كنز بيئي على شاطئ الكويت ليلى سيد موسى

كنز بيئي على شاطئ الكويت

برغم العديد من السلبيات التي تنتجها عملية ردم السواحل المكثفة التي تتعرض لها شواطئ الكويت، سواء جماليا حيث أصبح البحر والشاطئ مسجونين بالمنشآت الأسمنتية وبعيدين عن نظر المارة في شارع الخليج، أو المخاطر البيئية التي تهدد التنوع البيولوجي، واستقرار الأنواع على طول السواحل المحلية وتأثير ذلك في المنطقة بشكل عام، فإن هناك جوانب يمكن تداركها لتحويل بعض السلبيات إلى إيجابيات بيئية وترفيهية. هذه دعوة لاكتشاف بعض الجوانب الإيجابية التي لم تؤخذ بعين الاعتبار، عند التخطيط لمشاريع الواجهة.

الوضع القائم

من المعروف اليوم أن التنوع البيولوجي غدا يواجه تهديد حقيقيا بالفناء. وقد عمدت دول العالم الأكثر تطورا إلى تخصيص مساحات وميزانيات للحفاظ على أكبر قدر من التنوع. لكن بلدان العالم الثالث - بالذات تلك التي ترزح تحت ديونها الصعبة - غير قادرة على الحفاظ على البيئة ومواردها. إذ غالبا ما يقوم اقتصادها على غلات الموارد الطبيعية، كما أن عددا كبيرا من الدول النامية بحاجة إلى الأراضي لإقامة المنشآت والمشاريع التنموية.

فقد عانت سواحل الكويت من الردم وبشكل مستمر ومتكرر منذ الخمسينيات من هذا القرن. إذ كانت الخطط المتوالية لتطوير الكويت عمرانيا تعتمد الانتشار على طول الساحل، وتوزيع غالبية النشاطات الإسكانية والتجارية والصناعية بشكل مواز للساحل، كإقامة المدن والموانئ ومحطات التحلية وتوليد الطاقة والمشاريع الترفيهية. أول هذه التوجهات كان مد شارع الخليج العربي على شريط ساحلي مردوم للتخلص من الزحام في المدينة الآخذة في النمو بين أحضان السور. أما التوجه الذي ما زال يعاصرنا فهو مشروع الواجهة البحرية الذي دخل في مرحلته السادسة، ملتهما ما تبقى من جمال طبيعي عند أعتاب " الديرة " ( المدينة القديمة ). وبرغم كل الاحتجاجات العلمية الموثقة، والصيحات الجمالية والمهتمة بصورة الكويت التراثية فإن المشروع قد استنفد أهدافه دون أدنى التفات للناصحين.

لكن اليوم والعالم كله يقف لحظات طويلة متداركا أخطاءه البيئوية، يجب أن نقف لحظة ونسعى نحو تقليل الضرر.

فأمام أبراج الكويت، وفي المنطقة المجاورة للمدينة المائية، كنز صغير، من السهل جدا وضعه في إطار ترفيهي تعليمي حضاري دون الحاجة إلى المزيد من الميزانيات الضخمة والأسمنت. الشاطئ في هذه المنطقة مكون من تشكيلة غريبة لا تتوافر طبيعيا عبر مساحة صغيرة كالتي نتحدث عنها. إذ يمتد الرمل على غالبية المساحة الدائرية عند طرف المدينة المائية، وفي إحدى الزوايا يتداخل الرمل تدريجيا مع الطين حتى تتشكل بيئة طينية في بحر الرمل. كما تكونت مغارات تحتمي بها الحياة بين فجوات الصخور المنحوتة والمكومة كحاجز للموج. وحين ينزاح الماء في فترة الجزر يبزغ رف صخري زاخر بالألوان والحياة. هذه الفسيفساء البيئية نتيجة اصطناعية لعمليات الدفن التي صاحبت إنشاء الواجهة البحرية. نتيجة غير متوقعة ورائعة كحلم شفاف.

في هذه الفسيفساء المكانية يمكن إقامة متحف طبيعي صغير يجذب انتباه الصغار والكبار، منتزه طبيعي مصغر لمتعة جديدة ومنظور جديد عن الصحراء التي نعيش فيها. فالأطفال وحتى الكبار في الكويت يكادون لا يعرفون شيئا عن الزخم الحيواني والنباتي في هذه الصحراء " القاحلة " !!! والأطفال في المدارس يفتقرون إلى ثقافة بيئية ، إنهم في حالة جوع طبيعي.

