شكسبير.. ما زال على الشاشة محمد رضا

شكسبير.. ما زال على الشاشة

الجميع يتحدث هذه الأيام عن شكسبير. ليس على المسرح فقط، حيث شكسبير ما زال عماد النشاط المسرحي حول العالم والامتحان الذي تقاس به جميع الإنتاجات والمواهب، بل على الشاشة الكبيرة أيضا، بل وعلى الأخص الإنتاجات الجديدة المقتبسة أو القائمة على مسرحياته وهي واحدة من أهم ظواهر السينما الغربية حاليا. وفي حين تعاملت السينما الغربية ( والأمريكية تحديدا ) مع المسرح كمصدر على نحو شبه دائم، فإن تلك المستندة إلى أعمال ويليام شكسبير كانت الأكثر تواصلا وأهمية، والأكثر استحواذا على رغبة السينمائيين لتقديمها.

إن مسرحيات الكاتب الكبير ( 1564- 1616 ) صعبة الإنجاز ضمن هيكليتها التقليدية، أو الأصلية، فما البال عندما يحاول السينمائيون تحويلها إلى السينما متدخلين في بنائها الخاص وساعين إلى التحرر من قيد المشهد الواحد والفصل الواحد لتزويد العمل بما يتطلبه من لغة سينمائية ؟

تريفور نن، المخرج المسرحي الذي كان حتى وقت قريب رئيس "مؤسسة شكسبير الملكية" في بريطانيا سوف ينتقل بعد أشهر لرئاسة "المسرح الملكي الوطني" والذي يحضر حاليا لفيلم مقتبس عن "الليلة الثانية عشرة" - يقول لي في حديث قصير على الهاتف : "إحدى المشاكل الأصعب التي تواجه أي سينمائي يريد تحقيق فيلم مقتبس عن أي من مسرحيات شكسبير هي تمييزه الفارق بين الاقتباس وتصوير المسرحية. الاقتباس يعني معرفة ماذا تنقل وماذا تترك من المشاهد والحوارات على نحو لا يضر بالمسرحية ويحافظ على فحواها وروحها. تصوير المسرحية هو مجرد وضع الكاميرا لتصور ما كان يمكن أن يدور على المسرح من دون تدخل في النقل، وهذا يؤدي إلى فشل الاقتباس حتى ولو تم اقتطاعه".

ويضيف : "لقد شاهدت العديد من الاقتباسات السينمائية التي تجعل شكسبير يتلوى في قبره. المحك الأساسي هو كيف يتوجه الممثل إلى الكاميرا مستبدلا المشاهد بها ؟ كيف يتعامل المخرج مع المادة ؟، وما هي خطته للحفاظ على شكسبيرية النص ؟".

الاقتباسات الأولى

هذه المحاذير لم تثن السينمائيين من التطرق إلى شكسبير منذ عهد السينما الصامتة. بل إن ويليام شكسبير هو المؤلف الذي شهدت أعماله أعلى قدر من الاقتباسات، وذلك حسب كتاب "جينيس للأفلام" طبعة 1993 التي قدرت عدد الأفلام التي اقتبست عن أعماله بـ 307 أعمال مختلفة. ويمكن أن نضيف نحو عشرة أعمال تم إنتاجها خلال السنوات الثلاث الأخيرة مما يرفع الرقم إلى مقياس جديد.

من المرات الأولى التي نقلت فيها الشاشة الكبيرة شكسبير كانت عام 1908 عندما قام د.و. غريفيث بتقديم فيلم قصير عن "ترويض المرأة السليطة"(The Taming of the Shrew)، ولا يمكن بالطبع البحث عن منافذ فنية في فيلم قدر له أن يتجاوز الدقائق العشر حينها حتى ولو كان من نتاج غيريفيث، أحد أفضل سينمائيي عصره.

