موت أعزب علي سليمان

موت أعزب

قصة للكاتب النمساوي آرثر شنيتزلر

دق الباب دقا خافتا، فصحا الطبيب على الفور وأضاء نور الغرفة وجلس على حافة الفراش، ألقى على زوجته نظرة سريعة حيث كانت تنام عميقا، ثم التفع في عباءته وسار باتجاه الصالة. لم يتعرف في بادئ الأمر تلك المرأة العجوز ذات الشال الرمادي.

قالت المرأة:" سيدي تدهورت صحته فجأة.. فهل يتكرم الدكتور بالحضور على الفور؟ ".

الآن، تعرف الصوت: مدبرة منزل صديق عمره الذي لا يزال أعزب. وكان أول ما جال بخاطره هو " صديقي في الخامسة والخمسين ويعاني مرض القلب منذ العديد من الأعوام. لا بد إذن أن في الأمر شيئا خطيرا "، فقال لها: " سأذهب إليه فورا، انتظريني لحظة واحدة ".

قالت المرأة: " اعذرني يا دكتور.. فأنا يتعين علي أن أمر بشخصين آخرين من أصحابه " وذكرت اسم التاجر واسم المؤلف.

" ولكن ما شأنك بهما ؟ ".
" سيدي يريد أن يراهما ".
" يراهما ؟ ".
" نعم يا سيدي ".
وفكر الطبيب على هذا النحو: إنه يرسل في طلب أصدقائه لأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت.. ثم سألها: " هل هناك أحد مع سيدك؟ ".

قالت العجوز: "طبعا.. يوهان ملازمه"، واستدارت ذاهبة.

عاد الطبيب إلى غرفة النوم. وفيما كان يسرع في ارتداء ملابسه، بكل ما أمكنه من هدوء، انتابه إحساس بالمرارة، ولم يكن احتمال فقد أحد أصدقائه الأعزاء هو ما استدعى حزنه الشديد، بل الإدراك المؤلم لكونهم صاروا أشتاتا منذ أعوام عديدة.

اتجه الطبيب بعربته الحنطور، في ذلك الجو الثقيل الساكن لتلك الليلة الربيعية، إلى الحي المجاور حيث يقيم صديقه. ألقى نظرة على نافذة غرفة النوم التي انفتحت على مصراعيها وقد تسلل منها في ظلام الليل ضوء باهت.

صعد الطبيب السلم. وفتح الخادم الباب وحياه في أسى شديد مسقطا ذراعه اليسرى علامة على حزنه.

تساءل الطبيب في ذهول: " ماذا ؟ أجئت بعد فوات الأوان؟ ".

فقال الخادم: " أجل يا سيدي، مات سيدي منذ ربع ساعة ".

التقط الطبيب نفسا عميقا ودخل إلى الغرفة حيث رقد صديقه الميت وقد انفرجت شفتاه الرفيعتان زرقاوين، وامتدت ذراعاه على الملاءة البيضاء، كانت لحيته شعثاء، وارتمت خصلة من شعره على جبهته الصفراء الندية، وألقى المصباح الكهربي الموضوع على الكوميدينو ظلالا حمراء على الوسادة. نظر الطبيب إلى الرجل الميت وقال لنفسه: "متى كان معنا في منزلنا آخر مرة ؟ أذكر أن ندف الثلج كانت تتساقط في ذلك المساء.. لا بد أن ذلك كان في الشتاء الماضي "، فهما كانا لا يتلاقيان في الفترة الأخيرة كثيرا.

سمعت خطوات خيل تنهب الطريق، واستدار الطبيب وجعل يحدق، عبر ذؤابات الشجر المتأرجحة، في ظلام الليل. وحين دخل الخادم إلى الغرفة، سأله الطبيب عما حدث. حكى الخادم القصة المعتادة عن القيء المفاجئ، والشهقة. ثم ذكر أن مخدومه نهض من سريره وأخذ يذرع الغرفة، ثم اندفع إلى حجرة مكتبه وعاد يترنح إلى فراشه حيث رقد يكابد الألم.

