التراث القصصي في الأدب العربي عبدالواحد علام

التراث القصصي في الأدب العربي


المؤلف: الدكتور محمد رجب النجار

برغم المنزلة التي يحتلها التراث العربي الأدبي، فإن العناية به - تدوينا ودرسا وتحليلا - لم تكن بالقدر الذي يكشف عن منزلته تلك، فثمة بعض الأجناس الأدبية التي ظلت بعيدة عن مجال الدرس والتحليل، بل ظلت بمنأى عن الاعتراف بها بوصفها جنسا من أجناس هذا الأدب، فالتراث القصصي عند العرب - وهو موضوع هذا الكتاب - لم يكن من جوهر الأدب مثل الشعر والخطابة والرسائل، ومن ثم لم يكن غريبا أن يرغب النقاد العرب القدماء عن هذا الجنس القصصي، فلم يحاولوا نقد ما كان بين أيديهم من قصص، لتوجيهه والنهوض به، بل إنهم عدوه جنسا دخيلا على الأدب، ولم يفطنوا إلى ما يمكن أن يكون له من قيمة، بكل المستويات التي تدل عليها هذه الكلمة.

ولم يختلف الأمر كثيرا في النقد العربي الحديث، فقد ظلت الدراسات النقدية تدور في فلك الموروث الشعري غالبا، وظلت قاعات الدرس في الجامعة يطغى هذا الجنس الأدبي الأثير على ما يلقى ويناقش فيها، حتى إذا ما حل دور النثر انصبت العناية على ما هو غير قصصي، كالخطب، والرسائل، والحكم والأمثال.

وظل الأمر على هذا النحو إلى وقت جد قريب، ربما لا يتجاوز العقود الثلاثة الماضية بكثير، حيث التفت عدد من الباحثين إلى ما في هذا التراث الأدبي من ألوان قصصية أخذت أشكالا مختلفة، لكنها خرجت من عباءة واحدة هي عباءة القص.

ويجيء هذا الكتاب: التراث القصصي في الأدب العربي للأستاذ الدكتور محمد رجب النجار أستاذ الفولكلور بجامعة الكويت، وقد نشرته "ذات السلاسل" بالكويت عام 1995 - يجيء ضمن الدراسات الجادة التي حاولت نفض الغبار عن هذا الجنس الأدبي في التراث العربي، ولكنه - في رأيي - أهم هذه المحاولات وأوفاها حتى الآن.

مدخل تأسيسي

إننا أمام كتاب ضخم أوشكت صفحاته أن تعانق الألف عدا. وقد توزعت هذه الصفحات الكثر على "مدخل تأسيسي" بلغ المائة صفحة تقريبا، انشعب إلى تأسيس أول: عن الموضوع والمنهج، وتأسيس ثان عن "السرد الشفاهي والسرد النصي: سمات وخصائص" وثالث عن "الأسطورة: مفهوما وتراثا من منظور قصصي". ففي التأسيس الأول تقييم مجمل للدراسات التي تناولت هذا التراث القصصي، وموضع هذه الدراسة منها، وبيان للمنهج الذي سيتبعه في دراسته. ويتخلل ذلك حديث ذو شجون يفصح عن تلك المفارقة بين مدى عناية الغرب بذلك الموروث القصصي العربي، ومدي إهمال العرب له، بالرغم من أن كم التراث القصصي العربي - في صوره وأشكاله المختلفة - كم كبير جدا، ومن ثم لم يعد مقبولا كما يقول الباحث: "أن تظل ثمة قطيعة معرفية بين الثقافتين العالمة والشعبية، ولم يعد معقولا أن يحصر الباحثون أنفسهم في إطار الثقافة العالمة وحدها، دون نظر إلى الثقافة الشعبية التي تتجلى أكثر ما تتجلى في التراث السردي من حكايات، وملاحم، وقصص، وخرافات، وأساطير، وغيرها".

إن دراسة المعقول في العقل العربي تبدأ من دراسة اللا معقول في تراث الشعب، لما بينهما من صلات ووشائج لا يمكن تجاهلها.

