محمد عوض محمد .. أديبا عمر الفاروق

محمد عوض محمد .. أديبا

لما كنت أعرف مؤلفاته الجغرافية حق المعرفة، فهي بمنزلة اللبنات الأولى، في المكتبة الجغرافية العربية الراهنة، فقد أخذني البحث عن إنتاجه الأدبي، إلى دار الكتب بالقاهرة. واكتشفت بعد حصر البطاقات التي تحمل اسمه، أن القسمة في المحصلة، تكاد تكون مناصفة، بين الجغرافيا والأدب.

ويروي بعض معاصري عوض، أن ميله للأدب قد بدأ مبكرا، وأنه تجلى خلال المرحلة الثانوية في المنصورة شاعرا، وأنه قد اشتهر وهو في مدرسة المعلمين العليا، بقصيدة وطنية، قبسها من وهج ثورة 1919، وغدت نشيدا لطلابها، وخاصة بعدما اعتقل، لقيادته مظاهرات المدينة العارمة، وحين نشرت هذه القصيدة في الرسالة بعد ذلك، علق عليها طه حسين بقوله : "إن شعر هذا الجغرافي، لا تنقصه الروعة"، وستبقى تعليقات طه حسين بعد ذلك عن أعماله، علامات بارزة في مسيرته، بل إنهما كونا معا، ثنائيا مؤثرا، داخل الجامعة، وفي تاريخ الجامعة، ويذكر عوض عن تطور علاقته بالأدب: "بعد أن تخرجت سنة 1920، ابتعثت إلى جامعة لندن للحصول على درجة الدكتوراة في الجغرافيا، وبعد عودتي أثقلني عبء التدريس في الجامعة، فتراجعت عن هواية الأدب قليلا، ثم عاودتني مع ظهور الرسالة، واختياري عضوا في مجلس إدارتها وتحريرها، فأطلقت العنان مرة أخرى لهوايتي الأدبية". غير أنه خلال فترة انقطاعه، عكست مؤلفاته الجغرافية مكنونه، وذلك من خلال مرآة اللغة، هذه التي ميزته محاضرا ومؤلفا، ولم يكن عشقه العربية، نابعا من ذاته الأدبية فقط، بل ولأنها أساسا، وعاء عروبته التي يعتز بها، ويقدم سليمان حزين شهادته عنه محاضرا: "كان يتعصب للعربية أشد التعصب، كان عادة إذ ذاك أن يعود الأستاذ من إنجلترا أو فرنسا، وأن يحدث تلاميذه في قاعة الدرس بلغة مختلطة، كادت تفقدنا الثقة بأن لغتنا قادرة على أن تصبح وعاء للثقافة الحديثة، ولكن عوض لم يكن حريصا على اللغة فحسب، وإنما أن يربينا أيضا عليها، وأن يحاسبنا على كل خطأ فيها وفي حقها، وأن ينحت أمامنا المصطلح العربي، لكي يبعث في نفوسنا الثقة بتلك اللغة"، وسرت لغته في مؤلفاته، في أسلوبية تخصه وحده، وضعتها في مكانة عالية، يرمز لها كتابه الثمين "الاستعمار والمذاهب الاستعمارية"، ورشحته مكانته، لأن يشارك في وضع ميثاق الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان، بل وأن تعهد إليه بوضع الوثيقة الخاصة بالرق، بعدما كتبه عن استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، في كل زمان ومكان، وبذا خرج عوض كما يقرر حزين "عن نطاق أن يكون مدرسا في الجامعة، إلى نطاق أن يصبح معلما للناس".

وحين عاود الكتابة في الأدب والثقافة، بعد انقطاعه وجدت مقالاته ترحيبا واسعا، وأثارت من الجدل الشيء الكثير، وتأكدت جدارته مع ترجمته المبدعة لفاوست، هذه التي كتب عنها طه حسين في مقدمته لها: "أشهد، لقد بهرتني الترجمة العربية، فما ينقضي إعجابي بها، وما أجد إلى تحقيق الثناء عليها سبيلا" ويعبر د. محمد أحمد سليمان عضو مجمع اللغة العربية عن رأيه في عوض أديبا، بقوله: "وعوض أديب كبير، وكاتب ناقد، له قلم مرموق، وأسلوب رشيق، لا يخلو من فكاهة، وإن كانت فكاهته من ذلك الطراز الهادئ الرزين، وله في كتاباته خيال مبدع وقصص ممتع "، ويضيف: "وعوض شاعر مطبوع، وإن لم يذكر الناس اسمه بين الشعراء، ولكنه من أقدر بني زمانه على النظم، ومن أعلمهم بأوزان الشعر"، وعن اللغة: "وعوض عالم لغوي، خبير بالنحو والصرف، متمكن من قواعد اللغة، وكثير غيرها من اللغات"، ولم يكن غريبا والأمر هكذا أن ينتدب لتدريس الأدب في معهد الدراسات العربية العالمية أي تقريبا في عرين اللغة، حيث يذكر عن هذه التجربة "وبديهي أن تكليفي بإلقاء محاضرات في مثل هذا المعهد ليس بالأمر اليسير، ويزيد من صعوبته أن يضطلع به شخص لا يعدو أن يكون من الهواة في ميدان له فرسانه النابهون"، وأنتجت التجربة كتابين بالغي القيمة، عن فن المقالة وفن الترجمة، وقدم ذلك، حيثيات تعيينه عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية، إلى نهاية حياته.

