الجمال بدلا من الأبقار سيف الدين الأتاسي

الجمال بدلا من الأبقار

من المؤكد أن أحدا لا يعرف على وجه التحديد أبعاد الأزمة المتعلقة بمرض جنون الأبقار Mad Cow الذي شغل بريطانيا والعالم كله في الفترة الماضية. فالآراء العلمية متضاربة في هذا الصدد منذ أن أعلن في لندن عن إمكان أن ينتقل المرض من لحوم الأبقار المصابة إلى الأفراد.

فالمشكلة التي أثارت ذعرا بين المستهلكين امتدت لمناطق كثيرة في العالم، وشملت الدول العربية، مما أدى إلى انخفاض في استهلاك لحوم الأبقار بشكل حاد حسب كل التقارير الواردة من الأسواق.

وفي إطار ردود الفعل وفي مواجهة الأزمة، فإن العالم ونحن معه نبحث عن بديل على الرغم من أن هناك بديلا قريبا منا ووفيرا، ونحن غير مهتمين به، نتركه لمهب الرياح والعواصف.

ففي الصحراء العربية وطن العرب القديم، ظهر الجمل شاحنة العرب الخارقة التي فتحت أمامهم بوابة الصحراء، والتي تستعد لأن تصبح مصدرا لكل أنواع البروتين الحيواني المختلفة.

فحسب الإحصائية الأخيرة لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية FAO، فإن عدد الجمال في العالم يبلغ حوالي سبعة عشر مليون جمل، منها 15 مليونا ذات السنام الواحد وعشرة ملايين رأس منها موجودة في الوطن العربي أي حوالي 62% من تعدادها.

هذا ويعتبر الجمل ذو السنام الواحد هو الجمل العربي: Arabian Camel المنتشر في مناطق الشرق القديم وشبه الجزيرة العربية، ولقد استأنسه الإنسان منذ القديم، حيث كان سبب استئناسه تحمله للظروف الصعبة وتلاؤمه مع البيئة الصحراوية الجافة، حيث إن الجمال لا تستطيع العيش في المناطق الرطبة لأن أقدامها لا تثبت في الأراضي الطينية، فبسبب الرمل في الصحراء كان الخف، وهو القدم التي لبست قفازا عريضا من لحم طري يلين للرمل مما جعلها تنال بجدارة لقب " سفن الصحراء ".

لقد اكتسب الجمل شهرته نتيجة قدرته الفائقة على تحمل العطش لفترات طويلة في الصحاري الجافة، وفي الأوقات الحارة من السنة، ولقد أظهرت التجارب أن الجمل يستطيع فقد مقدار (40%) من ماء جسمه في الجو الحار دون أن يصاب بالتجفاف (Dehydration ) في حين تهلك العديد من الحيوانات الثديية إذا فقدت 20% من ماء جسمها.

فصيلة الدم الحار

ويستطيع الجمل البقاء دون ماء مدة تتراوح بين ستة وعشرة أيام. ولا يخزن الجمل الماء بل يستطيع قضاء فترات طويلة دون شرب الماء نتيجة لوجود خصائص عديدة تجعله متأقلما فسيولوجيا مع العطش، وهذا يتعلق بآلية التوازن الحراري للجسم، فبالرغم من أن الجمال من حيوانات الدم الحار، فإن درجة حرارة جسمها ليس ثابتا، فلديها القدرة على تغيير درجة حرارة جسمها بالارتفاع والانخفاض. لذلك عندما تشرب الجمال بعد تعطشها لفترات طويلة كميات كبيرة من الماء، فإن شكل كريات الدم الحمراء لديها يجعلها تقاوم الانفجار، لأن من عجائب الجمل أنه خالف كل الفقاريات، ومنها الإنسان في شكل الكريات الحمراء بدمه، حيث تظهر هذه الكريات في الإنسان وسائر الفقاريات بشكل أقراص مستديرة، إلا في الجمال فهي أقراص إهليلجية، وهنا نذكر بقول الخالق : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت.

ويحتمل أن يكون الجمل من أكثر الحيوانات المساء فهمها من باقي الحيوانات الزراعية الاقتصادية الأخرى، فأغلب العلماء عرفوا الكثير عن فسيولوجيته وتشريحه، والقليل جدا من الباحثين اهتموا بدراسة صفاته الإنتاجية، لكن سيثبت المستقبل القريب أهمية الجمل كحيوان اقتصادي صالح للتربية المكثفة.