أضف إلى ذلك أن دراسة هذا التراث القصصي من وجهة مقارنة، يمكن أن يكشف عن التأثير العربي في نمو الأدب الروائي العالمي، وإذا كانت الرواية العربية الحديثة قد خرجت من عباءة الرواية الأوربية، فإن هذه الأخيرة قد خرجت من رحم الموروث السردي في التراث العربي نفسه، وتلك هي سمات الآداب الحية الفاعلة: تأثيرا وتأثرا.

وإذ كان الأمر كذلك، فإن هذه الدراسة تحاول الاقتراب من هذا التراث السردي بوصفه "مكونا أساسيا يشكل - إلى جانب النتاج المعرفي والشعري - الهيكل الكلي للثقافة العربية بتجلياتها الفكرية والإبداعية".

وقد أفاد الباحث من مناهج نقدية كثيرة، واقترب من تخوم حقول معرفية عديدة، مع ذلك فهو حذر كل الحذر من أن يسقط في هوة التغريب، واع كل الوعي بضرورة المواءمة بين دراسة هذا التراث دراسة تنبع منه ذاته، وتحكمها نظريات فولكلورية قبل كل شيء، وبين ما تفرضه طبيعة هذا التراث المعرفي الضخم من الانفتاح على كثير من المعارف، وعديد من المناهج، خاصة تلك التي تتصل بمجال النقد الروائي، وتقترب من حقل الدراسات الأدبية والمعرفية الأخرى.

أما التأسيس الثاني ففيه تعريف بالمقصود من السرد الشفاهي "قصص العامة" والسرد النصي "قصص الخاصة"، وأنواع هذا السرد، والسمات والخصائص التي تفرق أو تجمع بين كل منهما.

ومن خلال هذا التناول يعرض الباحث لكثير من الأحكام التي أطلقها بعض المستشرقين على الأدب العربي (الرسمي) من أنه أدب تجريدي، فقير في خياله، ثم تراجع هؤلاء المستشرقين أنفسهم عن هذه الأحكام، بعد أن عثروا على (كنوز) من القصص الشعبي العربي، فجمعوها وترجموها إلى لغتهم، ونشروها في أوربا. (رينان مثلا).

وأخيرا يجيء التأسيس الثالث عن الأسطورة: مفهوما وتراثا من منظور قصصي.

ويرى الباحث أن من الأهمية بمكان أن يقف دارس القصة في الأدب العربي القديم على الأسطورة، في مفهومها، وفي مسيرتها الطويلة، لأن حجم تأثيرها - كما وكيفا - في المأثور القصصي العربي - الشعبي والرسمي - كبير جدا. إن الأسطورة في إيجاز هي - كما يقول الباحث: أم الفنون السردية "حيث الدهشة والتعجب والسؤال محتواها، والتعبير القصصي جوابها، ومن ثم قام هذا التأسيس بعرض مفهوم الأسطورة، والصلة بينها وبين الآداب والفنون، كما قام - وهذا مهم للغاية - بتوثيق معرفة العربي للأساطير، وبالرغم من المحاولات التي عملت على إسقاطها من التراث العربي - لأسباب كثيرة - استطاعت الأسطورة أن تتسرب إلى الثقافة العربية والإسلامية، في أشكال وعادات وتقاليد مختلفة، وعرفت طريقها إلى التدوين في المصادر العربية القديمة".

الحكاية وأشكالها المختلفة

ثم ينقسم الكتاب - بعد هذا المدخل التأسيسي - خمسة أقسام، تجيء على هذا الترتيب: قصص الحيوان: حكايات الحيوان في التراث العربي، السير والملاحم الشعبية العربية، القصص الديني الإسلامي، القصص العاطفي، القصص الفكاهي: النوادر والحكايات المرحة.

في القسم الأول يشير الباحث إلى أن الحكاية على لسان الحيوان نمط قصصي عرفته كل الثقافات والحضارات الأولى إرثا شرعيا من المراحل الأسطورية للشعوب، ففي هذه الحكايات يلعب الحيوان الدور الرئيسي فيها، مثلما كانت الآلهة وأنصاف الآلهة تلعب دور البطولة في الأساطير، وهي تروى شعرا ونثرا، كما أنها - لبساطتها وعبقريتها - قادرة على النفاذ إلى المتلقي، على اختلاف مراحله العمرية والثقافية.