وقد بدأت علاقته باللغات الأجنبية أيضا مبكرا، ويذكر بعض معاصريه، أنه قد أجاد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، أثناء فترة تعليمه، وأتقن الأولى كأهلها خلال بعثته، وهيأت له سنوات نفيه إلى مالطة، مع سعد ورفاقه الفرصة لتعلم الألمانية من بعض الأسرى الألمان بها، وأتقنها إلى حد مكنه من ترجمة فاوست شعرا كأصلها، موظفا في ذلك موهبتيه في الشعر واللغة، ثم أضاف لها، الفارسية ثم التركية، ويظهر ذلك بكل وضوح فيما يورده في كتابه "فن الترجمة" من أمثلة مقارنة، تبحث في أدق التفصيلات الفنية المتصلة بكل لغة منها، وعن إمكانات مفرداتها وظلال كلماتها الموحية وما تنطوي عليه عباراتها المركبة من أسرار لا يدركها إلا متضلع بها، بل وفيما يكشفه من أخطاء في ترجمات أهلها، يذكرها مفصلة موثقة، ثم يقدم بدائلها كما يجب، فإذا بها مجلوة في دلالاتها الأصيلة، بعد أن أزال عنها تشوه معانيها أو اعوجاجها، وأظن من بعد أنه قد آن تقديم ما سبق الوعد به من إشارات مكثفة لبعض أعماله، وذلك في مجالي المقالة الأدبية والترجمة، وذلك لضيق الحيز عن استيعاب غيرهما.. بصورة مرضية.

المقالة الأدبية

يتمثل إنتاجه في فن المقالة الأدبية.. في كتابين هما "من حديث الشرق والغرب"، و "ملكات الجمال"، وذكر في مقدمة أولهما: "هذه أساطير وخاطرات.. ملكت على الفكر سبله، وما برحت تلح.. وتحدق به من كل صوب.. تريد أن تثبت وأن تستقر.. فلم يجد الفكر عنها مصرفا.."، ويؤكد طبيعتها في مقدمة ثانيهما: "هذه مجموعة أخرى.. تشبه المجموعة الأولى.. التي نشرتها منذ نحو العشرين عاما، تشبهها في تنوع الموضوعات وتعدد الصور، بعضها قصص وبعضها من قبيل الأساطير.. والبعض أحاديث أو مقالات، وتختلف عن سابقتها. في أن هذه ذات نزعة فكاهية غالبة"، وتميل الصياغة في المجموعتين.. إلى فن القصص كما ذكر، غير أن الشروط الدقيقة لفن القصة القصيرة خاصة.. يجعلها قريبة منها.. دون أن تنتسب لها إلا تجاوزا، ويعود بها إلى نبع المقالة الأدبية.. في أعلى مستوياتها.