ومع أنه بذل غاية جهده لينهض، فإنه سقط على الوسادة منكفئا على وجهه. وهز الطبيب رأسه ووضع يده على جبهة الميت. ثم وصلت العربة، فاتجه الطبيب إلى النافذة، ووجد التاجر يخرج من العربة ويحيط المنزل بنظرة تساؤل. لا شعوريا ترك الطبيب ذراعه تسقط، بالضبط كما فعل الخادم من قبل حين فتح له الباب، فارتد التاجر برأسه كمن يرفض أن يصدق، وهز الطبيب رأسه أسفا وغادر النافذة. ثم جلس - وقد أصابه تعب مباغت - على كرسي عند قدمي الرجل الميت. دخل التاجر مرتديا معطفا أصفر مفكوك الأزرار، ووضع قبعته على منضدة صغيرة بجوار الباب، ثم صافح الطبيب وقال له: " كم هو مريع! كيف حدث هذا ؟ " وجعل يتأمل الرجل الميت في أسى.

أخبره الطبيب بما عرف، وأضاف: " حتى بافتراض أنه كان بإمكاني الحضور في التو واللحظة، ما كان ذلك ليغير من الأمر ".

قال التاجر: " عجيب! اليوم فقط يكتمل أسبوع منذ تحدثت إليه آخر مرة في المسرح. وقد أبديت له رغبتي في أن نتعشى معا، لكنه كان مرتبطا بواحد من مواعيده الغامضة ".

قال الطبيب وعلى شفتيه ابتسامة حزينة: " كلنا لها!! "

بالخارج، توقفت عربة أخرى. فاتجه التاجر ناحية النافذة. لكنه أجفل حين رأى المؤلف يخرج من العربة، كارها أن تدل تعبيرات وجهه على الخبر الحزين، وكان الطبيب قد تناول سيجارة من علبته وأخذ يبرمها في شيء من الارتباك، ثم قال كمن يقدم التبرير: " إنها عادة اكتسبتها حين كنت أعمل في المستشفى. فحين كنت أغادر غرفة المريض ليلا، كنت أشعل سيجارة، أولا وقبل أي شيء، سواء أأعطيت المريض حقنة مخدر أم كان علي أن أثبت حالة وفاته ".

قال التاجر: " أتعرف منذ متى لم أر جثة ؟ منذ أربعة عشر عاما.. حين مات والدي ".

" وزوجتك ؟ ".

" زوجتي شاهدتها في لحظاتها الأخيرة، لكنني لم أرها بعد ذلك ".

وجاء المؤلف، صافح الرجلين الآخرين، والتفت إلى الفراش في أسى، ثم سار باتجاهه في تثاقل، وتأمل الميت الذي لما تزل شفتاه معبرتين. قال المؤلف لنفسه: " إنه هو إذن "، ذلك لأنه كان يسائل نفسه دائما عمن سوف يموت أولا بين أصدقائه.

ثم دخلت عليهم مدبرة المنزل. قعدت بجوار الفراش وقد امتلأت عيناها بالدموع، وشهقت، واعتصرت يديها حزنا. فوضع المؤلف يده على كتف المرأة مهدئا.

ووقف التاجر والطبيب عند النافذة وقد داعبت جبهتيهما هبات الربيع الباردة الندية.

بدأ التاجر الحديث قال: " من العجيب حقا أنه أرسل يطلب حضورنا جميعا.. فهل أراد أن يرانا مجتمعين حول فراش موته ؟ " هل لديه شيء مهم كان يريد قوله لنا ؟.

قال الطبيب وعلى شفتيه بسمة أسى: " يبدو لي أن ذلك أمر طبيعي، فأنا مثلا طبيب "، ثم استدار إلى التاجر مضيفا: " وأنت، أنت كنت أحيانا مستشاره في أعماله، وربما أراد أن يوجه إليك - وجهاً لوجها - تعليماته الأخيرة ".