فالجمال هي الحيوانات المؤهلة لأن تصبح مصدرا للحليب واللحم وخاصة في المناطق الجافة التي لا يتوافر فيها الغطاء النباتي بشكل وفير، حيث إن الجمال لديها القدرة على تحويل النباتات الشوكية التي لا تحتوي على الحد الأدنى من المكونات إلى منتجات غذائية ذات قيمة عالية.

والجمال يلزمها في المتوسط من ست إلى ثماني ساعات يوميا في المرعى، وهذه تحتاج إلى ست ساعات إضافية للاجترار، ومن عاداتها في الرعي صغر حجم القضمة الواحدة من النبات الواحد، مع عدم تركيز المرعى في منطقة محددة، وهذا الأسلوب من الرعي مهم جدا في المحافظة على المراعي من التدهور نتيجة الرعي الجائر. كما أن نمط الرعي في الجمال لا يكون في مناطق دائرية أو شبه دائرية حول نقاط مياه الشرب كما في الأبقار. ولكنه يتم بشكل مدارات طويلة بين عدد من نقاط المياه مع دائرة منسقة حول كل نقطة ماء. وتتحدد فترة الرعي في كل منطقة على وفرة الغذاء، وليس على وفرة المياه، وهي في هذه الصفة أيضا تختلف عن غيرها من الحيوانات، مما يسمح لها بالرعي في مناطق أوسع وبالتالي يكون لها فرصة أكبر للحصول على الغذاء اللازم.

ولقد أثبتت التجارب الحديثة قدرة هذا الحيوان على التكيف والتطبع للعيش حتى في نظام التربية المركزة، حيث إن تعوده وقدرته على التأقلم مع مختلف أصناف الغذاء والمناخ يجعلانه حيوانا جديرا بالاهتمام والتربية على نطاق اقتصادي.

والجمال من الحيوانات التي تحنو على مواليدها، لكن من عاداتها السيئة أنها لا تعطي الحليب إلا بوجود مولودها إلى جانبها بشكل دائم، وتلد الأنثى مرة كل عامين ويمكن أن تعطي مولودين في ثلاث سنوات إذا زودت الصغار بكميات إضافية من الغذاء تساعدها على ذلك، ولكن تحت ظروفنا الصحراوية لا يمكن أن تحدث لأن الوليد عتمد على حليب الأم طوال فترة الرضاعة.

حليب النوق ولحوم الجمال

ويعتبر الحليب من أهم منتجات الجمل الاقتصادية. حيث تنتج النوق كميات غزيرة من الحليب مقارنة بمثيلاتها من الحيوانات الزراعية الأخرى في تلك المناطق الصحراوية والجافة.

وأسوة ببقية الحيوانات اللبونة الأخرى، فإن كمية حليب الناقة نوعيته تعتمد على عدة عوامل منها كمية ونوعية الغذاء والماء والمناخ، إلى جانب كمية الجهد العضلي المبذول بالإضافة إلى أصل الجمل وتركيبه الوراثي. فعندما يحصل البدو على الحليب من النياق يقومون بإجراء انتخاب قاس فطري تبعا لإنتاجها العام من الحليب، فمن أجل الحلابة تنتخب الأمهات الجيدة ذات الإنتاج الأعلى، أملا في الحصول منها على نسل جيد في إنتاجه.

وبشكل عام فإن حليب النياق عادة ما يكون ذا لون أبيض ناصع، وطعم حلو مائل إلى الملوحة وهذا يعتمد على نوع الغذاء الذي تناولته النياق، إلا أنه غالبا ما يعتبر ذا مذاق حاد ومالح الطعم. وهو ذو قوام سميك.

ويتميز حليب النوق بارتفاع كمية الدهن والبروتين والمكونات الأخرى، وهذا دليل على القيمة الغذائية المرتفعة لهذا الحليب، ومن أهم الخصائص لحليب النياق كمية الماء فيه. فقد برهن الباحثان ياغيل واتزيون Yagil & Etzion على أن نسبة الماء فيه تصل لـ 86% عند توافر ماء الشرب ، وترتفع هذه النسبة إلى 91% عندما يشح الماء.

