قهوة السعادة محمد سليمان

قهوة السعادة

في المساء يهل بطوله الفارع، كأنه خارج لتوه من مستوقد فول، يكاد الهباب يعلوه من ساسه لرأسه، عمره يجاوز الخمسين، تشي قسمات وجهه بوسامة غابرة برغم الهباب، وأبدا لا تفارق الطاقية الكالحة رأسه، يثبتها بأناة من لحظة لأخرى كأنها تاج يخشى سقوطه.

يحيي الجمع بصوته الأجش، يرحبون به في مودة ويفسحون له مكانا بينهم، يبادر صاحبه القديم بمناداة صبي المقهى طالبا له الشيشة المعتادة، وتأخذ الحماسة أحدهم فيضيف، وقهوة مضبوط.. وتكتمل القعدة بمجيء مصطفى، وتأخذ طابع المرح فور أن يشهق شهقته المعتادة، كمن يزدرد عائقا يقف في زوره ويردد عبارته الشهيرة غير الموجهة لأحد.

- قرد يسليك ولا غزال ينكد عليك..

وللمرة المائة يضحكون، تتداعى الحكاية القديمة، عندما تزوج مصطفى من امرأة بارعة الجمال، حرقت دمه وأذاقته المر، فلم تمض بضعة شهور حتى فاض به الكيل وطلقها، ثم تزوج من امرأة أخرى تكاد لا تملك من صفات المرأة إلا شعرا ناعما منسدلا، ومع ذلك جعلته لا يفرط فيها، لا لشيء إلا لخفة ظلها، ولم يجد من ثم خيرا من هذه العبارة لا يفتأ يرددها بلا ملل " قرد يسليك و.."

- مراحب يا درش ..

- أهلا يا مصطفى. أوحشتنا..

ويرد مصطفى تحية الأصدقاء، يكون قد أوشك على الانتهاء من حجر الشيشة، فيشهق ليقول:

- "هات يا بني حجر تاني، وشوف طلبات الجماعة" .. والجماعة لا يقل عددهم عن خمسة أو ستة أفراد، وليس مصطفى أهبل أو عبيطا حتى يجازف بطلب كل هذه المشاريب على حسابه مرة واحدة، كلا فالمسألة محسوبة تماما في ذهنه وفي أذهانهم، وهو يعرف أنهم جميعا إما تاجر ميسور أو صنايعي كسيب أو مزين يكسب من الهواء أو موظف بالمعاش، تشكيلة عجيبة حقا، شبوا في حي واحد وظلوا مرتبطين ببعضهم البعض طوال العمر، برغم اختلاف مشاربهم وحظوظهم، وعندما يفعل ذلك مصطفى، فإما أن يكون الهدف رد ديون سابقة، أو إدانة بعضهم، وهم بالطبع الذين يبادرون بسداد الدين ما إن يهل.

يغرق الجميع في احتساء المشاريب وتدخين المعسل لتحلق فوق رءوسهم حلقات الدخان في لحظة صمت سرعان ما تبددها شهقة مصطفى وهو يقتفي بنظراته عجيزة امرأة فيقول:

- خليها على الله.. عزبة في الشرقية، وعوامة في إمبابة، وعمارة في محرم بك.!

وتخونه أنفاسه القصيرة بسبب الدخان، فيعالجها بشهقة أخرى يردف بعدها:

- وكله راح.. لم يبق لي إلا الحصان والحنطور من كل هذا العز.. الله يرحمك يا ست زينب!!.

فإذا ما تصادف وجود غريب على مقربة منهم نظر إليه بسخرية موقنا باختلاله، أما هم فيعرفون أنه في شبابه كان يعمل لذهبية الست زينب الوكيل زوجة أحد الزعماء المشهورين، وقد ورث عنها العربة والحصان ويهز "عم رشاد" - صديقه القديم، رأسه كمن يشاركه حسرته ليقول: - نعم يا سيدي.. الله يرحم..

ويرين الصمت بعض الوقت، ليقطعه أحدهم، وهو موظف السكة الحديد بالمعاش:

- وأين كنت يا مصطفى طوال الأسابيع الفائتة..

ويدرك مصطفى على الفور الغرض من السؤال، فيحاول أن يفوت الفرصة على صاحبه، ويلوي رقبته قائلا:

- كله بأوان.. ما ينتقل قدم عن قدم إلا بأمره!!

لكن صاحبه يصمم على مشاكسته:

- تمام، المهم احك لنا بالتفصيل كيف سرقوا منك المحفظة.

ويرد باقتضاب، في محاولة يائسة لتجاوز هذه الواقعة التي تنغص عليه حياته:

- كنت نائما في الجنينة.. وحصل ما حصل..

ويكتم صاحبه ضحكة أوشكت أن تفلت منه، ليسأل في خبث:

- ألم يسرقوا شيئا آخر؟

وهنا لا يجد مصطفى مفرا من مشاركتهم فيشهق قائلا:

- يا حسرة.. وهل يوجد شيء آخر!