فقال التاجر: " هذا جائز ".

كانت المدبرة قد غادرت الغرفة، وكان في متناول الأصدقاء أن ينصتوا لحديثها مع بقية الخدم في الصالة. وكان المؤلف لا يزال واقفا بجوار الفراش يجري حوارا صامتا مع الرجل الميت.

همس التاجر في أذن الطبيب: " أظن أنه كثيرا ما كان يرى صديقنا في الفترة الأخيرة، وربما استطاع أن يلقي ضوءا على المسألة ".

وقف المؤلف، بلا حراك، يحملق في عيني الرجل الميت المغلقتين ويداه تتشابكان خلف ظهره ممسكتين بقبعته الرمادية. وكان الآخران على أحر من الجمر، فذهب التاجر ناحيته وتنحنح.

قال المؤلف: " منذ ثلاثة أيام، صحبته في نزهة استغرقت ساعتين وسط الروابي وحدائق الكروم. أتحبون أن تعرفوا عم تحدث؟ حدثني عن نزهة صيفية إلى السويد يعد لها العدة، وحدثني بعد ذلك عن سانتوس ديومونت، كما خاض في التفاصيل الحسابية والعلمية الخاصة بطيران المناطيد. وحتى أكون صريحا معكما، يتعين علي أن أعترف بأني لم أفهم شيئا من ذلك كله. هو، بكل تأكيد، لم يكن يفكر في الموت، ويبدو أن الناس تتوقف عن التفكير فيه بعد سن معينة ".

دخل الطبيب إلى الغرفة الملحقة. لا بد أنه أشعل سيجارة هنا. استوقفه منظر الرماد الأبيض في الطبق البرونزي الموضوع على المكتب. بدا له كما لو أن ذلك شيء غريب تماما. واستغرب أن يظل هنالك جالسا على مقعد بجوار المكتب. كان بإمكانه أن يحضر على مهل لأنه دعي باعتباره طبيبا، فقد كانت صداقتهما قد انتهت تقريبا. واستطرد الطبيب محاولا تحديد مشاعره " في مثل هذا العمر، يستحيل تماما على من هو مثلي أن يكون صديقا لرجل بلا مهنة، وهو لم تكن لديه مهنة في يوم من الأيام. وماذا كان بإمكانه أن يفعل لو لم يكن ثريا ؟ ربما كان باستطاعته أن يتجه إلى التأليف الأدبي، فلقد كان رجلا شديد البراعة ". ثم تواردت على مخيلته التعليقات الساخرة، بل والجارحة، التي كان يرددها خصوصا عن أعمال صديقهما المشترك، المؤلف. ودخل المؤلف والتاجر إلى الغرفة. امتعض المؤلف حين وجد الطبيب جالسا بجوار المكتب المهجور وفي يده سيجارة، وذلك مع أنه لم يكن قد أشعلها بعد، وأغلق الباب وراءه. لقد أصبحوا الآن - إلى حد ما - في عالم آخر.
قال التاجر: " هل لديك فكرة من أي نوع ؟.. "
قال المؤلف بذهن شارد: " عن ماذا ؟ "
" ما الذي جعله يستدعينا نحن بالذات ؟ ".
رأى المؤلف أنه ليس من الضروري أن يلجأوا إلى البحث عن سبب معين. قال: " أحس صديقنا أن أجله يدنو. ومع أنه عاش في عزلة تامة، في الآونة الأخيرة على الأقل، فإنه من الطبيعي عند أولئك المجبولين على الوصال الاجتماعي أن يستشعروا في مثل هذه اللحظة بالحاجة إلى أن يكون أصدقاؤهم إلى جوارهم ".

قال التاجر: " ولكنه كانت له عشيقة أيضا ".

