عودة مجلة

عودة مجلة " البعثة" الكويتية

مجلة البعثة التي صدرت سنة 1946 وتنامت لتكون واحدة من أهم مجلات البعثات الدراسية كانت مؤشراً حقيقاً على توقد فكر الشباب الكويتي، وأعاد مركز البحوث والدراسات الكويتية نشر أعدادها الكاملة لنرى معالم هذه التجربة باكتمال.

بدأت الكويت بإرسال بعثات من أبنائها إلى مصر من أجل الدراسة ابتداء من سنة 1939، وتكونت البعثة الأولى من أربعة طلاب التحقوا جميعا بالأزهر الشريف.

وفي سنة 1943 أرسلت بعثة أخرى من أجل الالتحاق بالمدارس وكان عدد أفراد هذه البعثة 17 طالبا، وفي سنة 1945، ضمت بعثة أخرى 37 طالبا.

وكان لابد أن يسعى المشرفون على هذه البعثات إلى البحث عن بيت ملائم يجمع شتات هؤلاء الأبناء ، فكان افتتاح بيت الكويت في الأول من أكتوبر سنة 1945م، وكان هذا البيت مجالا للقيام بعدد من النشاطات الثقافية والاجتماعية، وفرصة لتنمية مواهب الطلاب في شتى المجالات، ومن حسن الحظ أن المشرف على البيت وعلى طلاب البعثة آنذاك كان رجلا حكيما ، له دراية بالتربية والأدب، وله اتصال طيب مع عدد كبير من المثقفين المصريين هو الأستاذ المرحوم عبد العزيز حسين، الذي سار بأبنائه هناك إلى طريق أفادوا منها ونفعوا وطنهم بها، هذا واضح في أوائل الخريجين الذين عملوا في مختلف المجالات في البلاد ، وقادوا فيها نهضة لا تنسى آثارها .

وكان من أهم النشاطات التي قامت بها بعثة الكويت في مصر إصدار نشرة تعبر عن آرائهم وتبرز أعمالهم . فجاءت "البعثة"، تلك الصحيفة التي بدأت معهم صغيرة ثم كبرت مع الأيام حتى صارت من أهم المجلات العربية.

إشعاع إعلامي كويتي

صدر العدد الأول في ديسمبر من سنة 1946، ثم تلته ثلاثة أعداد لا تحمل تواريخ ولا أرقاما متسلسلة حتى إذا جاء العدد الخامس وهو الصادر في أبريل 1947م وجدناه يذكر التاريخ، ويذكر سنة الصدرو ، وأنها هي السنة الأولي ، ولم يضع ناشرها للعدد رقما باعتبار أن الصدور يتم شهريا فكل شهر يدل على رقم بحكم موقعه من السنة، وكان المشرفون عليها قد اختاوا وضع العبارة التالية تحت العنوان الرئيسي للمجلة وهي:" نشرة ثقافية شهرية يصدرها بيت الكويت بمصر"

كانت صفحات الأعداد الأولى من البعثة قليلة وفي حدود 16 صفحة وقد تزيد قليلا ، وبقيت على حجمها هذا لمدة تقرب من السنوات الأربع الأولي من عمرها . وكان غلافها في هذه الفترة غير ملون، ولكن الإقبال عليها كان شديدا وبخاصة في الكويت ، لقد كانت تحوي تعبير الجيل الجديد عن كل ما يجول بخاطره من أفكار، وكان الأهالي بالبلاد في أمس الحاجة إلى الاطلاع على هذا النوع الجديد من العمل الثقافي.