كذلك يصعب تقدير الطاقة الإنتاجية للناقة، وذلك لعدم معرفة كمية الحليب الذي يرضعه الفصيل. فهي كما ذكرنا لا تعطي الحليب إلا بوجود مولودها إلى جانبها بشكل دائم،وعليه تبقى الأرقام تقريبية وفي حدود التخمين ، وتدل التقديرات المقبولة للإنتاجية اليومية على أنها قد تصل إلى ستة كيلو جرامات في المتوسط خلال موسم الحلابة والذي يمتد إلى حوالي أحد عشر شهرا، وخلال فترة الرضاعة يستهلك المولود نصف إنتاج الأم، ويكون النصف الآخر متاحا للاستهلاك.

حليب يقاوم الجراثيم

ويوجد في حليب النياق، مركبات ذات طبيعة بروتينية كمضادات التخثر ومضادات التسمم، ومضادات التجرثم والأجسام المانعة وغيرها. وصفة مقاومة التجرثم هذه مهمة جدا في حليب الجمال، فخلال فترة محددة من الزمن تمنع هذه الأجسام تكاثر الأحياء الدقيقة في الحليب ، لهذا فهو لا يتجبن، وبسبب ارتفاع مقدرته على مقاومة التجرثم فإن الحموضة لا تسرع إليه، حيث يستطيع المحافظة على حموضته الطبيعية لمدة 24 ساعة، في الوقت الذي لا يحافظ فيه حليب الأبقار على حموضته الطبيعية لأكثر من 6 ساعات حيث يتجبن بعدها. فصفة مقاومة التجرثم في حليب الناقة من الصفات الممتازة القيمة لأنها تسمح بتحديد مدة حفظه وتصنيعه، وهذا كله يوضح أن الجمال كحيوانات للحليب تفضل عن الأبقار وغيرها من الحيوانات الاقتصادية في مناطق الرعي الجافة.

كذلك ونتيجة للظروف المستجدة والحديثة يجب أن تزيد الأبحاث لدراسة مختلف النقاط الجوهرية لمعرفة كل ما يتعلق بلحوم الجمال، لأن إنتاج اللحم في الجمال وتصنيعه لمختلف الأغراض لا يزال بحاجة إلى الشرح والتوضيح. وبالرغم من أن لحم الجمال طعام مألوف في عدة مدن من شمال إفريقيا والجزيرة العربية، فإنه يبدو من الإحصاءات المتوافرة والأرقام المنشورة أن الاستهلاك العام من لحوم الجمال لا يزال قليلا. فعلى سبيل المثال، فإن أغلب العشائر البدوية التي تمتلك الجمال لا تأكل لحمها إلا عند الضرورة القصوى، كالاحتفالات والمناسبات المختلفة أو قد تنحر الجمال لأغراض إقامة الشعائر والضحايا في مواسم الأعياد.

وتحدد صفة إنتاج اللحم في الجمال كما في بقية الحيوانات الزراعية الأخرى، ومن هذه الصفات درجة النضج الجنسي المبكر والقدرة على تحويل الأعلاف إلى وزن صحي ودرجة ترسيب اللحم ونسبة تصافي الذبيحة.

لذلك فإنه عند وجود المراعي الغنية والتغذية الجيدة يحصل النمو والتطور في الجمال الفتية بشكل سريع نسبيا، ولقد وجد أن ترك الجمال تسرح في المراعي طوال العام فإنها تخسر في أوزانها وخصوصا في فصل الشتاء. وهذا يدل على أن تقديم الأعلاف المركزة للجمال خلال أشهر الشتاء مهم جدا لتأمين متطلبات النمو، لذا يجب تنظيم فترات تسمين الجمال من أجل الحصول على أحسن نوعية من اللحم.