" عشيقة ؟ " كررها المؤلف رافعا حاجبيه في استهجان.

في هذه اللحظة، لاحظ الطبيب أن الدرج الأوسط للمكتب نصف مفتوح.

وقال: " أريد أن أعرف إن كانت وصيته هنا.. "

فقال التاجر: "ذلك لا يعنينا، الآن على الأقل، ثم إن له عموما أختا متزوجة تعيش في لندن".

ودخل عليهم الخادم. سأل بأدب عما ينبغي أن يتخذه من الاستعدادات بشأن تغسيل وتكفين الجثة ودفنها، وبشأن بطاقات العزاء. إنه يعرف أن ثمة وصية في حوزة محامي مخدومه، ولكنه يشك في كونها تتضمن تعليمات عن هذه الأمور. وجد المؤلف أن الغرفة مكتومة، فأزاح عن إحدى النوافذ ستائرها الحمراء الثقيلة، وفتح الضلفتين فانثالت على الغرفة هبات داكنة الزرقة من جو تلك الليلة الربيعية. وسأل الطبيب الخادم إن كانت لديه معلومة حول استدعاء الميت له - فقد تذكر لتوه أن هناك أعواما لم يستدع فيها إلى هذا المنزل كطبيب. وهنا، قام الخادم، وقد بدا بكل وضوح أنه توقع السؤال، وأخرج حافظة منتفخة من جيب جاكتته التقط منها قصاصة ورق، ثم شرح كيف أن مخدومه كان قد سجل منذ سبعة أعوام مضت أسماء الأصدقاء الذين يريد أن يستدعيهم حين يموت، وبناء على ذلك، ولأن الميت كان عديم الوعي في هذه المرة، فقد تعين عليه أن يبادر إلى استدعاء السادة على مسئوليته الشخصية. تناول الطبيب الورقة من بين يدي الخادم، ووجد عليها خمسة أسماء: بالإضافة إلى الحاضرين، كان هناك اسم صديق توفي منذ عامين واسم شخص آخر لم يكن يعرفه. وأوضح الخادم أن هذا الأخير كان رجلا صناعيا اعتاد الميت أن يذهب إلى داره منذ تسعة أو عشرة أعوام، وأن عنوانه ضاع وأصبح منسيا. نظر ثلاثتهم بعضهم إلى بعض نظرات فضول قلقة. تساءل التاجر " ماذا يعني ذلك ؟ هل كان ينوي أن يلقي بيانا في لحظاته الأخيرة ؟ ". وأضاف المؤلف: " لا بد أنه أراد أن يؤمن نفسه ". كان الطبيب يحدق في درج المكتب المفتوح حين واجهته، فجأة، هذه الكلمات التي كتبت على ظرف بحروف كبيرة " إلى أصدقائي ".

" يا! " صرخ الطبيب، وتناول الظرف ورفعه عاليا ليريهم إياه، ثم استدار إلى الخادم وقال: " هذا الظرف يخصنا "، وأوحى إليه، بإيماءة من رأسه، أنه غير مرغوب في وجوده معهم، فخرج الخادم.

" يخصنا ؟ " قالها المؤلف وعيناه مفتوحتان على اتساعهما. قال الطبيب: " لا شك أن من حقنا فتح هذا المظروف ". " إنه واجبنا " قال التاجر ذلك وزرر البالطو الذي كان يرتديه.