ظلت هذه المجلة تواصل صدورها ولمدة ثماني سنوات متصلة انتهت في سنة 1954م بعد أن وصلت إلى الأوج من حيث الطباعة والإخراج ومن حيث المستوى الثقافي، ولم تعد الكتابة فيها مقصورة على طلابي البعثة ، بل صار من المشاركين فيها عدد من الأدباء في مختلف أنحاء الوطن العربي ولا سيما مصر، حتى إذا جئنا إلى آخر عدد صدر منها في أغسطس من سنة 1954م وجدناه مليئا بمقالات متنوعة، وبقصائد جميلة وقصص، ومباحث تاريخية،ووجدنا عدد صفحاته يصل إلى اثنتين وسبعين صفحة مطبوعة بعناية فائقة ، وقد اشترك في كتابته عدد من الكتاب ، منهم من هو عضو البعثة بالقاهرة ، ومنهم من هو مقيم في الكويت ، يضاف إليهم عدد آخر من أبناء الدول العربية الذين أعجبهم نمط هذه المجلة وتفوقها، فسارعوا إلى قراءتها والكتابة فيها، فمن هؤلاء محمد رضوان أحمد، ومختار الوكيل ، والدكتور أحمد زكي أبو شادي، ومحمد عبدالمنعم خفاجي، وكلهم في مصر ، وعبدالله الأمين النعمي من ليبيا، وأحمد محمد الخليفة من البحرين، وهارون هاشم رشيد من فلسطين ، وعيس الناعوري من الأردن، ومن أبناء الكويت كتب الأساتذة عبدالله زكريا، وعبد اللطيف الصالح، ومحمد توفيق ، وعبدالله السيد عبد المحسن، وعبد العزيز الغربللي، وسيف مرزوق الشملان، وبدر ضاحي العجيل، وخالد يوسف النصر الله، وغيرهم.

لقد ظلت "البعثة" تتدفق بالمعلومات وبالمقالات والقصائد والمناقشات منذ ديسمبر 1946م حتى أغسطس 1954م ، ولم يمل أبناء الكويت في مصر من الاستمرار في دفع العمل بها إلى كل جديد حتى وصلوا بها إلى آفاق من التقدم مشهودة.

يتكون مجموع ما صدر من مجلة "البعثة" من ثماني مجلدات ، يضم المجلد الأول عدد ديسمبر من سنة 1946، واثني عشر عددا صدرت جميعها في سنة 1947م ، وكما مر بنا بدأت الأعداد الأربعة الأولي في الصدور من دون تاريخ أو ترقيم أو ذكر للمسئول عن التحرير، ، ولكن العدد الخامس الصادر في أبريل من سنة 1947م اختلف عن ذلك فتم فيه ذكر التاريخ، كما أشير إلى أن رئيس التحرير المسئول هو الأستاذ عبد العزيز حسين ، وكان غلاف كل عدد من الأعداد الثمانية الأولي ينقسم إلى قسمين: أعلاهما يحتوى اسم المجلة وصفتها وعنوان صدورها ، والقسم الأسفل محلى بصورة من الصور ذات الدلالة على مبحث من المباحث المذكورة في العدد. وابتداء من العدد التاسع بدأ ظهور الغلاف الملون المميز لمجلة "البعثة" المتمثل بالاسم في أعلي الصفحة، وبخريطة الكويت يرتكز فيها عند موقع العاصمة علم الكويت القديم ذي الرقعة الحمراء المكتوب في وسطه كلمة "كويت" وابتداء من هذا العدد سارت هذه المجلة في طريقها إلى التقدم، فتنوعت الموضوعات، وزادت الصفحات ، وأصبحت ذات قراء كثيرين يتابعونها ، وكتاب معروفين ينشرون مقالاتهم فيها، وثابرت أسرة البعثة على العمل المستمر إلى الأفضل من ناحيتي التحرير والإخراج ، ومن الجدير بالذكر أن رئاسة تحريرها قد استمرت بيد المرحوم الأستاذ عبد العزيز حسين حتى نهاية سنة 1950 م حيث انتقل من موقعه في مصر، وحل محله في رئاسة التحرير الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري إلى نهاية فترة الإصدار.