ولقد أجريت عدة أبحاث لمعرفة التركيب الكيماوي للحم الجمل والوصف الظاهري له. وأوضح بحث لفريق علمي من جامعة البترول والمعادن في الظهران برئاسة الدكتور طارق نديم روضة، أن لحوم الجمال تتميز عن اللحوم التقليدية للحيوانات الاقتصادية الأخرى كالبقر والغنم بميزتين هما قلة موادها الدهنية وارتفاع نسبة المياه فيها. حيث تتراوح نسبة المواد الدهنية في لحوم الجمال ما بين 1.2% إلى 1.8% بينما تتراوح في لحم البقر مثلا بين 4% و 8%، كذلك يشكل الماء في لحم الجمل نسبة (78%) مقارنة بلحم البقر، كما أن لحم الجمل غني بالبروتينات حيث تصل نسبتها إلى 19% وبالعناصر المعدنية. ويعني ذلك أن استهلاك لحوم الجمال بدلا من لحوم المواشي الأخرى لا يقلل فقط من نسبة الدهون، بل يؤدي إلى التقليل من استهلاك الأحماض المشبعة، والتي يعتقد أن لها صلة بأمراض القلب. ولأن الجمال لا تزال تربى على المراعي الطبيعية في المناطق المنتشرة فيها، فإن تشجيع المستهلكين على التعود على أكل لحوم الجمال يجنبهم القلق المستمر وحالات الهلع الهستيري التي تصيب العالم بين الحين والآخر نتيجة اكتشاف العلماء والأطباء البيطريين أمراضا مشتركة جديدة أو معرفة معلومات جديدة عن أمراض كانت مكتشفة منذ أزمان بعيدة، عندها نسمح للمستهلك بأن تكون لديه فرصة للاختيار ما بين مصادر البروتين الحيواني المختلفة. فالحقيقة الواضحة أن المراعي التي لا تنتج من الأعلاف الطبيعية ما يكفي لمختلف أنواع الماشية يمكن تحميل الجمال عليها، كما أن الاستخدام الطبيعي للمرعى بدورات حماية ثم رعي تعد واحدة من أهم العوامل المساعدة على نجاح تربية الجمال للتسمين في المناطق الجافة من العالم.

كما يغطي جسم الجمل جلد سميك، ويكسوه شعر كثيف وقصير يدعى بالوبر، ويعتبر وبر الجمل خفيفا ومتينا، يمتاز بقلة توصيله للحرارة، علاوة على لونه الطبيعي المرغوب، حيث يعتبر وبر الجمال اقتصاديا منذ القدم، حيث استعمل في صناعة العباءات البدوية وبعض أنواع السجاد، وحاليا يعتبر المادة الخام المفضلة في صناعة فراشي جني العسل. لا شك إذن أن الجمال هي الحيوانات المؤهلة لأن تصبح مصدرا للحليب واللحم والجلود في المناطق الجافة ، لذلك يجب أن ترصد البرامج من أجل الحفاظ عليها، وحمايتها وتحسين إنتاجها وتطوير برامج تربيتها، لأن ما حققته تطبيقات الهندسة الوراثية من إنجازات متتالية لسلالات الأبقار بوسعنا تطبيقها على الجمال، فليس هناك أي عائق تقني أمام تطوير فصائل محسنة من نياق الحليب وجمال اللحم، سوى أن المشرفين والمخططين لبرامج تنمية الثروة الحيوانية في وطننا الكبير، قد أقاموا صناعة الألبان واللحوم في منطقتنا، ومنذ زمن بعيد، على أكتاف بقرة مستوردة تم تطويرها في بيئتها الأصلية الطبيعية بالغرب وجعلوها مصنعا متحركا، يستهلك يوميا كمية هائلة من العشب الأخضر الطازج ويحولها لإنتاج عالي الغلة من الحليب واللحم، وهذه الصفقة تعتبر فقة رابحة في الغرب، حيث تتوافر المراعي الخضراء طوال العام، أما في مناطقنا الجافة وشديدة الجفاف فقد كان وصول هذه البقرة النهمة إلى مزارعنا كارثة، فهي لا تستطيع أن ترعى شجيراتنا وأعشابنا المنتشرة في بوادينا، والمشرفون على المزارع في منطقتنا لا يجدون ما يقدمونه لها، لكي تبقى محافظة على صفاتها الوراثية كمصنع متحرك، لأن سعر الحليب واللحم المستورد أرخص بكثير من سعر عشائها.

فمن المؤكد أن التجمعات البشرية التي اختارت العيش في الصحراء وعلى تخومها قد اتبعت نمطا للحياة يتواءم مع متطلبات البيئة، وربما كان كل جوهر مشكلة التنمية في مناطقنا هو أن نسعى لتطوير مفردات هذه البيئة بنقل تكنولوجيا مستوردة دون إحداث تغيرات عميقة في مصيرها لاستيعابها وهضمها.

فمن معطيات البيئة لا نستطيع الهرب فكلما ابتعدنا عنها تقترب منا، فهي الحياة التي تمتلئ بالحنان لتعطي علاقات جديدة من الوجد، فيها القرب عن بعد!! لذلك فعند التخطيط لمشاريع التنمية في وطننا الكبير لا بد من ملاحظة دفء المكان وحنان الهوية.

 

سيف الدين الأتاسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الجمال بدلا من الأبقار