ويتكون كتاب "ملكات الجمال"، من 31 مقالة، معطرة بسخرية عالية، وهو بداية.. لا يعتذر عن عنوانه.. الذي قد يراه البعض.. أقل وقارا مما ينبغي لمثله، ويتخذ منه رمزا.. لكل صراعات الحداثة التي يغمرنا الغرب بها.. ويشدنا بها بخيوط حريرية إلى تبعيته، السخرية إذن مدخله.. لدعوة ثقافية.. لا تزال ملحة قائمة، يعلو بها.. ويبتعد عن المباشرة، ويعدو إلى الأسطورة.. ليؤصل ظاهرة ملكات الجمال "لعل أقدمها ما روي عن تنافس فينوس ومنيرفا وهيرا - وهن من الإلهات - أيهن أبهى وأجمل، وجعلن الحكم بينهن فتى شريرا طائشا، قدمت له كل واحدة منهن رشوة.. لكي يحكم لها "، ويثب إلى الحاضر : "أما اليوم، فإنهن يستخدمن أسلحة أخرى.. أهمها الأظافر الحادة.. وجذب الشعر وتمزيقه، ويستخدم الأول لتأديب الحكام ، والثاني للانتقام من تلك الخائنة.. التي فازت في المسابقة "، فإذا ما أجلنا الحديث مؤقتا.. عن مقالته " ملكات الجمال ".. التي يحمل الكتاب عنوانها.. لنجعل من مقتبس منها.. مسك الختام لهذا الفن من إنتاجه، وأيضا لنتصفح - من باب الإحاطة - بعض عناوين مقالاته الأخرى به، فإن أول ما يستلفت النظر.. عناوينها الدالة على أسلوبه، وذلك من قبيل ( ذنب أراد أن يكون رأسا، الظلم عن طريق العدل، تربية الأطفال لآبائهم، شر الأمور الوسط، استيست العنز، تكاثر النساء بعد الحرب، لو أن المرأة تسوس العالم، السمك ينقذ الموقف ) وغيرها وغيرها، فالعنوان مدخله.. أو مدخله عنوانه، يجذب إليه القارئ بطعمه.. ونادرا ما تفلته صنارته، ولست أشك أن ما ذكر منها.. قد أثار شهية البعض.. لقراءتها في كتابه، وهيهات لهذه التحية في احتفاليته.. أن تشبع ذلك بالعديد من الأمثلة، ويكفي الآن ربما.. ذكر هذا المقتبس الذي سبق الوعد به.. من مقالته "ملكات الجمال".. بل ومع اختصاره.. "لم يكن بد.. بعد أن كثرت ملكات الجمال هذه الكثرة الهائلة.. أن تتعدد أنواعها وأشكالها، فأصبحت هناك ملكات لبعض أعضاء الجسم.. مثل ملكات الساق والأنف والأذن، وملكات لبعض السلع.. مثل القمح الأرز والبامية، ومصر كنانة الله.. الوثابة الناهضة.. التي دأبت على محاكاة الرقي والتقدم في العالم كله.. لا ينبغي لها أن تتخلف عن ركب الحضارة، ولا يستطيع مكابر أن ينكر.. أنه من المستحسن أن تكون لدينا ملكة للفول المدمس، ولا ينبغي لمن تتربع على هذا العرش.. إلا أن تكون متمتعة بقوام يشبه قدرة الفول.. حتى يكون فوزها عن جدارة واستحقاق".

تجربة الترجمة

وتعد تجربة " عوض " مع الترجمة، أهم جوانب تجربته الأدبية عامة، وذلك بما تضمنته من أعمال مهمة.. شعرية ونثرية معا، وربما أيضا بحكم تعبيرها الأوفى عن خصائص لغته الأدبية. التي ميزته عن غيره، وتتجلى من بينها فاوست.. باعتبارها درة ما ترجمه، وقد كتب طه حسين لها المقدمة.. كما سبق، نقتبس منها ما يلي: " وقد أخبرت أنه يترجم فاوست من الألمانية مباشرة، وقد أخبرت أنه إذا فرغ من قطعة.. واستوثق من حسن الملاءمة بينها وبين الأصل الألماني، قابل بين ترجمته العربية.. وتراجم مختلفة في الإنجليزية والفرنسية، ليطمئن إلى حسن فهمه وصحة نقله وقد قرأت الترجمة العربية.. وتراجم أخرى في لغات أخرى لفاوست، وأشهد لقد بهرتني الترجمة العربية.. فما ينقضي إعجابي بها "، وقد حرص " عوض " على أن يجعل منها إضافة للعربية قائمة بذاتها.. وذلك مع نقله لها.. شعرا كأصلها، مصداقا لما ذكره في كتابه " فن الترجمة " " إن أي ترجمة لأي أثر أدبي.. يجب أن تكون هي ذاتها أثرا أدبيا في اللغة المترجم إليها، فهذا هو المثل الأعلى الذي يجب أن تنشده كل ترجمة أدبية " ، ويشير طه حسين في مقدمته المذكورة ( الطبعة الأولى سنة 1929 ) إلى أهمية فاوست " لقد ترجمت إلى اللغات الأوربية كلها، وأثرت في الحياة الفنية لهذا العصر.. آثارا بعيدة ". ويذكر عوض عن أبعاد العمل.. " فاوست عمل أدبي ضخم، أمضى جوته في تأليفه نحو 60 سنة، يتضمن 12030 بيتا من الشعر، يقع منها 4613 بيتا في جزئه الأول ويتضمن الثاني 7417 بيتا، أي ما يعادل أربعا أو خمسا من مسرحيات شكسبير "، ويقرر بشأن كثرة ما ضمه جوته إليه من القصائد والمواقف.. واهية الصلة بأسطورة فاوست وشخصيته الدرامية .. "وربما جاز لنا أن نعتبر أن كتاب فاوست، ليس مجرد مأساة من جزأين. تعالج أسطورته، بل هو أدنى لأن يكون ديوان شعر عظيما.. يحوي موضوعات عديدة، منها - وليكن أهمها - قصة الدكتور فاوست، ومن هنا فلا غضاضة في أن يشتمل على منظومات مشاهد وخواطر. . لا تمت للأسطورة بسبب، وتحكم على كل قطعة منها بجمالها وقيمتها الشعرية، في هذه الحالة تصبح أسطورة فاوست بمنزلة المفتاح الذي فتح لنا بابا.. كشف عن عالم فسيح الأرجاء، ممتلئ بالمشاهد الخلابة والمناظر الس احرة، تجول فيها كائنات عجيبة، وتسبح فيه الأرواح والأشباح، وتتردد فيه صيحات الجن وأناشيد الملائكة، " مجلة تراث الإنسانية "، المجلد الثاني، 1964، ص 849 - 880 " .

