة القصيرة في أرقى مستوياتها ، وجعلتنى لا أتحرر من أسرها حتى هذه اللحظة ، وكان ذلك في منتصف الخمسينيات ، وهى من تأليف الدكتور عبد السلام العجيلى ، وكان عنوانها " مصرع محمد بن أحمد حنطى " كانت هذه هي قراءاتى في المرحلة الابتدائية ن مضافا إليها بعض الكتب الدينية وكتب التراث التي كان والدى يسألنى أن أقرأها له . تحت رعاية العمة - عشت كما تعلم تحت رعاية هذه العمة ، فقد أعارتنى الأسرة لها ، لكى أكون ابنا لهذه السيدة المتقدمة في السن ، وكانت سيدة موهوبة في قول الحكايات ، إلى حد أننى لا أذكر أن ليلة واحدة مضت دون أن أسمع منها حكاية . لم يكن لدينا مذياع ولا تلفاز ، بل إن الكهرباء نفسها لم تدخل إلا في أواخر الخمسينيات ، وبعد أن انتقلت أنا إلى طرابلس للدراسة وتركت بلدة مزدة نهائيا ، حيث لم أعد إليها إلا زائرا ، ومعنى ذلك أن المصدر الوحيد للتسلية والسهر هو حكايات العمات ، فقد كان في القرية عدد من السيدات اشتهرن بإجادة قول القصص للأطفال وكنا نتحلق حولهن بالعشرات لسنمع الحكايات أو لندخل مباريات في الأحاجى الشعبية التي نسميها " خراف الأسماء " ، وكانت عمتى رقية- التي توفيت وأنا دون العاشرة- شاعرة يتناقل الناس اشعارها التي تصف فيها جمال الطبيعة ورحلة ملاقاة الربيع ، وكانت إحدى فريباتى المتقدمات في السن واسمها " ضوة " أحد المراجع في سرد السيرة الهلالية . كان الخيال جزءا من حياة القرية ، وكان هو البديل لما يمكن أن يعيشه فتى من أبناء هذه الفترة ، فهو سيجد في مزدة دارا للعرض السينمائى تقدم أحدث أفلام عادل إمام ، وسيجد دكاكين الفيديو تعيره أفلاما يعرضها في بيته علاوة على ما يأتيه على شاشة التلفاز من مادة تقدمها المحطات المحلي ومحطات الفضاء غير المذياع وأشرطة الكاسيت والتسجيل وغيرها من وسائل قتل الفراغ . لعمتى " قويتة " تاثير كبير في تربيتى ، وربما أكثر من والدتى يرحمها الله ، فقد كانت سيدة مكافحة ، قوية الشخصية ، تستطيع أن تقود القافلة وتذهب لحصد الزرع ، واقتلاع الحلفاء ، وجلب الأصواف التي تصنع منها العباءات ، كما أخذتنا أنا وشقيقى محمد إلى رحلة لمناطق الجبل الغربى أكثر من مرة ، حيث تقوم بأستئجار بساتين التين ، وتتولى جنيها وتجفيف التين الذي تعود به إلى قريتنا ، واعتقد أن المكانة الرفيعة التي تحتلها المرأة في إنتاجى الأدبى جاءت من إكبارى لهذه السيدة المكافحة التي تولت إعالة أسرتها منذ أن توفى عنها زوجها . التضاد في العناوين - الأدب يقوم على التبايتن ، وتقديم الصورة ونقيضها في نفس الوقت ، ليس إلا جزءا من أدوات الفن واستخداماته قبل أن يحمل أى حكم قيمى ، إنه جزء من التركيب الذي يحتاج إليه الفن . الفن نظرة إلى الحياة تتجاوز السطح ، وتذهب إلى الأعماق ، والمظهر لا يبنئ دائما بجوهر الأشياء ، بل أكثر من ذلك ، قد ينبئ بنقيضها ، إذن فالمر ليس عدم ثقة بالحياة ، وإنما عدم ثقة بمظاهر الأشياء ، عدم ثقة بالشكل الخارجى ، أما الجوهر فقد نختلف عن تقييمنا له ، أعنى جوهر الحياة ، إننى أحتفى في أدبى بالحب واللحظات الجميلة للحياة دون أن أغفل لحظة واحدة عن طبيعتنا البشرية وأننا مخلوقات فاني ، بمعنى دون أن أغفل عن تدابير الفناء التي " تنكتك " خلف كل شئ مثل تكتكات الساعة . - لا أستطيع أن أصنع قدر أبطالى كما أريد ، وبرغم تأثرى في بداية حياتى الأدبية بأطروحات الأدب الاشتراكة والواقعية الاشتراكية التي تطالب ذمن مطالبها الكثيرة الأخرى ، بالبطل الإيجابى ، فإننى لم استع أن أرغم نفسى على صناعة الأبطال الإيجابيين إلا في مناسبات قليلة سمحت بها البيئة والمحيط . الصدق الفنى هو أن تكون النتائج متفقة مع الدوافع والأسباب ، وأن تكون الأحداث والتصرفات مبررة ومحكومة بمنطق أكثر صرامة مما يحدث في واقع الحياة ، ولذلك فإننى فيما أكتبه أحاول أن أترك الفرصة لأبطال قصصى يصنفون حياتهم ويمضون وفق ظروفهم ويتحملون نتائج أفعالهم . الأصالة والفطرة - في القصة الأولى كنت فعلا متأثرا بالبيئة التي جئت منها ، محاولا أن انتصر لنماذجها ، وأن أصور كفاح أهلها وأن أجعل من كتاباتى صوتا ومنبرا ينقل بعض معاناتهم وآمالهم وهمومهم . ولهذا فهى على درحة من البساطة والوضوح ، هو الأسلوب الذي تميزت به