تناول الطبيب فتاحة كتب كانت موضوعة على طبق زجاجي، وفتح الظرف، ثم وضع الرسالة على المكتب ليلبس نظارته. لكن المؤلف، منتهزا الفرصة، التقط الرسالة وفردها قائلا " مادام أنها باسمنا جميعا " قال المؤلف ذلك بشكل عارض، وانحنى على المكتب حتى يمكن للمصباح الكهربي أن يلقي الضوء على الرسالة. وإلى جانبه وقف التاجر، وبقي المؤلف جالسا. قال التاجر: " يتعين عليك أن تقرأ بصوت عال "، فبدأ المؤلف يقرأ:

" إلى أصدقائي " - وتوقف يبتسم - " نعم إنها مكتوبة هنا أيضا ". ومضى المؤلف يقرأ بلهجة توحي بأن الأمر لا يعنيه: " منذ ما قرب من ربع الساعة لفظت النفس الأخير. أنتم مجتمعون الآن حول فراش موتي وتستعدون لقراءة هذه الرسالة معا - وينبغي علي أن أضيف: فيما لو بقيت الرسالة حتى لحظة موتي، فلربما تحضرني لحظة صفاء روحي.. "

"" ماذا ؟ " تساءل الطبيب.

" لحظة صفاء روحي " قالها المؤلف، واستمر يقرأ " فأمزق هذه الرسالة، فهي لن تفيدني في شيء، إلى جانب أنها سوف تسبب لكم كدرا على الأقل، إن لم تسمم حياة بعضكم تماما.."

" تسمم حياتنا؟! " ردد الطبيب هذه الكلمات بدهشة بالغة وهو يمسح نظارته.

"وقال التاجر بصوته الأجش: " بسرعة ".

وواصل المؤلف: " وأنا أسائل نفسي أي مزاج شيطاني هو ذلك الذي قادني اليوم إلى مكتبي وجعلني أسجل كلمات لن أقرأ انعكاساتها على وجوهكم. وحتى لو أمكنني ذلك، فإن المتعة التي سأجدها ستكون حافزا أقل شأنا من أن تدفعني إلى مثل هذا الفعل الغريب الذي أجدني مدفوعا إلى القيام به عن ارتياح ورضا ".

" ها! " صاح الطبيب صياحا لم يتعرف هو نفسه صوته فيه. نظر المؤلف إليه في توتر، ومضى يتلو أسرع وبشكل أقل تعبيرا عن ذي قبل: " أجل، إنه مزاج شيطاني لا أكثر ولا أقل، ذلك أنني لا أضمر في الواقع لأي منكم أي سوء. أنا أحبكم حبا شديدا على طريقتي الخاصة، كما أنكم تحبونني على طريقتكم أنتم. لم أحتقركم قط. وإذا كنت قد ضحكت عليكم كثيرا، فإنني لم أسخر منكم مطلقا. أبدا، ولا مرة واحدة - ولا حتى في اللحظات التي تصورتم فيها مثل هذه الأشياء المؤلمة التي لا أساس لها. ما سبب هذا المزاج الشيطاني إذن ؟! قد يكون هذا الأمر نابعا عن رغبة عميقة، لا وضيعة بالضرورة، في ألا أغادر العالم وقد تسربلت روحي بلباس من الأكاذيب. نعم، يتعين علي أن أفكر على هذا النحو حتى إذا لم يكن لدي سوى أدنى فكرة عما يسميه الناس ( تأنيب الضمير ) ".

" استمر حتى النهاية " قالها الطبيب بلهجة جديدة وجافية. و بهدوء شديد، تناول التاجر الرسالة من بين يدي المؤلف الذي أحس بنوع من الخدر يمتد إلى أصابعه، وجعل يقرأ: "... إنه القدر يا أصدقائي الأعزاء، وما كان في مقدوري تغييره. لقد ظفرت بزوجاتكم جميعا. نعم كلهن ".

توقف التاجر: " الرسالة مكتوبة منذ تسعة أعوام ".