ويصنف الباحث القصص على لسان الحيوان إلى: حكاية الحيوان الشارحة (التعليلية)، وحكاية الحيوان الرمزية (التعليمية)، وملحمة الحيوان (الشعرية) ورواية الحيوان (النثرية).

وقد انفرد الأدب العربي بالصنف الأخير، وخلا من الصنف الثالث. ثم يتناول الباحث هذه الأصناف بالدرس والتحليل على هذا الترتيب، ليقف القارئ على المعالم الأساسية لهذه الأصناف، من حيث: إبداعها، بنيتها، وظائفها، أشهر نماذجها ونصوصها في التراث العربي، ومدى إمكان توظيفها والإفادة منها.

وقد وقف الباحث وقفة طويلة وضرورية أمام حكاية الحيوان الرمزية (التعليمية) في التراث العربي خاصة، ويمثله خير تمثيل صنيع "ابن المقفع" الذي ذاع على يديه هذا اللون من التمثيل الكناني "Allegory" والتصوير الرمزي السردي لمواجهة المسكوت عنه: دينيا واجتماعيا وسياسيا، ومن ثم خص الباحث كتاب "كليلة ودمنة" بكل الصفحات التي كانت من نصيب هذا اللون تقريبا، فوقف عند النوع الأدبي الذي ينتمي إليه الكتاب، وغاياته، ووظائفه، وعروبته أو ما أسماه هو: معضلة الانتماء والتأليف، وبنيته السردية، ومحاكاة العرب له شعرا ونثرا، وترجماته إلى أكثر من خمسين لغة، وأحيانا أكثر من مرة في اللغة الواحدة.

ويعد هذا الجزء من الكتاب من أهم أجزائه - والحق أنها كلها مهمة - خاصة تلك المحاولة الرائدة الناجحة لتأصيل نسبة الكتاب إلى التراث العربي، فقد ساق الباحث من الأدلة والبراهين التي تثبت عروبة الكتاب، ما يجعلنا نطمئن غاية الاطمئنان إلى ما انتهى إليه، من أن هوية الكتاب هوية عربية خالصة.

أما ملحمة الحيوان التي خلا التراث العربي منها، فلم تطل وقفة الباحث أمامها، وحسنا فعل، لأن الكتاب عن القصص العربي، وإذا كانت هذه الوقفة القصيرة لم تستغرق أكثر من صفحتين، فقد كنت أوثر لو أن الكتاب في متنه خلا منهما، ويستعاض عن ذلك بالإشارة في الحاشية إلى بعض النماذج التي ذكرها مع إحالة إلى مصادرها.

بقي من هذا القسم رواية الحيوان العربية، وهي تسمية يقترحها الباحث لتلك المؤلفات النثرية التي نشأت عن تطوير العرب حكاية الحيوان الرمزية القصيرة إلى حكاية طويلة، تتناول موضوعا قصصيا واحدا ومتكاملا، مثل رواية "النمر والثعلب" لسهل بن هارون، ورواية "الصاهل والشاحج" للمعري.

ثم يختتم القسم ببيان وظائف قصص الحيوان السياسية والتربوية والجمالية. ويجيء القسم الثاني: السير والملاحم الشعبية العربية. وفي هذا القسم يقدم الباحث دراسته تحت ما أسماه: إضاءات ومقاربات، أخذت شكل فصول متعددة. ولا يفوت الباحث الإشارة - في إضاءاته - إلى تلك الحرب الضارية التي شنت قديما وحديثا على هذه السير والملاحم التي بلغ مجموع ما دون منها خمسة وعشرين ألفا من الصفحات.

بين السيرة والملحمة

أما المقاربات، فقد تناولت الأولى منها: الفضاء اللغوي والدلالي للمصطلحين: سيرة وملحمة، والأدب الملحمي وأنواعه، ونشأته، وجذوره، ومصادره، وخصائصه في المأثور العربي، ووظائفه.

