نيران الحرب حرائق النفط في لوحات فنانة أمريكية أحمد خضر

نيران الحرب حرائق النفط في لوحات فنانة أمريكية

سوزان كرايل فنانة أمريكية بارزة. زارت الكويت بدعوة خاصة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الذي قام بتنظيم معرض لأعمالها في إطار نشاطات مهرجان القرين الثقافي الثاني وقدمت فيه سلسلة من الأعمال الكبيرة التي استلهمتها من كارثة إحراق الغزاة العراقيين آبار النفط الكويتية قبيل انسحابهم. وجاء عنوان هذا المعرض "نيران الحرب". وقد قدم الدكتور سليمان العسكري، الأمين العام للمجلس، كتالوج المعرض بقوله: "الفنان هو ضمير العالم. ذلك ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا ونحن نشاهد هذا المعرض الرائع للفنانة الأمريكية البارزة سوزان كرايل... فسلسلة لوحات "نيران الحرب" ليست سوى صرخة الفنانة إزاء تلك البشاعة التي يمكن أن يصبها الطغاة على عالمنا المثقل بالقبح.. لقد أدركت سوزان كرايل أن إدانة هذا العمل تتطلب في المقام الأول توثيقه، الأمر الذي دفعها إلى المخاطرة بزيارة حقول النفط المحترقة. لذا، جاءت لوحات "نيران الحرب" أقوى تأثيرا من الكلمات. إدانة بالغة لأبشع كارثة بيئية متعمدة يصنعها الإنسان. وباستخدام تشكيلة مكثفة من الألوان السوداء والبرتقالية والصفراء والأرجوانية، قدمت رؤية بانورامية تفاعلت فيها قوة النيران مع الدمار والرعب والجمال".

ويقول عنها جريمي ستريك أمين الفن الحديث بمتحف سان لويس: ربما أثارت أحدث مجموعة للفنانة سوزان كرايل، وهي "نيران الحرب" مشاعر الدهشة لدى من عرفوا أعمالها في السبعينيات والثمانينيات. فقد بنت كرايل شهرتها كرسامة للتجريدات المعقدة التي تتصف بالألوان المتوهجة والنسيج المتداخل من المسطحات والمسافات. ويمكن وصف أغلب أعمالها الأولى بأنها نوع من المشاهد الريفية المجردة، تبرز على التوالي Canvas عالما مثاليا من الأشكال والألوان الحسية التي تستخدم تقاليد القرن العشرين التي جسدها ماتيس. وعلى النقيض من ذلك، فإن "نيران الحرب" تواجه بأقصى التعبير الحي موضوعا عن الوحشية المخيفة: الحرب والكارثة البيئية. وقليل من الفنانين بعد فترة الحرب العالمية الثانية تعرضوا لمثل هذه الموضوعات في الرسم بالألوان والتصوير. وتبرز لوحات "نيران الحرب" بوصفها أفضل تصوير لهذا الموضوع خلال فترة طويلة.

وانجذبت سوزان كرايل نحو تصوير هذه الكارثة بمزيج من الشعور الغاضب الحانق والسعي لمجابهة اللامبالاة النسبية التي قوبل بها هذا العمل الإجرامي. لقد كانت حرب الخليج حربا تلفزيونية مقارنة بكل النزاعات السابقة. حيث استطاع المشاهدون متابعة الاستعدادات الحربية والحرب نفسها في نفس وقت الأحداث، وهم يرون سلسلة من المشاهد الحية المروعة. وعلى غير المتوقع، فقد ولد هذا الإفراط في المعلومات المتلفزة شعورا بعدم الارتباط. فحين اختزلت حرب الخليج إلى حجم شاشة التلفزيون، أصبحت أحداثها كأحد المسلسلات الدرامية الكثيرة في التلفزيون. وعندما توقفت الحرب فجأة، تحول الاهتمام الشعبي بنفس السرعة إلى الدراما التالية في التلفزيون.

وبالنسبة لكرايل، فقد وضعها عدم اكتراث الرأي العام إزاء الكارثة البيئية أمام تحد فني. أن تعيد تقديم حرائق الآبار بطريقة أكثر كثافة واستحواذا وأكثر قدرة على جذب الانتباه والاهتمام من آلاف الصور التلفزيونية وصور الجرائد التي نشرت من قبل. وبعد شهور من الجهود المتواصلة، حصلت كرايل على تأشيرة دخول إلى الكويت وتصريح بدخول حقول النفط المشتعلة. أمضت كرايل عشرة أيام في حقول الزيت ترسم الإسكتشات وتلتقط الصور. وعند عودتها إلى الاستوديو في نيويورك، بدأت في عمل اللوحات الزيتية والرسوم التي تمثل نيران الحرب.