" استمر " قال المؤلف بحدة. ومضى التاجر متابعا: " بالطبع كانت الملابسات مختلفة في كل حالة. فمع واحدة منهن عشت لعدة أشهر كما لو كنا زوجين تقريبا. أما الحالة الثانية، فقد كانت، بصورة أو بأخرى، نوعا مما اعتاد الناس على تسميته نزوة مجنونة، ومع الثالثة، تطور الأمر إلى درجة تمنيت معها أن نعيش ونموت معا. والرابعة طردتها شر طردة لأنها خانتني مع آخر. أما الأخيرة، فقد ظفرت بها ذات مرة واحدة فقط. هل يضايقكم هذا يا أصدقائي الطيبين، هذا ما لا ينبغي. فربما تكون تلك الفترة هي أفضل فترة في حياتي.. وحياتهن. والآن، ليس عندي يا أصدقائي شيء آخر أقوله لكم. وسوف أطوي الرسالة وأتركها داخل مكتبي لتبقى هناك حتى يتغير مزاجي فأمزقها، أو توضع بين أيديكم في ذلك اليوم الذي أتمدد فيه على فراش الموت. وداعا ". أخذ الطبيب الرسالة من بين يدي التاجر، وقرأها بعناية واضحة من بدايتها إلى نهايتها. وبعد ذلك، رفع الطبيب ناظريه إلى التاجر الذي وقف إلى جواره مشبوك اليدين يحملق فيه بغير قليل من الازدراء. قال الطبيب له بهدوء: " مع أن زوجتك توفيت في العام الماضي " إلا أن الأمر يخصها بنفس الدرجة.