وأفردت المقاربة الثانية لدراسة المضامين أو القضايا الاجتماعية والقومية في الملاحم والسير الشعبية، في حين جاءت المقاربة الأخيرة لدراسة الشكل نظريا، مع تطبيق على السيرة الهلالية. ومن خلال هذا التناول يستطيع القارئ الوقوف على كل ما يتصل بهذا اللون من ألوان القص، كما يقف على كثير من الأمور المهمة التي يكشف عنها البحث: لماذا - على سبيل المثال - لم تنجح المحاولات لكتابة ملحمة في الأدب العربي قديمه وحديثه ؟، ما دلالة أن تتكامل سيرة عنترة في مصر لا في غيرها ؟، لماذا استقر في أذهان الناس - حتى المثقفين منهم - خطأ أن الملاحم الشعبية العربية قد صيغت باللهجة العامية ؟، كيف انفرد الأدب الملحمي العربي بنوع ثالث من الصياغة يجمع بين الشعر والنثر، وهو النوع السائد في معظم السير والملاحم العربية ؟، لماذا افتقدت السيرة الهلالية نبوءة النهاية ؟، وهكذا.

ويحتل القصص الديني الإسلامي القسم الثالث الذي يجيء هو أيضا في صورة إضاءات ومداخل وفصول، وكان ذلك أمرا اقتضته طبيعة المادة العلمية الخاضعة للتناول، ومن ثم كان ضروريا أن يعرف الباحث هذا اللون من ألوان القص، ويتتبع تطوره عبر العصور، والطريقة التي كان يؤدي بها، وأحوال هؤلاء المؤدين وهيئاتهم، وأساليبهم في الأداء، وتنوع هذا القص بين مجالات مختلفة، وخصائصه في كتب التفسير.

ثم وقف الباحث - في فصول أربعة عند: القصص القرآني، القصص النبوي، القصص اليهودي (ما ورد في كتب التفسير من إسرائيليات)، القصص الصوفي (الأوليائي) - ليبين في كل فصل أشكال القصص ومصادره، وبنيته، وخصائصه، ووظائفه.

ومن خلال ذلك يوضح الباحث كثيرا من الأمور التي قد يؤدي عدم توضيحها إلى لبس.

فالدراسة - على سبيل المثال - لا تتعامل مع النص القرآني الذي يتمحور القصص الديني حوله في صورته النصية (الإلهية) التي وردت في القرآن الكريم، وإنما في صورته (صياغته) البشرية كما أعاد روايتها تفصيلا القصاص والوعاظ شفاهيا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والعصور التالية، كما رواها المحدثون والمفسرون والإخباريون والمؤرخون في كتبهم.

والدراسة - حين تتعامل مع التصوف - فإنها تستبعد التصوف المزيف، ذلك الذي تحول إلى دروشة وشعبذة ودجل واستغلال، أما الذي يعنيها فهو التصوف الحقيقي الناجم عن مجاهدة حقيقية، وبذلك يكون للقصة الصوفية أو الكراماتية منطقها الخاص، ولغتها الرمزية، وشخصياتها، ومن ثم لا تخلو صياغتها من استعارة ذكية، أو محاكاة قصصية لمبدأ أو مثل، أو تصوير فكرة. إنها باختصار صياغة يقوم بها العقل الصوفي الواعي، برغم أن الكرامة نفسها نتاج لا واع.

والدراسة تفسر أيضا لماذا وكيف نشأت الإسرائيليات وعرفت طريقها إلى هذا القصص الإسلامي؟.

أما القسم الرابع فقد تناول التراث القصصي العاطفي، فوقف عند مصادر دراسته، وتصنيفاته، ثم وقف وقفة متأنية أمام قصص الحب العذري، فبين نشأته في الأدب العربي، والعوامل التي عملت على هذه النشأة، وآراء الباحثين العرب التي نحت مناحي شتى: سياسية، واجتماعية، ونفسية، ثم يقترح الباحث تفسيرا جديدا يدور في مجمله حول ارتباط هذا اللون من القص بحالة من حالات الاغتراب والرفض السلبي لكثير من المتغيرات الجديدة والتحولات - قياسا إلى الثوابت البدوية التي كانت موضوع التفاخر بها قبل الإسلام، أي أن المسألة هنا غدت - من منظور سوسيولوجي وانثروبولوجي - صراعا بين البادية والحضر، أو بين الصحراء والمدينة، ومن ثم انتقل الحديث إلى أدبيات هذا الحب في سياقه الاجتماعي، من حيث هو حب عفيف تمجده الأدبيات الإسلامية وتسمو به، كما أنه يبدو حبا خاضعا للقضاء والقدر، ويتجلى فيه الإعلاء من شأن المرأة العربية علوا كبيرا.