البعثة .. في بداياتها

ومن الصعب استعراض المجلدات الثمانية لأن المجال لا يسمح بذلك ، ولكني أكتفي باستعراض المجلد الأول الذي تعبر البذرة فيه عن طبيعة الشجرة الباسقة التي نتجت عنها، وهذه بعض الملامح التي لابد من الإشارة إليها: فعلى الرغم من أن مسمى "البعثة" في هذا الوقت كان نشرة فإنها كانت تحمل صفة المجلة المتكاملة وتضم بين غلافيها الكثير من المباحث المفيدة، وقد نم المجلد الأول عن النشاط الثقافي الذي تميز به أبناء الكويت في ذلك الوقت، فقد كانوا يشاركون في كتابة العديد من المقالات، ويحاول كل منهم أن يثير فيما يكتب أمور لها علاقة بتخصصه الدراسي أو بما يتمناه لوطنه، أو غير ذلك مما يعن له من أمور. وتنوعت الكتابات في هذا المجلد فمنها المحلى الذي يتحدث عن أمور تتعلق بالكويت وأهلها مثل الذي كتبه الأستاذ عبد الله أحمد حسين عن صقر الشبيب تحت عنوان:" العبقري المعتزل" ومحمد خلف عن الكويت والصناعة ، ومحمد الفهد عن مشكلة ماء الشرب في الكويت وعلاجها ، والمرحوم حمد الرجيب عن المسرح وأثره في المجتمع ، وعبدالرزاق الخالد عن طرق المواصلات في الكويت، ويوسف العدساني عن الكويت بين الماضي والحاضر، ومعجب الدوسري عن نشأة فن الرسم وتطوره، وعدد كبير من المقالات المتنوعة الأخرى.

ومن تلك الكتابات ما لا يتعلق بالشئون المحلية، ولكنه يمثل مباحث عامة في التاريخ، والاجتماع ، والاقتصاد بالإضافة إلى الشعر والقصة . وكان أبرز ما فيها من أبواب هو باب ندوة البعثة الذي يستعرض فيه مجموعة من أبناء البعثة موضوعا من الموضوعات المهمة يتناقشون حوله، ثم يلخص مدير الندوة وعادة ما يكون هو الأستاذ عبد العزيز حسين ما دار من نقاش ويبلور النتيجة النهائية لتلك الندوة. ومنذ المجلد الأول نجد نشاط طالبين بارزين كان لهما دور كبير فيما بعد في الحياة الثقافية الكويتية هما المرحوم الشاعر أحمد العدواني الذي كانت أشعاره تزين صفحات البعثة على الدوام، والمرحوم حمد الرجيب الذي داوم على نشر مباحثه فيها عن المسرح، بالإضافة إلى مشاركته في عدد من الأبواب الثابتة، وقد كسبت الكويت بهذين الرجلين الشيء الكثير. ولا ننسى الأبواب الأخرى التي تتحدث فيها المجلة عن أحوال الطلاب، ورحلاتهم ، ونشاطاتهم المتعددة ، وعن الرياضة، وعن أخبار الكويت بصفة خاصة . وفي بداية العدد الأول يقول الأستاذ عبد العزيز حسين المشرف على البعثة ورئيس تحريرها:" وإن البعثة لتدرك أنها لن تستطيع الإسهام بعمل خارج عن نطاقها مالم تبدأ بنفسها فتشيع بين أفرادها النظام النابع من داخل أنفسهم، وترسخ أسس الأخلاق الحميدة في سلوكهم الاجتماعي ، وتعمل على أن يتسع أفقهم الثقافي، ومحيطهم العلمي، وفي سبيل كل ذلك، كانت إحدى الوسائل التي اقتنعت بصلاحيتها أن تصدر هذه النشرة الثقافية ، لكي يودع فيها الطلبة ثمارعقولهم ، ونتاج تجاربهم ، وستكون هذه النشرة إن شاء الله الوسيلة الناجحة لتعريف أبناء الكويت بأحوال فلذات أكبادهم في مصر".