ذرع المؤلف الغرفة، وهز رأسه عدة مرات دافعا إياه بحدة من جانب إلى جانب، وقال من بين أسنانه "الوغد" ثم حملق في فضاء الغرفة كما لو أنه يبحث عن شيء ذاب في الهواء. كان يحاول أن يستحضر في ذهنه صورة المخلوقة الممتلئة شبابا التي كان يمد لها ذراعه باعتبارها زوجته. وتتابعت في مخيلته وجوه النسوة الأخريات، إلا أنه لم يستطع أن يستحضر إلى ذهنه ما أراد. كان جسد زوجته قد نحف ولم يعد يثيره، كما أنه كان قد مر وقت طويل على زمن كانت هي فيه حبيبته. كانت قد صارت بالنسبة إليه شيئا آخر. شيئا أكبر وأنبل: صديقة ورفيقة حياة، فخورة بنجاحاته، حنونا في إحباطاته، بصيرة بأعماقه. وبدا له أنه ليس من المستحيل أن يكون الرجل الميت قد استطاع، بخسته، أن يستميل رفيقة حياته ويظفر بها خلسة. أما الأخريات - فماذا كن يعنين بالنسبة إليه ؟! استدعى إلى ذهنه مغامرات بعينها، بعضها قديمة وبعضها حديثة، كانت كثيرة وكان يستخدم بعضها في أعماله الأدبية المتنوعة، وكانت مجريات هذه المغامرات تدعو زوجته إلى التهكم أو البكاء. أين كل ذلك الآن ؟ ذهب كل ذلك أدراج الرياح، تماما كما ذهبت تلك الهنيهات البائدة التي ارتمت فيها زوجته بين ذراعي رجل بلا قيمة وبلا مشاعر وربما بلا أفكار: ميت كذكرى تلك الفترة ذاتها داخل الجمجمة الميتة المستقرة على تلك الوسادة المهترئة. بل وقد تكون هذه الرسالة ذاتها جملة من الأكاذيب - الانتقام الأخير لرجل سوقي حقير وجد نفسه تافها في طي النسيان من رجل مشهور لا سلطان للموت على أعماله الأدبية الكثيرة. لم يكن هذا مستبعدا تماما. وحتى لو كان قوله صادقا، فإنه على أية حال انتقام تافه وفاشل في كلتا الحالتين. وحملق الطبيب في الورقة التي أمامه. تواردت عليه فكرة أن زوجته اللطيفة والحنون دائما، تكبر في السن، وهي الآن في البيت تغط في نومها. وفكر أيضا في أولاده الثلاثة: في ابنه الأكبر الذي ما زال يقضي مدة تجنيد مقدارها عام، وفي ابنته الكبرى المخطوبة لمحام، وفي الصغرى الجميلة والفاتنة إلى درجة أن فنانا شهيرا رآها في الآونة الأخيرة عرض عليها أن يرسمها. فكر في عشه الهادئ، وبدا له على نحو غامض أن كل هذا الذي طفح عليه من رسالة الميت لا يعدو كونه أمرا تافها. وإنه ليكاد يشعر الآن أنه لم يعرف جديدا. تذكر فترة من حياته، حين واجهته منذ أربعة عشر أو خمسة عشر عاما مشاكل في عمله، وكان منهكا يوشك أن يجن، فاعتزم أن يهجر البلد وزوجته وأسرته جميعا، لكنه، بدلا من ذلك، انخرط في نوع من الحياة اتسمت بالعزلة واللامبالاة لعبت فيها دورا ما امرأة غريبة الأطوار.. تلك المرأة التي أقدمت (فيما بعد) على الانتحار من أجل آخر. وما أشبه اليوم بالبارحة! يبدو أن زوجته لا بد أن تكون قد خانته في تلك الأيام العاصفة. نعم، لا بد أن الأمر قد حدث على هذا النحو، ولقد اتضح له الآن أنه كان يعرف ذلك دائما. ألم تكن على وشك الاعتراف له بذلك ذات مرة ؟ ألم تلمح له بذلك ؟ منذ ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاما.. متى بالضبط يمكن أن يكون ذلك قد حدث.. ؟ ألم يكن ذلك ذات صيف في أثناء نزهة من نزه الأعياد في ساعة متأخرة من المساء في شرفة أحد الفنادق ؟ وعبثا حاول أن يستحضر في ذهنه تلك الكلمات التي محيت من الذاكرة. ووقف التاجر عند النافذة يحملق في عتمة الليلة الربيعية. كان يعتزم تذكر زوجته التي كانت قد ماتت. ولكنه، مهما فتش في أعماق أعماقه، فلن يجد نفسه إلا واقفا، في عتمة الصباح، بملابس سوداء خارج باب ينسدل عليه ستار، يتلقى التعازي أو يرد عليها وقد امتلأت فتحتا أنفه برائحة الزهور الذابلة. واستطاع شيئا فشيئا أن يستدعي إلى ذهنه صورة زوجته الميتة. في البداية، لم تكن سوى صورة لصورة، ذلك أنه لم يكن يرى سوى صورة لوجه داخل برواز مذهب معلق داخل غرفة الجلوس أعلى آلة البيانو، وجه ينم عن سيدة متعالية في الثلاثين من عمرها، ثم بدت هي نفسها وكأنها فتاة صغيرة، تلك الفتاة التي قبلت الزواج منه منذ ما يقرب من عشرين عاما.. وكانت فتاة خجولا ومتلعثمة. وبعد ذلك، ارتسمت في مخيلته صورة امرأة في كامل زينتها، تجلس إلى جانبه كملكة داخل مقصورة مسرح، تحملق في خشبة المسرح وهي شاردة في أسرارها. ثم تذكر تلك المخلوقة الودود التي لقيته بحرارة لا نظير لها لدى عودته من رحلته الطويلة. وسرعان ما استحالت أفكاره إلى نوع من المعاناة الرهيبة. ثم رأى أما تبالغ ذات فجر في التعبير عن حزنها بالسهر على طفل ميت ليس إلا. وبعد كل ذلك، رأى امرأة شاحبة داخل غرفة مشبعة برائحة الإيثير وقد تهدل ركنا فمها بصورة تستدر العطف وعلى جبينها حبات عرق بارد، وهذا ما أثار شفقته عليها من كل قلبه. وأدرك أن كل هذه الصورة، ومختلف الصور الأخرى التي سرعان ما تعود به إلى الماضي، كانت عن نفس المخلوقة التي ووريت التراب منذ عامين وبكى هو عليها ثم أحس بعد موتها أنه أصبح مطلق السراح. وبدا ل ه أن من الضروري أن ينتقي واحدة من كل هذه الصور ليصل إلى انفعال محدد، فقد أصبح يتنازعه الآن خليط من مشاعر الخجل والغضب. وقف خائر القوى يحملق في البيوت داخل حدائقها وقد أخذت أنوارها الحمراء والصفراء تتلألأ باهتة في ضوء القمر، بيوت بدت كما لو أنها جدر لا يوجد خلفها سوى الفراغ.