وفي نفس المقالة بذات المصدر يقوم " عوض " بتلخيص هذا العمل الكبير " لقد بنى جوته عمله على أسطورة دكتور فاوست المتوارثة من العصور الوسطى، وتدور حول أستاذ عالم.. باع للشيطان روحه، نظير أربع وعشرين سنة، ينال فيها ما يشاء من المتع، لقد قاده طموحه للسحر.. بعدما كان لاهوتيا مؤمنا، بهدف كشف لغز الكون وأسراره الغامضة ، ودفعه غروره إلى استحضار الشيطان.. فتجسد له في هيئة الراهب مفستوفليس.. وعقد معه اتفاقا.. يمنحه به قدراته اللا نهائية.. لمدة معينة، يمسي فاوست بعدها عبدا له، وخلالها يرتد كافرا.. داعية بين الناس ضدا لدينه، ولم يعلم بالاتفاق سوى فاجنر تلميذه الغر الذي صاحبه حتى ميتته، ينغمس فاوست في حياة مترفة عابثة، ينفذ فيها تعاليم كتاب السحر الأعظم.. الذي أهداه الشيطان له، ويمكنه من زيارة الجحيم في ليلة مرعبة، ويرقى السماوات والنجوم في زيارة ثانية، ويضرب في الأرض بحصان مجنح.. هو الشيطان ذاته، ويعشق جميلة الجميلات هيلين.. وينجبها يسطس الذي يرى الغيب.. وهو طفل في مهده، وفي اليوم الأخير. يقص قصته نادما.. على رفاقه في حانة قريته، وفي الصباح.. لا يجدون منه سوى بقايا جثة ممزقة.. فوق قمامة مكومة "، ويتفق النقاد.. على أن للأسطورة أصلها الواقعي، وأن جوته قد استلهم أحداثها من كتاب " تاريخ الدكتور يوهان فاوست.. الساحر بعيد الصيت.. ذي الأعمال الجهنمية ".. ولكنه تجاوز الأسطورة بشاعريته الشاهقة، واختار لها جوته " المسرحية ".. شكلا فنيا لتصويرها، تكون فيها " القصيدة " محورا لنموها.. فلم يقسمها إلى فصول كالمتبع، فهي تنمو قصيدة بعد أخرى.. في عشرات من المشاهد.. لكل مشهد عنوانه.. الدال على مكانه وزمانه وحوادثه، ذلك هو العمل الذي قرر عوض التصدي له شعرا كأصله.