وأخيرا يكون الحديث عن خصائص هذا القصص العذري، وبنيته القصصية، ووظائفه التربوية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية والجمالية، التي تحققت على نحو كامل حين وقف الغرب عليها، فتأثر بها. واستلهمها، بكل قيمها ومضامينها ومثلها. لكم كان "جب" ذلك المستشرق المعروف منصفا حين وصف هذا القصص العذري بأنه قدم للإنسانية "نظرية حب أخلاقية، هي رسالة بلاد العرب إلى العالم".

ثم كان القسم الخامس للقصص الفكاهي: النوادر والحكايات المرحة، الذي قدم له الباحث بمدخل يعرف فيه مصطلح "النادرة" لغويا وأدبيا، ويبين مدى احتفاء كتب التراث العربي بها، ثم تناول نظرة الثقافة الرسمية أو الخاصة لهذا النوع من القصص، وهي ثقافة "نكدية" على حد تعبير الباحث، أوشكت أن تنقل نظرتها هذه إلى العامة، ثم يعرض لنماذج من صانعي الفكاهة المحترفين في التراث العربي، ويعرج على مصادر دراسته وتصنيفها، ثم يقف أمام خصائص هذا القص، وأشكاله، ووظائفه.

وأخيرا كانت الملاحق التي سبق أن أشرت إليها.

ومن خلال هذا العرض لمحتوى الكتاب نستطيع أن نلمح تلك المادة العلمية الثرية المتنوعة والمتناثرة في كتب التراث العربي، ومن الصعوبة بمكان - خاصة للشادين من الطلاب والقراء - الوقوف على مظانها، بل إن ثمة بعض المصادر التي غدت في عداد الندرة، حتى لأهل الاختصاص، وإن نظرة عاجلة إلى مصادر البحث ومراجعه لتكشف عن أهمية هذا الجانب الذي ينبغي الإشارة إليه، والإشادة به.

وقد صنف الباحث هذه المادة الغزيرة وفقا لخطة محكمة، ودرسها تبعا لمنهج علمي دقيق، استطاع به أن يسيطر على هذه المادة، وأن يوظفها توظيفا دقيقا في سبيل الوصول إلى نتائج علمية محترمة. كما نقف، من خلال هذه المادة وذلك المنهج، على كثير من الآراء والأحكام الجديدة التي دعمها الباحث بأدلة وبراهين مستمدة في الغالب من قدرته الفائقة على تحليل النص وسبر غوره، وقد سبق أن أشرت إلى بعضها خلال عرض المحتوى، وإن كنت أود التذكير مرة أخرى بأدلة الباحث التي ساقها لإثبات عروبة كتاب "كليلة ودمنة".

آراء في حاجة إلى مناقشة

غير أن بعض الآراء التي ذهب إليها الباحث تحتاج إلى تدقيق، فهل صحيح - على سبيل المثال - أن المواطن العربي قد افتقد الحرية الاجتماعية على مر العصور ؟ (261) وهل كان المتصوفة جميعا أهل وجد وطرب ورقص وغناء وعشق؟ (547)، وهل سمع أحد وصف الدين الإسلامي بأنه "الدين العربي" ؟ (566)، وهل كان موقف الثقافة الرسمية - ثقافة الخاصة على حد تعبيره - من الضحك: هو النهي عنه والتحذير منه ؟ أحقا أن الثقافة الرسمية "ثقافة ضد الضحك، ضد الفكاهة" ؟ (660) إن الأقوال التي ساقها الباحث لا تحظر المزاح، وإنما تحظر الإكثار منه، ومن ثم لا تناقض بينها وبين الأقوال الأخرى التي أباحت الضحك والفكاهة كما ذهب إلى ذلك الباحث (663)، كما أن استنتاجه من عدم ذكر أسماء المضحكات في الحديث الذي ذكره مسندا إلى أكثر من سند، يحتاج إلى مراجعة، فعدم ذكر الأسماء في الحديث لا يشير إلى موقف الثقافة الرسمية من هؤلاء المضحكين أو المضحكات، وأنهم "أتفه من أن تذكر أسماؤهم في نظر أصحابها" إن عدم ذكر الأسماء في الحديث ناشئ من أن ذكرها في هذا السياق لا يتعلق به كبير غرض كما يقول البلاغيون، وكيف يتفق ما ذهب إليه الباحث في هذا الاستنتاج مع ما ساقه بعد قليل من سماع الخلفاء والأمراء لنوادر المضحكين، ومنحهم المكافآت، وما ذكره من أن كثيرا من المصنفات في النوادر "كتبت أو جمعت بأمر من كبار الأمراء والولاة والوزراء" ؟ (683).