ولوحة ( النار في المرة القادمة )، وهي أضخم الأعمال في تلك السلسلة، هي لوحة زيتية لمنظر طبيعي يمتد بعرض 40 قدما. وتشتمل اللوحة على خمس خانات منفصلة كل منها تظهر المنظر من زاوية مختارة مختلفة قليلا. وتبدو اللوحة بالعرض وهي تحتوي المشاهد داخل بانوراما الدمار. وقرب الخانة الوسطى للوحة ( النار في المرة القادمة )، نجد الشعور بالموضوعية الآلية والبعد، التي عادة ما نشاهد بهما الأعمال الفنية، يخف بفعل الطريقة التي تملأ بها اللوحة مجال رؤيتنا وبفعل منظورنا القوي الذي يجذبنا إلى المنظر الطبيعي. ومع ذلك فعند النظر عبر اللوحة يجب أن نعترف بالنقلات البارعة في المنظور من خانة إلى الخانة التي تليها. وكل ذلك له الأثر في اقتلاعنا، وجعلنا ندرك العلاقة بين خانة وأخرى وتجعلنا نتساءل عن مكاننا في إطار هذا الكل.

وقد ذهبنا للقائها وأسئلة كثيرة تدور في أذهاننا حول هذا العمل غير المسبوق الذي أثار اهتماما فنيا واسعا، ودار بيننا الحوار التالي:

* هل يمكن أن تقدمي لنا نفسك ؟

- ولدت عام 1942 في كليفلاند، وتخرجت في كلية الآداب في عام 1965 ، وأعمل الآن أستاذة في كلية هنتر للفنون في نيويورك وأستاذة مقيمة في الأكاديمية الأمريكية للفنون في روما.

* كيف بدأت فكرة معرض "نيران الحرب" ؟

- في بداية الحرب، أفزعني ذلك الأسلوب البارد المحايد الذي تعاملوا به معها، فقد كانوا يتحدثون عن الحرب وكأنهم يتحدثون عن أشياء لا عن بشر. وأفزعني أيضا الضرر الذي يمكن أن يسببه إنسان واحد للبشرية والطبيعة. إنني هنا لا أتحدث عن السياسة، وإنما أتحدث عن تلك الروح اللامبالية التي أصبح الإنسان يتعامل بها مع عالمه. بدا الأمر كله وكأنه يحدث في عالم آخر. وكانت وسائل الإعلام تتحدث عن القنابل الذكية وقوتها التدميرية وكأنهم يتحدثون عن ألعاب الفيديو. لكن عندما رأيت حرائق النفط، أحسست بأن الأمر تجاوز كل الحدود. كانت الصورة شديدة القبح وأحسست لحظتها أنه ينبغي علي أن أفعل شيئا لتسجيل تلك الجريمة لكي تبقى عالقة بذاكرة الناس. فقد كانت الكارثة أبشع جريمة متعمدة من صنع الإنسان منذ هيروشيما.

* رغم الخطر ماذا كان شعورك عندما قررت الذهاب إلى الكويت في ظل هذه الظروف الخطرة ؟

- لا أكذب عليك كنت مرتعبة ومترددة، لكنني حزمت أمري في شهر مايو وقررت الذهاب. وعندما نقلت طلبي هذا إلى السفارة الكويتية رفضوا طلبي وقالوا إن الظروف في الكويت خطرة للغاية، وإنهم لا يستطيعون تحمل مسئولية الضرر الذي قد يصيبني. لكن الفكرة سيطرت علي تماما. فطرقت كل الأبواب حتى وصلت إلى باب الشيخ سعود ناصر الصباح ، السفير الكويتي في واشنطن آنذاك ووزير الإعلام الحالي. وقد كان متفهما للغاية ومؤمنا بضرورة توثيق هذه الجريمة فنيا. وقد قدم لي كل التسهيلات. وأنا مدينة له للمساعدات التي قدمها لي.

* كيف كان الوضع آنذاك ؟

- كان الأمر يبدو وكأنه نهاية أو بداية العالم، أو قل الجحيم بعينه. لا توجد لغة يمكنها أن تصف شياطين الجحيم وهي تتراقص في السماء، اللهيب والضجيج والحرارة وصوت الانفجارات. الرعب والفزع والدمار والنيران. وكان هناك أيضا جمال غير محدود.