الترجمة والشعر

ويذكر عن تجربته هذه.. في كتابه " فن الترجمة ".. " تجددت المشكلة.. في ترجمة الشعر بالشعر، وذلك بحكم مقتضياته من القوافي والإيقاعات والوزن، فإذا كان يشترط فيمن يقوم بترجمة الأعمال الأدبية النثرية.. أن يكون أديبا.. فهل يشترط أن يكون شاعرا.. من يترجم الشعر؟ "، وتأتي إجابته قاطعة ( بالطبع يجب على من يتصدى لترجمة الشعر.. أن يكون شاعرا. ثم يتساءل "ولكن مع توافر الشاعرية.. هل من الممكن أن ينقل القريض إلى القريض.. دون تصرف قد ينأى بالترجمة عن الأصل ؟ "، وتأتي إجابته هذه المرة مستندة إلى درايته العميقة بفنون الترجمة المقارنة، موضحا سهولة ذلك نسبيا بين اللغات متقاربة الأصل "حيث يضمن ذلك تقارب الألفاظ ومدلولاتها وروحها، حتى لقد تتساوى الكلمات التي تؤدي المعنى في لفظها أو طولها، وهذا له أهمية عظيمة في ترجمة الشعر"، ويورد من الأمثلة ما يثبت ذلك.. ثم يذكر عن فاوست " إن فاوست كتاب منظم من أوله إلى آخره، لكن شعره على أنواع عديدة، حسبنا أن نرى أنه من نوعين.. أولهما - وهو معظمه - شعر الحوار.. في صورته المسرحية، أما النوع الثاني فأناشيد لها وزنها ونسقها الخاص، وقررت في البداية أن أترجمه نثرا جميلا بقدر الإمكان، حيث إن ترجمته شعرا.. ستضيع حتما تلك المعاني الرائعة والأفكار العميقة التي امتلأ بها الكتاب، لهذا ضحيت بالوزن في الجزء الأكبر، حرصا على معاني الشعر، ولكني بعد ذلك رأيت أن أغانيه وأناشيده، لا يمكن أن تظل نثرا.. فيه من موسيقى وإيقاع ونغم.. لا يتسنى للنثر أن يحاكيه، فقررت أن يكون ترجمتها بالشعر، وفي سبيل ذلك. حدث تصرف يسير في الترجمة، ولكن المعنى الذي ترويه الأنشودة.. يجب أن يظل كما هو عليه ".

ويطالعنا المشهد الأول من المسرحية ( فاتحة في السماء ) بنموذج خلاب. من ترجمة قوية آسرة. لحديث بعض الملائكة.. " الشمس تغني كدأبها منذ الأزل، منافسة في النشيد أخواتها الأجرام، وتدور دورتها التي رسمت لها.. بخطى كالرعد القاصف، ألا إن منظرها ليبعث القوة.. ويثير الهمة في نفوس الملائكة، وإن لم يكن بينهم من يفهم كنهها ويدرك سرها، إن هذه البدائع السامية التي يقصر عنها الإدراك لم تزل ذات روعة وبهاء.. كما كانت في يومها الأول "، ويتابعه ملاك آخر " هذه الأرض ذات الجمال الرائع.. دائبة في الدوران.. بسرعة يقصر عن تصورها الوهم. يتعاقب عليها النور الساطع والظلام الحالك الرهيب، والبحر اللجي يرغي ويزبد.. ويندفع تياره إلى سفوح الصخور، والبر والبحر.. كلاهما يدوران.. دورة الكواكب الأبدية السريعة "، وانظر هذا المشهد المنطوي على روح المأساة.. ويحدث في الليل.. بينما فاوست جالس على كرسيه أمام مكتبه، قلقا في غرفة ضيقة.. مرتفعة السقف، يناجي نفسه، ويتحسر على سنوات ضاعت في دراسة اللاهوت، دون خطوة واحدة نحو العرفان واليقين.. مما دفعه إلى السحر.. عله يحل به لغاز الأسرار " أيها البدر المنير.. ليت هذه آخر مرة تراني أعاني فيها هذا الألم المبرح، آه.. ليتني كنت فوق قمم الجبال، أمشي مستضيئا بنورك الحبيب، ثم أسبح مع الأرواح حول الكهوف والخيران، طائرا وسط نورك اللطيف فوق المراعي والمروج، فأطرح عني ما أكسبتني هذه العلوم من ألم وعذاب، وأطهر نفسي بقطرات الندى المتساقطة من ضيائك "، وبينما هو في شتاته.. تناديه روح.. فيرتج ويفزع.. ثم يتوب ويتماسك.. ويرد عليها نداءها باسمه.. بكبرياء " أجل.. أنا هو.. أنا فاوست ".

ويكفي هنا أن نورد رأي طه حسين " إنها ترجمة سهلة يسيرة، كتبت باللغة التي يتكلمها الناس ويفهمونها.. والتي تسمعها من المترجم حين تتحدث إليه، ليس فيها غريب، وليس فيها جملة منتفخة، إنما هو كلام منسجم عذب.. لا يصرفك عن المعنى.. ولا يلهيك عن الموضوع ".

 

عمر الفاروق

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




محمد عوض محمد