إن الجزء الرملي من الشاطئ يؤوي العديد من الحيوانات المدهشة، فمثلا ينتشر في الجزء الأعلى من الشاطئ عدد من الأهرامات الرملية التي يصل ارتفاعها من 25 إلى 30 سم. وهي تلفت الانتباه من مسافات بعيدة0 إنها بيوت السرطان الشبح Gost Crab شديد الخجل. تبني ذكور هذه السرطانات أهراما رملية، وتعبدعليها طريقا مباشرا إلى فتحة جحورها، وبذا تستدل الإناث على مكان الذكور. أما الجزء الأسفل من الشاطئ الرملي، ذلك الذي يكون مغطى بالماء في فترة المد ، فما أن تنحسر عنه المياه في الجزر حتى تبزغ سرطانات مختلفة من تحت التربة وتفتح أبواب جحورها للسماء والأرض الجافة، منها السرطان العازف للكمان، الذي تتميز ذكوره بمخلب أبيض كبير وشديد اللمعان تحت الشمس، وكذلك هناك نوع من السرطانات دائرية الشكل لا يتجاوز قطرها سنتيمترا واحدا، تترك آثارها واضحة على الرمل. إنها تستخلص من الرمل غذاءها، فتقوم بالتهام الرمل، وابتلاع المواد العضوية فيه، ثم تلفظ الرمل في شكل كريات صغيرة، ومن ثم ترص هذا الكريات في خط مستقيم يبتعد عن مركز الجحر إلى مسافة تصل إلى 12 - 14 سم. وتكرر هذه الخطوط حتى يتشكل عدد من الخطوط الإشعاعية المنطلقة من فتحة الجحر. وألطف ما في هذه الحيوانات وضع التهديد الذي تتخذه حيال أي مصدر للخطر. إنها تقف عاليا على أرجلها الأربعة، وترفع مخلبيها الأماميين في شكل قوس ثم تقفز عاليا في الهواء.

الكهوف الحديثة

وأحد أجمل الحيوانات التي تعيش في البحيرات الصغيرة المتكونة فيما بين الصخور المنحوتة المتراكمة على شكل حاجز للموج، سرطان قرمزي اللون (Charybdis Nator )،12.3سم × 48 سم. تلمحه يختبئ أمام أحد الحواجز وأحيانا يصعد إلى الشاطئ الرملي الذي انحسرت عنه المياه في فترة الجزر. هو أيضا خجول، يهرب إلى البحيرات الداخلية بين الصخور، وإذا جلست على إحدى هذه الكتل، لرأيته يسبح في هذه البحيرات المتكونة بين الصخور المنحوتة.

أيضا توفر هذه الصخور ملجأ طبيعيا لبعض صور الحياة الثابتة أي الملتصقة بالأرض مثل بعض أنواع الأصداف البحرية، والديدان التي تبني لنفسها أنابيب كلسية فوق قاعدة من الصخر غير العضوي. كذلك يزدهر " النو"( Barnicle ) ازدهارا مبشرا بعودة الحياة إلى الشواطئ المدفونة عند هذه الحواجز الصخرية.

وحين يسحب البحر أذيال الماء بعيدا، ينكشف رف صخري وبحيرات منمنمة تتناثر بين الصخور. هنا عندما يصدف الجزر في وقت متأخر من العصر، تجد أسرابا من الأطفال والكبار يبحثون بمتعة ولساعات في خبايا هذه الصخور، تحت كل صخر على الأقل ثلاث صور مختلفة للحياة المرئية بالعين المجردة. السرطانات التي تحتمي تحت الصخور والتي يكون لونها شبيها بألوان الصخور، ونجوم البحر الرمادية المائلة للخضرة، وقنافذ البحر، وشقائق البحر، وأنواع لا حصر لها من الطحالب والأعشاب البحرية. كذلك تسهم الديدان البحرية في بناء هذا الرف الصخري ببيوتها الكلسية، التي بدورها توفر كهوفا صغيرة للحيوانات الأخرى، ومخبأ لبيوضها. هذه المنطقة تتميز بالتنوع الاصطناعي للبيئات الصغيرة التي توفرها، فهي زاخمة بالحياة الحيوانية، ليس فقط بالصور البحرية، بل هناك عدد من الطيور الموجودة بشكل دائم كالنوارس، والبلابل والزرازير، كما يمكن مشاهدة أسراب من أنواع مختلفة من الطيور المهاجرة في بدايات الشتاء والربيع. وتتغير ألوان الرمل والطين والصخور بحسب ما تكتسي به من طحالب ملونة وبما يتناثر بينها من أعشاب بحرية.