قبل ذلك، تفيد بعض المراجع أن السينما الفرنسية كانت قد عرفت شكسبير عن طريق نسخة مصورة من "هاملت" عام1900 مع سارا برنارد في البطولة. والمخرج الفرنسي جورج ميلييه غازل "هاملت" مجددا عام 1907 وتبعه عام 1908 هالك غراتيلا، وهو العام الذي يذكر فيه بعض المؤرخين أن السينما الفرنسية صورت ثلاث نسخ أخرى من "هاملت" من قبل أن تنتقل حمى "هاملت" لتصيب السينما الإيطالية والبريطانية والأمريكية، بل والهندية من خلال فيلمين صورا اقتباسا عن المسرحية المذكورة عام 1927 و عام 1928.

في المجمل، يبدو أن مسرحية "هاملت" صورت 75 مرة ( من بينها ست مرات كانت تحديثا تم فيها نقل الفترة الزمنية إلى عصر آخر )، تتبعها مسرحية "روميو وجولييت"، التي صورت خمسين مرة على الأقل، ثم "ماكبث" (34مرة) ثم "حلم منتصف ليلة صيف" (22مرة) و "عطيل" (17مرة) وقد أخذت في عين الاعتبار ضم آخر الإنتاجات على الأرقام المذكورة في المراجع. وهناك الكثير جدا مما يمكن الحديث عنه هنا في أمر تلك الاقتباسات لو أن المجال يسمح بذلك، والأفضل للغاية الرجوع إلى كتاب "شكسبير في الأفلام" (Shakespeare in films) لمؤلفه روجر مانفل(Roger Manvell) الذي نشر عام 1971، ولو أنني غير متأكد من وجوده اليوم في جميع المكتبات.

لكن لا بأس من التوقف عند محطات مختلفة في رحلة شكسبير على الشاشة من قبل أن نعرج على الإنتاجات الجديدة المقتبسة عنه.

بالنسبة إلى "ترويض المرأة السليطة" فإن ماري بيكفورد لعبت الدور في نسخة عام 1929 في تلك النسخة الناطقة - وإلى جانب اسم بيكفورد وشريكها في البطولة دوغلاس فيربانكس - تم ذكر عبارة عكست مفهوم المعالجة بأسرها. العبارة هي : "بقلم وليام شكسبير مع حوار إضافي من سام تايلور".

سام تايلور لم يكن سوى مخرج كوميديات حقق لها رولد لويد بعض أفضل أعماله في العقد الثاني من القرن، من قبل أن ينقلب إلى الدراما مختارا مسرحية شكسبير للبرهنة على فعاليته في هذا المجال. لكن التدخل كان سافرا والنتيجة أقل من المستوى المطلوب وبدا الفيلم صراعا بين الذكر والأنثى أكثر منه مرجعية ذات خلفية أدبية وإنسانية. في نهاية الفيلم تغمز ماري بيكفورد المشاهدين في لقطة موجهة مباشرة إلى الكاميرا لتؤكد أنها ما زالت مسيطرة على الوضع بأسره وأن معركة الأجناس انتهت لصالحها.

"هاملت"، كما يقول عنها المخرج البريطاني كينيث براناه الذي أعاد إحياء شكسبير على الشاشة أخيرا من خلال سلسلة من أفلامه التي شملت "هنري الخامس" و "كثير من اللغط حول لا شيء" و "في منتصف شتاء حالك" ( وهذه تدور حول فرقة تتمرن على تقديم إحدى مسرحيات شكسبير كما سيمر معنا )، يقول إن "هاملت" هي "محور أعمال شكسبير، إنها حيث تتوجه المسرحيات (الأخرى) وتنبع". لكن وجهة النظر هذه، وهي حقه، لم تكن السبب الرئيسي الذي دفع هوليوود لاقتباسها في سلسلة مختلفة من الأفلام. لقد وجدت فيها مادة يمكن تلوينها وطيها وليها في أكثر من اتجاه، وإلا لما خرجت أفلام مثل "جوني هاملت" وهو وسترن من صنع ألماني خرج أيام طفرة أفلام الغرب الأمريكي التي صنعت في أوربا.

"ماكبث" نتج عنها، فيما نتج، فيلم بعنوان "جو ماكبث" بينما تم الاستناد إلى عقدة مسرحية "جوليوس سيزار" - أو "يوليوس قيصر" في فيلم بوليسي بعنوان "جريمة شريفة" عام 1959.