كما ينبغي الإشادة بلغة البحث، فهي لغة علمية بريئة من التعقيد الذي ينشأ كثيرا في لغة المعاصرين من الباحثين، لأن الفكرة التي يريدون التعبير عنها لا تكون على قدر من الوضوح الكافي في أذهانهم، فيجيء التعبير عنها ملتويا. أما لغة الباحث فهي لغة واضحة، دقيقة، وإن غلب عليها - في مرات قليلة - نبرة خطابية، مصدرها في الحق غيرة الباحث الشديدة على هذا التراث، ورغبته الملحة في لفت الأنظار إليه، خاصة من المثقفين، ولعل في هذا الحماس، وتلك الغيرة ما يفسر استخدام الباحث لصيغة التفضيل بصورة تلفت نظر القارئ، من مثل: أكبر، أخطر، أعظم، أعمق، أسمى، أفضل، أشمل... إن في هذه الغيرة الشديدة على هذا التراث والحرص البالغ على إقبال القراء العرب عليه، تفسيرا لتكرار تذكيرنا بأن الغرب قد أقبل على دراسة هذه المأثورات الشعبية في مواضع ليست قليلة من الكتاب.

ثقافة ممتدة

بقي أن أشير إلى ميزة أخرى لهذا الكتاب - وما أكثر مزاياه - وتتمثل هذه المرة في تلك الإحالات والحواشي التي ضمها الكتاب بين دفتيه - إضافة إلى تلك المصادر والمراجع العامة والخاصة التي يقدمها للقارئ إن هو أراد مزيدا في هذا الجانب أو ذلك. إن تلك القائمة الضخمة من المصادر والمراجع التي يضعها الباحث بين يدي قارئه عقب كل فصل، لتكشف كذلك عن عمق ثقافة الباحث وامتدادها شرقا وغربا، قديما وحديثا، وعن حرصه البالغ على خلق وعي ثقافي لدى المتلقي يدفعه إلى شره معرفي محبوب. وبالرغم من كثرة الهوامش ووفرة الإحالات، فإن كثيرا من الاقتباسات التي اقتبسها الباحث يحتاج إلى ذكر مصدره وبياناته كاملة بين يدي من يتشوف من القراء لتوثيق المعلومات، أو يتطلع للوقوف على بعض تفاصيلها. وتتأكد هذه الحاجة حين يكون المصدر ذا أجزاء متعددة، ويكون الجزء الواحد ذا صفحات كثيرة، مثل: معجم البلدان لياقوت، والبيان والتبيين، والحيوان للجاحظ، أو حين تكون المعلومة موضع دهش واستغراب من القارئ غير المتخصص، مثل فتوى الإمام "أحمد بن حنبل" الشهيرة: كما وصفها الباحث - وهي كذلك بالنسبة له ولغيره من المختصين - " ثلاثة لا أصل لها: السير والملاحم والمغازي".

وأرجو - بعد هذا العرض والتحليل لهذا العمل الضخم - أن يزودنا الباحث بالمجلد الثاني الذي وعد قراءه به، حتى تكتمل بين أيديهم تلك الدراسة العلمية الجادة التي تعرفهم بجانب من أهم جوانب تراثهم الأدبي، بهذه الطريقة العلمية المنهجية، وبهذا الشمول والاستيعاب، ومن قبل ذلك كله وبعده بهذا العشق الحق لتراث الأمة عامة، والقصصي منه خاصة. وما أحوجنا الآن إلى عاشقين حقا للتراث، من مثل الأستاذ الدكتور محمد رجب النجار الذي نذر حياته كلها له. فتحية للباحث، وتحية لعمله العظيم.. تحية.

 

عبدالواحد علام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




التراث القصصي في الأدب العربي





د. محمد رجب النجار