كما يمكن استخدام الربوة في أعلى الحاجز للتعريف بالأنواع النباتية الصحراوية المقاومة للملوحة والجفاف الشديدين، وعرض الصور النباتية المحلية الدائمة والفصلية.هذه البقعة تصلح أن تكون محمية منمنمة داخل المدينة، وستكون إضافة مهمة لسلسلة المحميات المزعم إنشاؤها في الكويت، ولن يعيب هذه القطعة صغر حجمها. فلو نظرنا إلى سياسة تصميم الأراضي المحمية لوجدنا أنها تختار وتعزل بحيث تحافظ على أكبر قدر من التنوع الحي، وذلك باستخدام أكبر مساحة ممكنة للحصول على أقصى فاعلية. وقد دار نقاش حاد في الوسط العلمي حول ما إذا كان يجب استخدام قطعة أرض كبيرة ومتصلة ، أو تقسيم الأرض المحمية على عدد من المساحات الصغيرة. فالمحمية الكبيرة ستحوي عددا كبيرا من التنوع والتباين، لكنها بالنسبة للنوع الواحد تضع كل البيض في سلة واحدة. غير أن تقسيم المحمية إلى عدد من القطع يقلل أخطار الكوارث الطبيعية التي قد تؤدي إلى انقراض الأنواع. وقد اقترح بعض علماء الحياة حلا لهذه المشكلة، ألا وهو إقامة عدد من المحميات متوسطة الحجم المتصلة بممر من البيئات الطبيعية. وإذا اختفى نوع من جزء فإنه سيعوض بهجرات من أقربائه في المناطق المجاورة والمحمية بدورها، مثل هذه السياسة تصلح بالذات لحماية السواحل، وخصوصا في بلد صغير المساحة.

دعوة

لقد تحولت منطقة الأبراج إلى مصدر لجذب عدد كبير من المرتادين،66وإقامة محمية صغيرة في هذه المنطقة سيكون لها تأثير ووقع كبيران في الوعي بأهمية الحفاظ على العناصر الطبيعية في البيئة،إضافة إلى الدور الفعلي في حماية الأنواع الموجودة فيها. ولعل التأثير الأكبر سيكون على الصغار. فأطفال الرياض والابتدائي يفاجأون بنشوة وفرح كبيرين عندما يتعاملون مع الحياة بشكل مباشر، عندما يلمسون طائرا، عندما يرون سرطانا يمارس وظائفه اليومية بين أقدامهم اللطيفة، عندما يلمحون نجمة بحر حقيقية، أو يرقبون حلزونا يتزحلق ببطء على الطين تاركا أثرا طويلا في الرمل. كما لا يمكن وصف بريق عيني طفل حين يرى أرجلا صغيرة تزحف حاملة قوقعة أكبر منها، ولا يمكن وصف الخيال المبهور لهذا الطفل حين تشرح له أن هذا هو " السرطان الناسك "، وهو يتخذ من القواقع الميتة بيوتا له. بل حتى المراهقون في المرحلة المتوسطة من الدراسة يفتنون بالحقائق البسيطة للكائن الحي في بيئته الطبيعية. ففي إحدى المرات عندما كنت ألاحظ نوعا من السرطانات الصغيرة في نفس المنطقة التي نتحدث عنها، مر بي أربعة صبية تتراوح أعمارهم ما بين 12 إلى 15 سنة. كانوا في حالة هياج، يهاجمون السرطانات الصغيرة بصخب، كل ما تطلبه الأمر لتهدئتهم شرح مختصر لكيفية التمييز بين الذكر والأنثى في هذا النوع من السرطانات، وكان السكون التام الذي تحلوا به بعد ذلك، والفضول الذكي مفرحين، وشوقهم لمشاهدة المزيد من سلوك السرطانات الصغيرة مبهجا، ولم ينصرفوا إلا حين بدأت أستعد للرحيل. و لن تحتاج إقامة مثل هذه المحمية إلى أكثر من بعض لافتات تحمل صور الحيوانات والنباتات وأماكن وجودها وبعض النصائح حول أفضل الطرق لمراقبتها.

هذا ويمكن استخدام جزء من المدينة المائية لوضع مناظير مكبرة لمشاهدة الطيور المختلفة وبعض السرطانات شديدة الخجل، وربما عدد من دوائر كاميرات الفيديو والتلفزيونات في مسرح صغير، لإقامة عروض صوت وصورة مباشرة.

هذه دعوة لخطوة عملية للحفاظ على اللون والحياة عند أعتاب المدينة، دون عزل المحمية عن المدينة أو حرمان السكان من التمتع بجمال الحياة الطبيعية. وهي دعوة لتوعية الأطفال، وغرس المفاهيم البيئية الصحيحة وتكريس الأخلاق المطلقة التي تحمي كل ما هو حي وذو قيمة من العبث والاستهتار.

 

ليلى سيد موسى

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




سرطان عازف الكمان الذي يعيش على الرمل





الديدان الأنبوبية تساهم في بناء الرف الصخري وتوفر مساكن للحيوانات الأخرى





هدوء الصغار أمام حيوية الحيوانات الضئيلة





سرطان ناسك يختبئ في قوقعة ميتة، ويستكين على قمة النو





القبقب ينتظر عودة المد في البحيرات المالحة الصغيرة





بقرب أبراج الكويت يوجد كنز بيئي صغير