هذا ليس للتقليل مطلقا من قيمة العديد من الأعمال المسرحية السابقة في هذا السياق. فالتاريخ مليء بالمحاولات الجادة في هذا الاتجاه. "عطيل" مثلا ظهرت منذ عام 1922 في سلسلة من الأفلام الجيدة من بينها نسخة لورانس أوليفييه عام 1966الذي عمد إلى شكسبير أكثر من مرة. هناك أيضا نسخة اورسون ويلز عام 1952 ونسخة المخرج الروسي الراحل سيرجي بونداتشوك عام 1955. و "هاملت" ظهرت على يدي ماكسميليان شل في فيلم ألماني جيد عام 1960 وعلى يدي المخرج الروسي اينوكنتي سموكتونفسكي عام 1964 وفي فيلم بريطاني ممتاز أخرجه فرانكو زيفريللي عام 1990 وهو سبق أن قدم واحدا من أفضل اقتباسات "روميو وجولييت" الحديثة عام 1968.

ونفس الأمر يمكن أن يقال عن باقي أعمال شكسبير مثل "العاصفة" و "هنري الرابع" و "هنري الخامس" و "الملك لير" و "ماكبث" والأخيران تحولا على يدي المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروساوا إلى فيلمين كلاسيكيين بديعين.

لكن إحدى أقل مسرحيات شكسبير تعرضا للنقل السينمائي هي "تاجر البندقية" التي أقدمت عليها السينما الأمريكية مرتين فقط كلاهما صامتتان، الأولى عام 1914 والثانية عام 1916. والمبرر المعروف الوحيد الداعي لعدم إعارة هذه المسرحية الاهتمام الذي تستحقه يعود إلى أن شخصية يعقوب اليهودي فيها لا تبدو إيجابية - وهي ليست كذلك فعلا - بالنسبة للكثيرين مما يدفع للحذر من تحويلها إلى السينما خوفا من اتهام المقدمين على ذلك التحويل بالمعاداة للسامية.

الإنتاجات الجديدة

شكسبير التسعينيات، بعد كل ذلك العدد من التجارب التي أجريت على مسرحياته، ما زال نجما بالمعنى السينمائي للكلمة. وعدد كبير من الممثلين يقبلون الدعوة إلى تمثيل دور شكسبيري، لأنه بمنزلة البرهان على جدارتهم الفنية ووسط سيل الأفلام التي يقبلون تلبيتها لدواعي المال والشهرة.

في عام 1990عندما قام ميل جيبسون بتمثيل "هاملت" من إخراج فرانكو زيفريللي، أثار اهتمامه بالدور قدرا كبيرا من التساؤلات، وربما قدرا أكبر من السخرية. هذا ممثل قام على تأدية الأفلام البوليسية وأفلام الحركة (الأكشن) فكيف يعتقد أنه يستطيع الانتقال إلى عالم شكسبير الرفيع والمتقن والصعب ؟

لكن جيبسون فاجأ العديدين بمستواه، وأولئك الذين قارنوه بلورانس أوليفييه في ذات الدور، اكتشفوا أن الممثل يستطيع صياغة هاملت خاص من دون أن يعاني العمل من جراء ذلك أو يبتعد عن جوهره.

"هاملت" جاء بعد عام واحد على قيام ممثل بريطاني موهوب اسمه كينيث براناه بنقل مسرحية كان مثلها عدة مرات على الخشبة إلى فيلم سينمائي. المسرحية هي "هنري الخامس" التي قام براناه بإخراجها بنفسه.

هنا عاش شكسبير من جديد وشهد رواجا لم يشهده منذ أيام "روميو وجولييت" لفرانكو زيفريللي عام 1968.

وزيفريللي لم يخرج فقط "روميو وجولييت" عن شكسبير، بل لديه أيضا نسخته الخاصة عن "عطيل" وذلك عام 1986 أي قبل أربع سنوات من إخراجه "هاملت"، لكن "عطيل" لم يحقق نجاحا يذكر آنذاك.