قال الطبيب: "طابت ليلتكما"، ونهض واقفا على قدميه.

والتفت التاجر إليه قائلا: "وأنا أيضا، ما من شيء يمكنني عمله هنا" كان المؤلف قد التقط الرسالة. تسللت بها يده إلى جيب جاكتته، وفتح الباب الذي يؤدي إلى الغرفة الملحقة. سار ببطء نحو فراش الميت، وتابعه الآخران بنظراتهما وهو يلقي على الجثة نظرة صامتة ويداه معقودتان خلف ظهره، ثم استدارا ذاهبين.

في البهو، قال التاجر للخادم: "ربما كان في الوصية التي عند المحامي تعليمات بشأن الدفن".

وأضاف الطبيب على الفور: "ولا تنس أن ترسل برقية إلى أخت مخدومك في لندن".

قال الخادم وهو يفتح لهما الباب: "بكل تأكيد يا سيدي".

ولحق بهما المؤلف عند سلم الباب.

"يمكنني أن آخذكما في طريقي" قال الطبيب لهما ذلك، فقد كانت عربته في الانتظار.

"شكرا لك، سوف أذهب أنا سيرا على قدمي". وسلم عليهما التاجر ومضى في طريقه إلى المدينة وقد أنعشه هواء الليل الرطيب.

ركب المؤلف العربة مع الطبيب، وكانت الطيور قد بدأت لتوها تغرد في الحديقة. وعندما جاوزت العربة التاجر، رفع ثلاثتهم قبعاتهم في أدب جم وقد ارتسم على وجه كل منهم تعبير معين. وقال الطبيب للمؤلف بلهجته المعتادة "أتمنى أن نشاهد قريبا أحد أعمالك المسرحية!".

أما الآخر، فقد تحدث عن الصعوبات البالغة التي أحاطت إخراج مسرحيته الأخيرة، ثم وجد نفسه مدفوعا إلى الإقرار بأنها تتضمن هجوما شاملا لا هوادة فيه على القيم الثابتة كلها. وهز الطبيب رأسه دون أن يكون قد استمع شيئا. ولا استمع المؤلف شيئا أيضا، فقد انسابت تلك العبارات المألوفة من بين شفتيه كما لو أنها محفوظة عن ظهر قلب.ونزل الرجلان عند منزل الطبيب، وابتعدت العربة.

وبعد أن دق الطبيب جرس الباب، وقفا كلاهما صامتين. وفيما كانت خطوات حارس البوابة تقترب، قال المؤلف: "طابت ليلتك يا عزيزي الدكتور"، وأضاف ببطء شديد وقد ارتعشت فتحتا أنفه: "طبعا لن أذكر شيئا لزوجتي".

وبعد أن ألقى عليه الطبيب نظرة جانبية طويلة، ندت شفتاه عن ابتسامته الساحرة.

ولما فتح الباب، تصافح الرجلان، وتوارى الطبيب عبر المدخل واصطفق الباب، ومضى المؤلف في طريقه.

تحسس المؤلف الجيب العلوي. نعم كانت الرسالة هناك. ولسوف تجدها زوجته محفوظة بين أوراقه. وبما كان يتمتع به من قدرة عظيمة على التخيل، راح يستنصت إلى مناجياتها فوق قبره "يا لك من رجل عظيم.. يا لك من رجل نبيل!".

 

علي سليمان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




موت أعزب