وتنطلق الضحكات .. ويهل صبي المقهى لتتوالى الطلبات الفردية هذه المرة. يسرح أحدهم. يتحاور البعض في شئون الكرة ومشاكل الجمعية الاستهلاكية، أما مصطفى فيأخذه الهم ويغوص به في دوامة من الشعور باليأس والضياع، ثم لا يلبث أن يهز رأسه في لا مبالاة غامضة المعنى. بليت قدماه طوال الأسابيع الفائتة ما بين إدارة الرخص بالمحافظة، والسجل المدني الذي تتبعه بطاقته في مصر القديمة، فلم تكن كارثة السرقة كامنة في ضياع المحفظة بما فيها من نقود قليلة، وإنما في ضياع البطاقة ورخصة سواقة الحنطور معها، دوخوه بطلباتهم التي لا تنتهي: محضر رسمي بواقعة السرقة، استمارات، دمغات، ضامنين، ثم المصيبة الكبرى المتمثلة في ختم النسر، من أين له ختم النسر وأصحابه ليس فيهم غير موظف على المعاش منذ عشر سنين؟ وضاع بالتالي ما لديه من مال قليل كان يدخره للظروف، واضطرت زوجته للسلف من أختها لتصرف على البيت والأولاد بعد أن طال بها الانتظار، حتى الحصان أصابه اليأس والهزال، وبدأ يتململ في وقفته التي لم يتعودها، وجعل يصدر أصواتا تنم عن ضيقه بسجنه الاضطراري. ولم يجد مصطفى بنفسه الجرأة على الاقتراب من المقهى طوال هذه الأسابيع، وإلا فضح نفسه أمامهم وتمرمغت كرامته في التراب، وهل يملك غيرها؟

وبرغم حرصه على ألا يخرج في المساء حتى لا يمسكوه "تحري" فقد بلغ به الضيق ذروته في تلك الليلة وقرر الخروج وقادته قدماه إلى الشارع العمومي حيث يوجد المقهى، فقد شده الحنين لمجرد رؤية أصحابه عن بعد، وكانت الكارثة التي انتهت به إلى ثلاث ليال سوداء في الحجز في انتظار من يضمنه، برغم أنه كان على بعد مسافة قصيرة من المقهى، وكان يمكنه الاستنجاد بأصحابه، لكنها كرامته واعتزازه الشديد بنفسه!! وحتى أخرجته زوجته بضمان أحد جيرانه في الربع الذي يسكنه. وأبدا لم يفارقه الإحساس بالسجن برغم خروجه، بل زاد إحساسه به، وأيقن أنه قد خرج من سجن صغير إلى سجن كبير بلا جدران.

لكن ما حدث لم يثبطه دون الخروج أثناء النهار سعيا وراء الرخصة والبطاقة، تلك هي بلوته الكبرى التي لا مفر منها، وإلا مات جوعا هو وأسرته، ناهيك عن نظرات زوجته التي تحاصره طوال بقائه في الحجرة. برغم معرفتها أن ما حدث كان مجرد مصادفة يمكن أن يتعرض لها أي إنسان، سواء في الجنينة أو الأتوبيس. مرة أخرى بلغ به الضيق ذروته، فجازف بالخروج قرب السابعة مساء. راح يجوس الدروب الضيقة، ويستعيض عن أصدقاء المقهى بتحية من يعرفه ومن لا يعرفه، حتى قادته قدماه إلى ميدان الظاهر دون وعي، كان التعب قد بلغ به مبلغا كبيرا، فانتحى سور المسجد الجانبي، وكان ذلك قبيل صلاة العشاء، وأخذته إغفاءة فاستسلم لها، فما معه شيء يحرص عليه من الضياع.. ولا يدري كم من الوقت فات، لكنه عندما أفاق كان المسجد قد أغلق أبوابه، ولاح له شبح شرطي يمضي بعيدا فانتفض واقفا، باحثا عن ساتر يقيه، وما كاد يفعل حتى طرق أذنيه رنين نقود تتساقط من حجره وورقة بجنيه لمحها بعين الصقر تهم بالطيران، فانكفأ عليها كمن يصيد أرنبا بريا!! ثم راح يجمع النقود الفضية التي تناثرت، ومضى من فوره إلى مقهى السعادة حيث أصدقاؤه.

- مرحبا يا درش.. هل هلالك أخيرا..

وأضاف ثان:

- وماذا تنوي عمله في حكاية الرخصة والبطاقة؟

في المرة الأولى أوجعه السؤال، لكن جو المرح والأصدقاء، والكنز الذي هبط عليه الليلة من السماء، جعلاه يبتسم قائلا بلهجة ساخرة:

- ولا يهمك.. كله فداك.. المهم الستر!!

نعم.. المهم الستر، فما حاجته إلى الرخصة والبطاقة ليمارس هذه المهنة الجديدة؟! الآن يمكنه الصرف على بيته وأولاده، بل والاستمتاع يوميا بعد آذان العشاء، بالجلوس وسط أصدقائه، ولا من دري ولا من شاف، ولا شك أن رواد المسجد سوف يعتادون رؤيته ويعطونه مما أعطاهم الله. وتدهمه نوبة سعال مباغتة، يشهق على أثرها، ثم يستجمع شيئا ما في حلقه، سرعان ما يطلقه قذيفة هائلة تحمل كل ما يحتدم في صدره من آلام وعذابات، وشهقة ثانية يستعيد بها توازن أنفاسه ليقول ضاحكا:

- شف يا عم رشاد.. قرد يسليك ولا غزال ينكد عليك..