انتقل كينيث براناه إلى بضعة أفلام أخرى ( منها "ميت مجددا" و "أصدقاء بيترز" ) لكنه عاد إلى شكسبير بنجاح عندما قدم "لغط شديد حول لا شيء"، المسرحية الوحيدة لوليام شكسبير التي يمكن وصفها بالكوميدية. ومثل "هنري الخامس" فإن براناه يصرف عناية فائقة على إخراج المسرحية بروح تحفظ معينها وهويتها وفي ذات الوقت ينجح في تقديم فيلم يشد إليه كل أولئك الذين ما زالوا يبحثون عن الفيلم الأسمي ويرونه ممثلا بالأعمال والاقتباسات الأدبية.

في العام الماضي أنجز براناه فيلمين لهما علاقة بشكسبير: لعب دورا مساندا في "عطيل" جديد من بطولة الممثل الأمريكي الأسود لورانس فيشبورن، ومثل وأخرج فيلما بعنوان "منتصف شتاء حالك" يدور حول فرقة من الممثلين المسرحيين يحاولون إجراء تمارين على مسرحية هاملت لكنهم يواجهون بافتقارهم إلى المال والجمهور. ما يوحد بينهم في النهاية ذلك الحب الدافق للفن برغم اختلاف نوازعهم.

هذا العام، يعود براناه إلى شكسبير فهو انتهى من تصوير وإخراج "هاملت" التي يراها براناه مماثلة للمجتمع المعاصر كما كانت مماثلة للمجتمع الذي كتبت فيه ( إنها حول صعوبة ممارسة الحرية عندما يفتقد المرء حياة خاصة به. عندما يكون شخصية مطروحة على صعيد عام. "هاملت" هي المكان الذي تذهب إليه وتعود منه باقي المسرحيات كما يضيف، والمرآة العاكسة لحياة أبطالها أكثر من أي مسرحية شكسبيرية أخرى:

كل حياتي وأعمالي كان لا بد أن تؤدي بي إلى "هاملت").

كينيث براناه ليس وحده في هذه الطموحات.

الممثل المسرحي ايان ماكيلين كان قد انتهى في مطلع هذا العام من تمثيل وإخراج "ريتشارد الثالث" وما فعله ماكيلين هو نقل الأحداث من شرنقتها التاريخية إلى ثلاثينيات هذا القرن.

النتيجة ليست سوية، والأحداث، كما أخرجها ريتشارد لونكران، لا تهضم سريعا تبعا للتحولات الناتجة. لكن الربط بين قصة الفيلم والمسرحية - كما كتبت - جيد، ففي روح "ريتشارد الثالث" ذلك الاهتمام بتصوير السلطة المتفردة، وهو نفسه ما يبحث فيه الفيلم الجديد من خلال تقديم قصة حاكم فاشي عنيف. وعلينا أن نرى كيف قام آل باتشينو باستيحاء المسرحية نفسها لاستخدام آخر في فيلمه الجديد "البحث عن ريتشارد". كذلك بانتظار قيام المخرج المسرحي الممتاز تريفور نان بتقديم "الليلة الثانية عشرة" على الشاشة الكبيرة في العام المقبل.

فجأة شكسبير في مقدمة اهتمام السينمائيين البريطانيين والأمريكيين، وهوليوود - المحافظة على نوعياتها الخفيفة - هي الممول الرئيسي وسط استغراب العديدين. لكن لننظر إلى الأمر على أنه ميراث شكسبير للمدنية المعاصرة. الهواء غير الملوث الذي يمنح عشاق السينما والأدب على حد سواء انتعاشا حقيقيا. هناك غيره من الهواء غير الملوث، وبعض هؤلاء من عندنا، لكن إلى الآن فإننا ناجحون في إقفال شخصياتنا التاريخية عن المشاركة في صنع حاضرنا. ولا أدري إلى متى سننجح في ممارسة هذا التدمير الذاتي الغريب؟.

 

محمد رضا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




كينيث براناه كما يبدو في فيلم عطيل





لقطة أخرى من عطيل يبدو فيها الممثل لورانس فيشبورن





من ريتشارد الثالث: تحديث





ميل جيبسون كما بدا في هاملت: الفيلم الأول في صحوة شكسبير الحديثة