البعثة .. التي حظيت بالاهتمام

ولقد حققت "البعثة" هذه الأهداف ، وزادت الكثير، إذ صارت ذات مستوى ثقافي راق يتابع الكثيرون من المهتمين في هذا المجال كل أعدادها، ويحرص عدد منهم على الكتابة إليها.

وفي العدد الأول- أيضا- إحدى بدايات الشاعر الكويتي أحمد العدواني التي نشرها تحت اسم "براءة " والتي يقول فيها:

تعالي نكلل أفق المنى

 

بأحلامنا الغرر الباسمة

تعالي نجدد عهد الهوى

 

ونوقظ أشواقنا النائمة

علام تأبيك ؟ مم الصدود ؟

 

وما هذه النظرة السادمة ؟

أمن فرحة بي أم ترحة

 

برؤياي ، حيرتك الناجمة؟

وهي قصيدة تنبىء عن شاعر مجيد ، صارت له منزلته في المسيرة الأدبية الكويتية.

كما نشرت "البعثة" في العدد الثاني قصيدة للشاعر الأستاذ عبد المحسن الرشيد يقول فيها:

أنا شاعر الوادي عليّ لأهله

عهد الوفاء على مدى الآباد

أهوى الكويت وإن جفاني أهلها

فالقوم قومي والبلاد بلادي

وقد كان الأستاذ عبدالمحسن في ذلك الوقت مدرسا يؤدي دوره في خدمة وطنه، وكان شاعر اقوي الشاعرية رقيق العبارات . وهكذا تتدرج "البعثة " في تقدمها عددا بعد عدد، وسنة بعد سنة، حتى تصل إلى أوجها في نهاية أيامها فتتوقف عند العدد السادس من السنة الثامنة وهي في غاية النضج والقوة.

البعثة.. تعود من جديد

تناثرت أعداد مجلة "البعثة" بين الناس، وضاع منها الكثير ، وبدأ النسيان بنسج خيوطه حولها حتى لم يعد يتذكرها ممن عاش أيامها إلا العدد القليل ، فما بالك بمن لم يعاصرها؟

وبعد مضي ثلاث وأربعين سنة على توقفها جاء مركز البحوث والدراسات الكويتية ليحييها عن طريق إعادة طباعة أعدادها كاملة، وقد فعل خيرا، وأعاد إلى الأذهان ذلك العمل الثقافي المهم الذي قدمه أبناء الكويت، وهم في بداية النهضة، فعبروا من خلاله عن روح وثابة ، وقدرة على تمثل الجديد من أمور الحياة المختلفة ، وقد حرص المركز على أن يقدم البعثة في أحسن صورة، فطبعها طبعة راقية، بمجلداتها الثمانية التي سبق أن أشرنا إليها، وأضاف إليها مجلدا تاسعا ، ضم القسم الأول منه مقدمة ضافية للأستاذ عبد الله زكريا الأنصاري ، بصفته آخر رئيس تحرير لها، وضم القسم الثاني فهارس تفصيلية هي فهارس الإعلام والأماكن والموضوعات، فجاءت بثوب قشيب، وأصبحت في متناول الجميع من حيث الاقتناء بسهولة الحصول عليها، ومن حيث الاستفادة مما فيها بوجود تلك الفهارس . فالشكر أولا لأولئك الرجال الذين مثلوا وطنهم خير تمثيل ، وتركوا لنا هذه الذخيرة الحية ، التي أصبحت جزءا مهما من تاريخ الكويت، وثانيا لمركز البحوث والدراسات الكويتية الذي حرص على هذا الكنز الكويتي الثمين والجميل فقدمه في أحسن صورة، وأعاد إلى الأذهان تلك الأيام العامرة بالنشاط، والعمل من أجل رفعة الوطن العزيز.

 

يعقوب يوسف الغنيم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف المجلة





صفحتان من مجلة البعثة





عبدالعزيز حسين





د. يعقوب الغنيم