*كيف ؟

- للنيران سحرها الفائق وجاذبيتها الرهيبة. فالنيران جزء من الطبيعة الخالدة، وهي تشدك إليها برقصاتها الشيطانية وتحولاتها وعنفوانها. وإذا عدنا إلى الميثولوجيا اليونانية فستجد أن النيران هي بداية حياة. فبروميثيوس عوقب على سرقته النار من الآلهة. كانت النار إذن هي بداية الحياة، لكن نهايتها أيضا. ولا يمكن أن أصف لك جاذبيتها الرهيبة وجمالها الأخاذ. كان الأمر يبدو أحيانا وكأن القمر يضيء كبد السماء في الثانية عشرة ظهرا. كانت المفارقات تتوالى. شد وجذب بين السحر والرعب، بين الفضول والخوف.

*ماذا فعلت بعد عودتك إلى نيويورك ؟

- التقطت أثناء وجودي في الكويت عددا كبيرا من الصور الفوتوغرافية، ورسمت العديد من الاسكتشات. وقررت أن أصب كل ذلك في لوحاتي. فقد كانت الحرب أقرب إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تليفزيوني من إنتاج سي. إن. إن. وكان هناك الكثير من الصور التلفزيونية. لكنها بدت كلها غير حقيقية. فالفيديو يلتقط اللحظة، لكن الرسم يبقي اللحظة ويمنحها بعدا إضافيا فالعلاقة بين اللوحة والإنسان أعمق بكثير من العلاقة بينه وبين صورة الفيديو العابرة.

* صورت المأساة في لوحات ضخمة للغاية وصلت مساحة إحداها إلى مائتين وثمانين قدما. هل رسمت من قبل لوحات بهذا الحجم ؟ وماذا كنت تقصدين باستخدام هذه المساحات الكبيرة ؟

- لقد رسمت لوحات كبيرة من قبل، لكن ليس بهذا الحجم. وقد أردت هنا أن تكون اللوحة أكبر من الإنسان. بل قل أن تحتويه، ليس فنيا فحسب، بل وجسديا أيضا.

* لجأت إلى تصوير معاناة الطبيعة. أما كان من الأجدر بك أن تصوري معاناة الإنسان نفسه من جراء الحرب، خاصة أن فنانين كبارا من أمثال بيكاسو قد خلدوا معاناة الإنسان في أعمالهم ؟

- أعتقد أن تصوير معاناة الإنسان صعب للغاية. أنا أميل إلى تصوير جويا . فمعاناة الإنسان عند جويا تشعر بها وكأنها كابوس جاثم على صدرك. لكنني لا أميل إلى تصوير بيكاسو الذي تشعر به عقليا أكثر. أما أنا فكان هدفي أكبر من تصوير معاناة الإنسان. وأردت من غيابه أن يتناسب مع حجم الرعب والدمار. إنه شيء أكبر من الإنسان. بل إنك تشعر في اللوحة الواحدة بصراع عنيف بين الأضداد، أحيانا تشعر بجمال أخاذ وأحيانا أخرى تشعر بفزع رهيب.

* هل ستؤثر نيران الحرب على أعمالك مستقبلا ؟

- بالتأكيد ستؤثر. ففي مرسمي في روما تجد النيران على جانب من الغرفة، وعلى الجانب الآخر تجد صورا لشوارع روما وأضوائها، إنهما جانبان داخلي، المظلم والمضيء.

* في أكبر لوحاتك بدا المشهد وكأنه غير مكتمل، ما تفسيرك لذلك ؟

- لقد قصدت ذلك فعلا. أردت أن أعكس اللاتناسق في المشهد العام، ولم أسع إلى الحفاظ على التدفق العام للمشاهد، فهذه لوحات متفجرة وليست ودودا.

* ما انطباعاتك عن الحركة التشكيلية الكويتية ؟

- لم أشاهد الكثير. لكن أعمال جعفر إصلاح أعجبتني كثيرا. وأعتقد أنه من المهم أن يتواصلوا أكثر مع مختلف المدارس العالمية الكبيرة، أن يخرجوا بمعارضهم إلى الخارج ويستضيفوا فنانين كبارا من مختلف أنحاء العالم. ولعل وجود متحف للفن الحديث في الكويت قد يسهم في تحقيق نهضة حقيقية في هذا الصدد.

 

أحمد خضر





وزير الإعلام يستمع من الفنانة الأمريكية سوزان كرايل إلى شرح لإحدى لوحاتها





لوحة من بعيد





لوحة الغراء الطائرة





لوحة النفط المنعكس





لوحة المراقب