حول المشروع القومي للترجمة

 حول المشروع القومي للترجمة

مهما تحدّثنا عن أهمية الإبداع الذاتي أو الاستقلال الفكري, ومضينا في طريق تنمية القدرات الذاتية, وبحثنا لأنفسنا عن هوية خاصة نباهي بها غيرنا, فلا نتيجة فعلية يمكن أن نحققها في ذلك كله لو تجاهلنا حتمية الانفتاح على العالم من حولنا, وضرورة معرفة أسرار تقدمه, والأخذ من منجزات هذا التقدم ما يدفعنا إلى الأمام, وينقلنا من واقع الضرورة إلى أفق الحرية, ومن وهاد التخلف إلى ذرى التقدم, يفرض علينا ذلك أن الوعي بالهوية وعي بالغيرية, وأن حضور الآخر المتقدم بعض مكونات وعي الأنا التي تسعى إلى مجاوزة ما عليه من تخلّف, وأن مجاوزة التخلف لا يمكن أن تتحقق بالعزلة أو الانغلاق أو الخوف أو الجمود, وإنما بالانفتاح على الغير, والحوار مع الآخر, والتفاعل مع كل ما يثري الإبداع الذاتي.

ويعني ذلك حتمية معرفة عوالم التقدم من حولنا, وترجمة منجزاتها على أوسع نطاق, فالترجمة وسيلة حاسمة في تعميق علاقات التواصل مع العالم المتقدم, وفي توسيع دوائر الحوار التي تؤدي إلى امتلاك مفردات العصر ولغاته, وتجسير الهوّة الفاصلة بين المتقدم والمتخلف, والسبيل إلى فتح آفاق جديدة من وعود المستقبل الذي لا حدّ لإمكاناته, وعلامة الانتساب إلى الحضارة العالمية في تنوّعها الخلاق, ولذلك أصبحت درجة التقدم تقاس بدرجة ازدهار حركة الترجمة في هذه الأمة أو تلك, كما تقاس بشمول هذه الحركة في تعدد مجالاتها التي تصل الحاضر بالماضي في التطلع إلى المستقبل, وتصل العلوم الإنسانية بالعلوم البحتة في شبكة المعرفة البشرية التي تتوازن مكوّناتها, وتتجاوب عناصرها التي لا تعرف التدابر أو التجزؤ.

وحين نفكر في التخطيط لمشروع قومي للترجمة من هذا المنظور, وانطلاقاً من أحلام التقدم, فإن علينا وضع مجموعة من المبادئ الأساسية في اعتبارنا, نبدأ منها لنعود إليها بوصفها إطاراً مرجعياً تهتدي به حركة المشروع من حيث هو مشروع تنمية ثقافية بالدرجة الأولى. وبالطبع, لا ينبغي أن نستقي أمثال هذه المبادئ من تفكير نظري خالص, أو من تأمل بعيد يتعالى على الواقع, وإنما من ممارسة فعلية تبدأ بالممكن لتجاوزه إلى المحتمل الأكمل الذي لا يقع في دائرة المستحيل, ويلزم عن ذلك البدء من مشروعات الترجمة التي سبقت على امتداد الوطن العربي, ومحاولة الانطلاق من الإيجابيات التي حققها, ومجاوزة سلبياتها إلى إيجابيات مضافة, تبدأ من حيث انتهى السابقون لتمضي في طريق صاعد من الإنجاز الذي يضيف فيه اللاحق إلى السابق, خصوصاً في تاريخ ممتد من مشروعات الترجمة العربية التي ترجع, فعلياً, في تاريخنا الحديث, إلى مشروع (مدرسة الألسن) الذي خطط له رفاعة الطهطاوي, وتولى تنفيذه مع تلامذته.

الاتصال بدوائر العالم

أما المبدأ الأول - من منظور هذه الرغبة في مجاوزة الإضافة - فهو الخروج من أسر المركزية الأوربية الأمريكية, والتحرّر من دائرتها الضيقة بما يصلها بغيرها من دوائر العالم على امتداد كوكبنا الذي تحوّل إلى قرية كونية بالفعل, وقد ظلت حركة الترجمة العربية أسيرة اللغة الإنجليزية بالدرجة الأولى, واللغة الفرنسية بالدرجة الثانية, وذلك في حال من التبادل الذي ارتبط بالصراع على النفوذ الثقافي على الأقطار العربية, ولم يصل إلى مستوى هاتين اللغتين غيرهما من اللغات الأوربية كالإسبانية والألمانية والإىطالية.. إلخ, فلم يكن للغة من هذه اللغات الأخيرة من الحضور أو التأثير أو النفوذ ما للإنجليزية والفرنسية اللتين ارتبطتا بالحضور الاستعماري والمؤثرات الثقافية المصاحبة له.