لكنه يبادر على الفور كمن تذكر أمرا:

- تصور القرد كان سيتحول إلى غزال .. لكن ربك سترها من عنده..

ويحملق فيه عم رشاد باستغراب، لكنه يلوي رقبته ويزعق قائلا لحظة مرور امرأة:

- ولا يهمك.. عزبة في الشرقية، وعوامة على النيل، وعمارة في محرم بك.. هاها.. وكله راح..

وقبل أن ينطق بكلمة "راح" يكون قد أطلق بفمه صوتا حادا وهو يضم شفتيه بشدة، ويثير ضحكهم ثم لا يلبث أن يفرد قامته الفارعة ويقف قائلا:

- تصبحون على خير، فقد تعبت جدا هذه الليلة.

- مم يا ترى؟

- من الدخان يا ناصح!!

ويمضي مصطفى، وفي طريق عودته لا ينسى أن يبر زوجته التي طال صبرها، فيعرج على دكان الحلوى والبسبوسة، ثم يقرر في نفسه أن يصحو مبكرا ليشتري علوين من البرسيم وبعض الدريس الذي لا شك طال شوق حصانه إليه.

وانتظم حضور مصطفى إلى المقهى كل مساء كما لم يحدث من قبل، ولم يعد يبالي أن يرد له صاحب مشروبا أو حجرا أو لا يرد، بل إن شعورا بالتفوق كان يراوده كلما دان أحدهم، أما البطاقة والرخصة فلم يعد أمرهما يشغل باله، بعد أن ذاق في سبيلهما الأمرين، ولا تزال العبارة الجديدة تتردد فوق شفتيه كلما سأله أحدهم عن أي منهما..

- سيبك.. المهم الستر.

ثم يحلو له أحيانا أن يتمادى في سخريته فيردف:

- إيراد العزبة كاف والحمد لله.

وتحاصره نظرات الدهشة، وربما الشك في قواه العقلية من جانب بعض الأصحاب، لكنه لا يبالي.

ثم اختفى مصطفى فجأة قرابة الأسبوع، لم يثر اختفاؤه دهشة أصحابه، بعد أن حدسوا أحد أمرين، إما أنه استطاع استخراج الرخصة والبطاقة، ومن ثم فإنه يعود من عمله مرهقا، ولا يمكنه المجيء إلى المقهى، أو أنه ما زال يلهث وراءهما، ويعود أيضا متعبا، ثم يرقبون مجيئه ذات مساء كالعادة. وفي محاولة هزيلة لإضفاء جو الضحك وسخرية المفتقد بغيابه، فقد يردف أحدهم قائلا:

- ألا يجوز أنه مشغول بتحصيل إيراد العزبة.؟

وتطول الغيبة هذه المرة، ويلف القعدة صمت ثقيل، ويسري الشعور بالملل إلى نفوسهم، وحتى لعب الفأر في عب صاحبه القديم "عم رشاد" فقال بلهجة قلقة:

- لا يا أسيادنا.. هذا لا يصح.. ألا يجوز أنه مرمي في المستشفى ونحن لا ندري؟؟

ويعارضه أحدهم قائلا:

- يا أخي فأل الله ولا فألك.. لا تبشر على الرجل.. وما رأيك لو لمحناه قادما الآن..؟

- عموما لا تقلقوا كثيرا، فالقرش الماسح لا بد أن يعود لصاحبه.

لكن "عم رشاد"لا يعجبه الحوار الدائر، فيهتف قائلا:

- كله جائز .. لكن هذا لا يمنع من السؤال عنه.. أنا أعرف الربع الذي يسكنه.. عن إذنكم.. وتستغرقهم الثرثرة مرة أخرى في ظل سحابات الدخان المتصاعدة من أنوفهم وأفواههم، لكن نظرات القلق سرعان ما تطل من عيون بعضهم بعد أن طال غياب الأسطى رشاد، ويهم أحدهم بالكلام في اللحظة التي يظهر فيها "الأسطى رشاد" مقبلا عليهم، وما إن يدن منهم حتى يغمغم بلهجة متأثرة:

- البركة فيكم.. مصطفى تعيشوا أنتم.. مات من أسبوع ونحن لا ندري..

وتعتصره النظرات الذاهلة، كأن أمر موته لم يكن واردا، وبلا وعي يهتف أحدهم:

- كيف؟

- وجدوه ملقى بجانب السور القريب من مسجد الظاهر، أثار نباح أحد الكلاب انتباه المارة فاكتشفوه.. ويختفي من الوجود مصطفى.. وما زال الصحاب يلتقون كل ليلة كعادتهم، لكن زهمة غريبة تحط فوقهم، بعد أن فقدوا شيئا ثمينا، كانوا بلا شك في مسيس الحاجة إليه. .

 

محمد سليمان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات