قراءة نقدية في ديوان

قراءة نقدية في ديوان "صيد الفراشات"

للشاعر محمد صلاح

يقول لوركا، واصفا الشاعر الذي يمضي إلى قصيدته، " إنه يذهب إلى رحلة صيد ليلية في غابة نائية.. عليه أن يتذرع بالسكينة أمام آلاف المحاسن والمقابح المقنعة بالحسن مما سيترى أمام عينيه.. عليه أن يصم أذنيه مثل عوليس عن النداءات الخادعة التي تطلقها حوريات البحر.. ويسدد سهمه تجاه الصور الحية لا الشكلية الزائفة التي تصحبها.. عليه أن يثبت أمام تهاويم السراب.. وربما كان عليه أحيانا أن يطلق صرخات حادة، في وحدته الشعرية، كي تنفر منها الأرواح الشريرة التي تريد أن تحمله إلى المفاتن العامية المحرومة من المعني الجمالي والنظام الشعري ". وأعتقد أن محمد صالح استمع جيدا إلى نصيحة لوركا دون أن يقرأها! فقد استطاع عبر مكابداته الشعرية، وبخاصة في " صيد الفراشات " أن يخوف الأرواح الشريرة، وأن يحسن تسديد سهمه إلى الصور الحية. ربما ، ونتيجة للعمل بهذه النصيحة ، كان شاعرا مقلا فها هو ذا يفاجئنا بديوانه الثالث في 1996 بينما صار لمجايليه عدد مضاعف!

في ديوانه الأول " الوطن الجمر"، الذي تأخر أكثر من عشر سنوات، مختارات من مشواره مع شعر التفعيلة.

وفي ديوانه الثاني " خط الزوال " نجده يقف على الأعراف بين التفعيلة وقصيدة النثر، وكأنه أبى إلا أن يعرض علينا مكابداته في اقتناص الشعر، فوضع شباكا مختلفة، وغير من طريقة القنص، وفي كل عرض صيده الثمين.

النقاء الموسيقي

وفي " صيد الفراشات " يعكف على بناء قصيدة نثرية، ومن جديد يبدأ رحلة صيد ليلية، مسلحا بخبراته الثمينة في قصيدة التفعيلة، الخبرات التي يمكن الإشارة إلى اثنين منهما هما " الصفاء الإيقاعي"و " الإحكام اللغوي ". فالذي يقرأ " الوطن الجمر " ونصف ديوان " خط الزوال " سيدهش من هذا الجهد الخارق ، الذي يقارب لزوم ما لا يلزم، في تحرير تفعيلاته من شوائب الزحامات والعلل المشروعة!!

سيدهش من هذا النقاء الموسيقي، ومن الطلاقة الأخاذة التي تجد في فضاء النصوص مراحا لها، الأمر الذي لا يتأتى للشاعر إلا بعد مجاهدات وعراك مع اللغة واشتباك دائم مع صوتياتها.

والذي يكابد هذا، لا بد أن تكون اللغة الشعرية هما يوميا، وهاجسا دائما يصاحبه في الصحو والمنام.

ومحمد صالح واحد من هؤلاء، أدمن التلصص على الإحكام القرآني، وأدمن التصنت لهذه الإيقاعات غير الخليلية في عباراته، وهو يعرض علينا في " صيد الفراشات " طريقته الخاصة في الاقتصاد اللغوي، مقدما نصوصه في جمل قصيرة مقطرة يبذل جهده لتكون أقل من المعنى!! وكأنه يتحرك تحت مقولة النفري العظيم " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ".

لقد خلص الشاعر لغته من التواطؤ الطويل بين الشاعر وجمهور الشعر، هذا التواطؤ الذي صنعه الشعراء عبر الاستعارات والكنايات والتشبيهات وأنواع المجاز والذي أدى تراكمه إلى خلق فجوة هائلة بين الاسم والمسمى، وأصبحنا أمام لغة مثلومة النصل، لا تجرح ولا تدمي، ولم يعد في مقدورها أن تقنص العالم ليس هذا فقط، بل وتصل إلى حد تزييفه بإعادة إنتاج نفسها هي هي في كل مرة.

محمد صالح إذن يقدم مشروعه الذي يتغيا تخليص اللغة من فضاءاتها الإيحائية سابقة التجهيز، ويعيد إليها حيويتها، وتوترها بربطها بالدلالة، إنه ببساطة يقشر عن اللغة الحية لحاءاتها المتراكمة وإن بدت خطافة للغير، يعود إلى لغة طازجة، دافئة، بريئة من التواطؤ، نابضة كما لو كانت تقبض على عصفور حي.

بهذه الدربة في الصفاء الإيقاعي والتمرس الطويل بالإحكام اللغوي، وبرفضه للغة الشعرية السائدة ، المجانية ، التي ليست لأحد ! يبني محمد صالح استراتيجيته في التعامل مع قصيدة نثر أخرى، غير تلك التي ولدت مكتملة في العقد الأخير كنتيجة مباشرة للتناقض أو التواصل مع الغربي الذي نقل أو نقلنا عنه شكلها الجاهز مثل " وصفة ".

يقول في قصيدة " الحجر" :

سأنهض من الضجة التي خلفتها
واصعد في الغبار الذي أثرته
وسأبدأ من ها هنا
من الحافة
وأتابع سقوطي

في هذا الاكتناز ما يجعل الكلام أقل والشعر أكثر، وبتضافر هذا الاكتناز مع تشكيلة من إيقاعات أخرى، غير خليلية، كالعبارة القرآنية والمثل والحكمة، والبيت الشعري المفرد، والقول البليغ، والخطبة القصيرة، بالإضافة إلى آليات السرد وتقاليد الحكي ذات النكهة المصرية، كل هذا وغيره يجعلنا أمام قصيدة نثر مصرية جديدة، ناوئة بالأساس لتلك التي تتعامل مع " وصفة " جاهزة تتوسل بلغة يومية مبتذلة وبشكل مذكراتي استسهالي، كما تتوسل بالصدمة على مستوى الجنس أو القبح أو التجديف، وبالمفارقة في معظم الأحيان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!! وقصيدة محمد صالح على المستوى الجرافيكي لا تغامر، بل ولا تأبه بالتشكيل الكتابي الجمالي لفراغ الصفحة، وإنما يحكمها فقط استلهام عميق لإشارات الوقف والمد والوصل والقطع.. إلخ ، تلك التي أبدعتها العقلية الإيقاعية في تعاملها مع النص القرآني فقدمت قراءات مختلفة وأسست لعلوم مهمة من علوم القرآن كعلم القراءات وعلم التجويد.

النص والأمثولة

الشاعر يوزع سطوره إذن، مقدما اقتراحه لكيفية قراءة النص، دون مصادرة، بالتأكيد، على اجتهاد القارئ ، لكن اقتراح الشاعر يهتم بالتشكيل الذي يعزز الدلالة ويجعل النص يتنفس كأمثولة أو ابجرام (الحكمة) يقول في "ليس صدفة":

ربما يرى الأشياء قبل وقوعها
وربما كل مرة
يجد نفسه وحيدا مقطوعا
لكنه رأى هذه الظهيرة من قبل
وتماما كما توقع
الظهيرة القائظة
والأطفال الذين يلاحقونه

في هذا النص، كما في كل النصوص بلا استثناء، لن نجد علامات التعجب أو الاستفهام التي يرشها مجايلوه رشا على قصائدهم، ولن تجد فاصلة واحدة أو نقاطا، إنه يكتب المفردة الأخيرة، في كل سطر، كتابة صوتية، وهكذا يقدم تصوره الجرافيكي الذي يقود القارئ، صوتيا ودلاليا، بين تخوم النص،وكأنه يقيه من نداءات حوريات البحر ليصل، القارئ، إلى ما وصل إليه الشاعر من صور حية دون التفات إلى تلك الزائفة، المطروحة، المبتذلة والمغوية في آن. لا يهتم محمد صالح بالمجاز، ويرى في منمنمات الصور الشعرية ثرثرة من نوع آخر، تشوش على المشهد الذي يقدمه، والذي يخرج طازجا من ذاكرة أصابها التشوش ومن هنا يأتي الانحراف، وتطفو الشعرية، إن واحدة من آليات التخييل في هذا الديوان تعتمد على التداعي، ليس بالمعنى المعروف، ولكنه التداعي الذي نلاحظه عند كبار السن، هؤلاء الذين يحيون حياتين بنفس الدرجة وإن لم يكن بنفس الحماس، حيث كل شيء حدث وكل شيء لم يحدث، على الأقل هكذا، تماما!!، وبهذه الآلية يجعلنا أمام حالة من اللايقين، حالة من التوتر الدلالي، حالة من التساؤل الذي لا يمكن الوثوق بإجابة عنه.

يقول في " الخيالة ":

كأنهم قفزوا لتوهم من فوق السور
كأنها الشوارع الجانبية
التي تسكعوا على أرصفتها
كل شيء حدث
وكل شيء يحدث
الموسيقى التي تسبق العرض
والستار المخمل الثقيل
والأنوار المطفأة

ولا بد أن نلتفت إلى شيوع مفردة "كأن" التي تعطي دلالة عدم اليقين في قصائد الديوان.
يقول من قصيدة " السلم ":

كان السلم يصعد إلى ما لا نهاية
وضع المفاتيح كلها في الأقفال كلها
وتفحص الدواسات أمام المداخل
لكن واحدة منها لم تكن أبدا له
كأنما وضعوها للتو

وهكذا تتضافر مفردات مثل كأن، ربما، لا بد، لتجلي هذا اللايقين الذي يشع من ذاكرة مخلطة، الزمن يتجول فيها كتيار لا يعرف أوله من آخره.

خبرة الرسام ولغة الشاعر

ومحمد صالح مستخدما هذه الآلية في التخييل، يقدم عوضا عن الزخارف البلاغية والمجازية طريقة لاصطياد الفراشات، حيث يعكف على صنع كمائن ما أن تدخلها الفراشات حتى تنغلق عليها، وكمائنه هذه مشاهد، يصنعها بخبرة رسام محنك، فبضربات فرشاة قوية وقليلة يبني مشهده ويقيم حدثه . يقول في " شوارع بلا ضفاف ":

كان شارعا كهذا
بلاطاته مستوية
وانحداره محسوب
ينتهي بسلالم سفلية
تفضي إلى البحر
هناك
كان يخلع ملابسه
ويندس بين الفتيات
شارع كهذا
ككل الشوارع التي تشابهت عليه
هناك
حيث تتعفن الأسماك
وتحوم الطيور الجارحة

هكذا يقدم في مشهد واحد حدثين. واحد حميم وطفولي فرح ونزق. وآخر قاتم وكئيب، تتعفن الأسماك وتحوم الطيور الجارحة، فيتولد عن النص وبيئته زمان قديم وزمان جديد أو مفارقة في الصيرورة من البهجة إلى القسوة. وتشي عبارة " ككل الشوارع التي تشابهت عليه " بوطأة الزمن وصيرورة المكان أيضا من الجميل إلى القبيح، وكأنه يقول كل الأماكن المبهجة في الذاكرة تحوم حولها الطيور الجارحة الآن.

المكان في شعر محمد صالح ركيزة يتأسس عليها المشهد، المكان مسرح والمشهد ديكور، والمكان في صيد الفراشات هو المدينة في الأغلب، بيوتا وغرفا وسلالم وشوارع وعلاقات اجتماعية بالأساس بينما تطل القرية، في بعض النصوص، مرتبطة بزمن ولى، وعلاقات أخرى أكثر بهجة. المدينة زمن يحدث والقرية زمن حدث، وفي إطار ذاكرة تعامل الزمن كفلك دوار يصبح الحوار هاجسا بدرامية عالية بين المدينة والقرية في وعي الذات المروي عنها.

وفي قصائد الشاعر عنصر آخر للتخييل يعتمد على مخيلة شعبية أصيلة، وهو عنصر الغرائبية نجد ذلك في قصائد " الموتى " " الأضحية " " الأحباش " " الحادث " " القتلة " " الغبار " "شروع في قتل ".

وهي غرائبية لا تتوقف عند حد الإدهاش، بل تتقنع به لتفجير حالة مكتنزة بالدلالات المؤسسية في الغالب، كما نرى في قصائد أخرى إحساسا بعبثية الحياة، بالموت المجاني، والقهر الشائع كالهواء، نجد ذلك في قصائد مثل " الكمين " و" الجثث " و" الحادث " وغيرها.

أخيرا، أستطيع القول إن محمد صالح في هذا الديوان بلور مشروعه الشعري أو على الأقل أشار إليه، ونحن في انتظار فراشات أخرى تستطيع برهافتها هذه، أن تخدش وجداننا بأكثر مما تفعل كل هذه الحيوانات الخرافية التي تتقافز من قصائد آخرين!!

 

فريد أبوسعدة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صيد الفراشات