ولذلك عرفت ثقافتنا العربية الصراع بين اللاتين والسكسون في الثلاثينيات من هذا القرن, وكتب طه حسين عن انحيازه إلى ثقافة اللاتين التي كان يعني بها الثقافة الفرنسية, بينما كتب عباس محمود العقاد عن انحيازه المضاد إلى ثقافة السكسون التي كان يعني بها الثقافة الإنجليزية, وظلّ هذا الصراع باقياً بين ثقافات اللغتين المهيمنتين, وإن كان قد أصبح أقل حدّة في تجلياته الأحدث التي أخذت شكل التعارض بين الفرانكفونية (الثقافة الفرنسية) والأنجلوفونية (الثقافة الناطقة بالإنجليزية), ورغم المحاولات الحثيثة التي تبذلها فرنسا في السنوات الأخيرة لدعم حضور الثقافة الفرانكفونية بوسائل متعددة, منها دعم حركة الترجمة عن الفرنسية إلى العربية, فإن تصاعد نفوذ اللغة الإنجليزية يفرض نفسه بوصفه نتيجة من نتائج التحوّلات العالمية الأخيرة, وهي التحوّلات التي ترتّبت على انهيار الاتحاد السوفييتي, والهيمنة المتزايدة للولايات المتحدة الأمريكية على العالم الذي أصبح وحيد القطب, جنباً إلى جنب التضاعف المستمر لتأثير العولمة التي تأخذ طابعاً أمريكياً بأكثر من معنى.

ولا يختلف هذا الوضع الجديد عن الوضع القديم من حيث الانجذاب نحو قطب بعينه, والدوران في دائرة ضيقة تعود بنا إلى النزعة المركزية ذاتها في مجلى جديد من مجاليها, وذلك وضع يفرض نفسه, بالطبع, على حركة الترجمة التي لابد أن تتأثر بما يقع في العالم حولها, لكن هذا التأثر بما يقع في العالم لا يمنع من مواجهته, والانتباه إلى مزالقه ومحاولة مجاوزتها, ذلك لأنه وضع يعني انحيازاً ثقافياً بعينه, ووقوعاً في أسر الهيمنة التي تفرض تبعيتها الثقافية الخاصة, أضف إلى ذلك أنه وضع يعني العزلة عن أغلب العالم الذي نعيش فيه ونتأثر به, ابتداء من الدول الأوربية نفسها, حيث لم نترجم - مباشرة - الكثير عن الروسية أو الإىطالية أو البرتغالية أو الإسبانية أو الألمانية.. إلخ, وأغلب القليل الذي ترجمناه عن هذه اللغات إنما تم عن طريق لغة وسيطة, ومن ثم بواسطة نظرة تأويلية باعدت بيننا وبين الأصل المباشر.

ولا يتوقف الأمر في هذا المجال على بقية دول أوربا التي لم نقع في هيمنتها الاستعمارية, أو التي حالت اللغتان المهيمنتان - الإنجليزية والفرنسية - بيننا وبينها, وإنما يتعداه إلى بقية اللغات التي يعني عدم ترجمتنا عنها عزلتنا الفعلية عن أكثر دول العالم الذي نحن جزء منه بالضرورة, ابتداء من لغات الدول الآسيوية التي تبرز فيها ثقافات الصين والهند واليابان, فضلاً عن الثقافات الفارسية والتركية والأوردية, وغيرها من ثقافات اللغات الآسيوية التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً, والتي لم يتوقف العالم المتقدم عن الترجمة عنها والاهتمام بدراستها, وقل الأمر نفسه عن لغات القارة الإفريقية التي تنتسب إليها مجموعة كبيرة من الدول العربية, والتي فرضت إنجازاتها الإبداعية والفكرية لنفسها حضوراً جاوز دوائرها المحلية إلى الدوائر العالمية, شأنها في ذلك شأن ثقافات أمريكا اللاتينية التي فرضت إبداعاتها على العالم كله, وأنجزت في نقد نظرية التبعية, مثلا, ما يجعل منها قرينة ثقافات القارة الإفريقية في الهموم نفسها.

كسر الهيمنة

ولا سبيل إلى نجاح أي مشروع قومي للترجمة ما ظل المشروع وحيد اللغة, أو أسير اللغتين اللتين تتبادلان الهيمنة الثقافية على الأقطار العربية, وأول النجاح هو كسر دائرة الهيمنة, والانفتاح على كل أقطار العالم ولغاته, ومن ثم ممارسة نوع من الحياد الإيجابي في التخطيط لآفاق الترجمة, وإقامة توازن بين المترجم من اللغات على أساس من تلبية كل منها لحاجة أو أكثر من حاجات مجتمعاتنا فيما يتصل بقضايا التنمية والتحديث والاستقلال السياسي والثقافي في الوقت نفسه, وأتصوّر أن العائد القريب لهذا التوازن هو إشاعة المعرفة بأكثر من طريق للتنمية والتجديد, والقضاء على وهم أن التقدم لا يتحقق إلا بطريق واحد دون غيره, أو مركزية ثقافة لا تعترف بحضور غيرها.