أكبر أعمالى القصصية . في " امرأة من ضوء " تختلف القضية ، وإن كانت تصل إلى نفس النتيجة بطريقة أكثر تعقيدا وتركيبا . بكل القصة هنا يعانى حالة من التشتيت الذهنى ، فقد ملأت عقله وقلبه امرأة التقاها منذ عهد الطفولة ، وصارت تمثل في ذهنه المرأة الكاملة ، وصار كلما التقى أي امرأة في الدنيا وضع صورتها مباشرة أمام صورة عائشة، فتكون المقارنة طبعا لصالح عائشة. لأن لا امرأة في الدنيا لها كمال وجلال المرأة المثال التي تصورها. المرأة والماء والصحراء - ما تقوله صحيح، ولكن دون أن يأتي ذلك عن قصد وتصميم، فأنا آخر من يعلم لماذا هذا الحضور عندما أكتب ولكنني عندما أعود الآن لتأمل الموضوع بطريقة واعية ، وأقرأ أعمالي بعين المراقب ، اكتشف أن هذا الحضور في النص، جاء نتيجة الغياب في الواقع خاصة لعنصري الماء والمرأة ، ففي هذه البيئة الصحراوية التي هي وعاء هذه الحياة، والتي نعيش تحت شروطها القاسية، هناك دائماً هاجس الماء، يملأ عقل أي إنسان ، فالشوق إلى الماء والبحث عن الماء والفرحة التي تغمر البشر والشجر والأرض والحيوانات بمجيء المطر مثلا، كلها جزء من حياتنا في تلك البيئة، كذلك الشوق للمرأة في هذه البيئة الصحراوية التي فاضت شروطها حتى على المراكز الحضارية يبقى شوقاً عارماً يملأ الوجدان ، فلا بد أنني في الكتابة أحاول أن ألعب لعبة تعويضية ، وأحقق بالكتابة ما كان عصيا على التحقيق في واقع الحياة. - ما يتمناه الكاتب دائماً أن يكون كل عمل جديد يكتبه أفضل من كل ما كتب قبل ذلك. ولذلك فإنني في الوقت الذي أشكرك فيه على الإشادة بها واعتبارها إضافة على طريق تطوير الرواية العربية ، فإنه يسرني اعتبارها مرحلة جديدة في كتاباتي الأدبية، وأرجو أن تكون روايتي القادمة نقطة متقدمة لما سبقها بما في ذلك الثلاثية. لقد اجتمعت عدة عناصر لتصنع منها حالة مختلفة عن بعض ما كتبته، فهي عمل كبير، قضيت في إنجازه عدة سنوات، وعندما تم نشره ، لم ينشر كما كان يحدث مع أعمالي السابقة في ليبيا، حيث وسائل التوزيع قاصرة وعاجزة، وإنما نشرته دار نشر تملك مركزا في بيروت ومركزا في لندن وتملك مجلة هي "الناقد" تنشر فيها إشهارات عن إنتاج الدار، ولذلك وجدت رواجا، كما جاءت جائزة الإبداع في معرض بيروت لتمنح الرواية دفعة أخرى تزيد من أهتمام القراء بها، لا يكفي أن يكون الإبداع الأدبي ناجحا وراقيا، ولكن لابد من توصيله إلى الناس ليعرفوا ويقرأوا هذا الإبداع. بعيداً عن السيرة الذاتية هذا سؤال سمعته كثيراً، وكل ما أستطيع أن أقوله أن الثلاثية ليست رواية سيرة ذاتية، فهي رواية تعتمد على الخيال ، كأي عمل إبداعي آخر، ولا صلة لأحداثها بوقائع حياتي الشخصية، ولا صلة لبطل الرواية خليل الإمام بسيرتي الشخصية، عدا ما يحدث من تقاطع بين الكاتب وأبطال قصصه ، وفي هذه الحالة فكل قصة كتبتها فيها شيء من نفسي، دون أن تكون فضلاً من كتاب حياتي. ـ لا قارئ في ذهني عندما أكتب غير القارئ العربي، ولكنني أندهش عندما أقرأ أو أسمع صدى أعمالي المترجمة وكيف تلقاها قراء خارج الوطن العربي. لقد حضرت مجموعة حفلات استقبال أقيمت في لندن للثلاثية واستمعت إلى ما يقوله الناس أنفسهم عن أبطالها وأحداثها، وكيف وجد بعض الناس أنفسهم في أبطال الرواية، وحضرت في بلاد بعيدة مثل الصين ندوة أقامتها جامعة "ووهان" لرواية "حقول الرماد" التي ترجمت إلى الصينية واستمعت إلى اثنى عشر بحثاً قدمت في هذه الندوة ، وكان أحد المترجمين ينقل تلخيصاً لكل بحث وكنت مندهشاً لما رأه الصينيون ، في هذه الرواية ، وكيف تعاطفوا مع أبطالها، ووجدوا حالات مشابهة لها في وقع حياة الصينيين وعقدوا مقارنات بينها ويبن أعمال روائية صينية لم أعرفها. وذلك حدث أيضاً مع ندوة ثالثة أقيمت في "براغ " ولم أحضرها ولكني قرأت تقريراً صحفياً عنها، حيث تناول عدد من الدارسين أعمالاً قصصية مترجمة من تأليفي ، كما دار نقاش حول هذه القصص قريبة جدا من حياتهم ومحيطهم. ولا غرابة في ذلك، فما أكثر ما تواصلنا مع كتاب من مختلف بلاد العالم، دون أن نشعر بأي حواجز أو فواصل، نجلس لنشاهد مسرحية كتبها شكسبير عمرها اربعمائة عام وننفعل معها وكأننا نشاهد مشهداً حيا يدور أمام أعيننا ويصور جزءا من واقع حياتنا.
|