أما المبدأ الثاني, فيتمثل في الانحياز إلى كل ما يؤسس لأفكار التقدم, ويسهم في إشاعة العقلانية, ويشجع على التجريب, ويؤسس لحضور العلم في حياتنا, ويفتح أفق التجاوب الإنساني الخلاّق في كل المجالات وعلى كل المستويات, خصوصاً من منظور التنوّع البشري الخلاق. إن الترجمة - إذا نظرنا إليها من منظور عالمنا الذي يسعى إلى التقدم - تزدهر في اللحظات التاريخية لنهضة الأمم, ويحدث ذلك عندما تمتلئ (الأنا) الوطنية أو القومية بالرغبة في الخروج من قوقعة تخلّفها, وتعرف نفسها في مرآة الآخر المتقدم, وتعرف الآخر المتقدم في مرآتها بالقدر نفسه, في هذه اللحظات التاريخية, تسعى الأنا إلى الآخر الذي تراه أكثر تقدّماً من غيره, وتحاول إنطاقه بلسانها المبين, مؤكدة قدرة هذا اللسان المبين على أن ينطق صوت الآخر, ويشكـّله في نبرة متميزة ونغمة, وليس من الضروري أن يكون الآخر في هذه اللحظات هو العدو, أو الغازي, بل يمكن أن يكون المغاير الذي ينتج تعرفه معرفة مجددة بإمكانات هذه الأنا, لكن في أغلب الحالات, فإن الآخر المختار هو الآخر الذي يفرض هيمنته العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية, والذي يسرّب خلال هذه الهيمنة أولويات ثقافية واتجاهات فكرية, ونماذج إبداعية تسهم في إبقاء هذه الهيمنة وتأكيدها, وأول الوعي بذلك, في حالتنا, هو نقض الهيمنة الثقافية بنقض المركزية الأوربية, ووضع أمانينا الوطنية والقومية موضع الصدارة في كل مخططات التنمية الثقافية, وتحويل هذه الأماني إلى مبدأ فاعل يحدد أولويات ما نختار ترجمته عن الآخر - الجمع لا الآخر - المفرد أو المثنى, والبحث الدائم عن كل ما يسهم بترجمته في تأكيد إمكانات الإبداع الذاتي للأمة.

المنظور الخاص

ويعني ذلك أن علينا, نحن أبناء الوطن العربي, التحرّك الحر في دائرة منظورنا الخاص, وأولوياتنا اللازمة للمضي قدماً في طريق التنمية, وبقدر ما ينبغي تأكيد أصول التقدم الإنساني, وأهمية حضور المعارف والإنجازات التي تضعنا في قلب العصر, فإن علينا الانحياز إلى ما ينقض المركزية الأوربية الأمريكية, وما يجسّد قيم التنوّع الخلاّق التي تقوم على احترام التعدّد الثقافي للعالم والهويات الخاصة للشعوب.

أما المبدأ الثالث فيتصل بعدم التقوقع في مجال واحد, على نحو ما فعلت حركة الترجمة العربية على امتداد عقود متتابعة, حيث كان التركيز على الأدب والإنسانيات والعلوم الاجتماعية بالدرجة الأولى, وكان المترجم مشغولاً بترجمة الأعمال الأدبية أو الدراسات المتصلة بها في الأغلب الأعم, وهو وضع ترتب عليه ضمور حركة الترجمة في مجالات كثيرة من المعرفة الإنسانية, وعلى رأسها مجالات العلوم التطبيقية وما يتصل بها من معارف وعلوم بينية لا تتوقف عن التولّد أو التقدم, الأمر الذي أدى إلى تأكيد هامشية العلم في ثقافتنا, وقدم الدليل غير المباشر على أن العلم لم يصبح إلى اليوم مكوّناً أساسياً من ثقافتنا, ومصداق ذلك أننا لانزال نتحدث عن الثقافة بمعزل عن العلم, كما لو كان العلم غير الثقافة, وكما لو كانت الثقافة يمكن أن تقوم دون العلم, وترتب على ذلك الوضع, مع الأسف, نقص شنيع في إعداد المترجمين الأكفّاء في مجالات العلوم, وعدم الاهتمام بالتخصص في الترجمة العلمية, أو تدريس تقنياتها النوعية ضمن برامج دبلومات أو شهادات الترجمة التي تمنحها أقسام اللغات في الجامعات العربية أو كلية الألسن المصرية, ولولا بعض الجهود الفردية المتناثرة التي يقوم بها بعض رجال العلم المهتمين بالثقافة العامة, وإشاعة الثقافة العلمية في المجتمع, لكان الكتاب العلمي المترجم نسياً منسياً في ثقافتنا.

والحق أنه قد آن الأوان لتحقيق التوازن بين المعارف الإنسانية في المجالات العلمية والفنية والفكرية والإبداعية, بحيث لا تتركز الترجمة على مجال معين, بينما تظل بقية المجالات بعيدة عن دائرة الاهتمام, ولن يحدث ذلك إلا بالتخطيط لترجمة كتب العلوم الطبيعية المتخصصة من ناحية, وترجمة الكتب التي تتولى تبسيط الثقافة العلمية وتسهم في إشاعتها من ناحية ثانية, وذلك جنباً إلى جنب تشجيع المترجمين على المضي في هذا المجال غير المطروق, وتشجيعهم على ذلك بكل ما يمكن من وسائل التشجيع والحفز, ويلزم عن هذا الهدف, في تقديري, تغيير برامج الترجمة في معاهدها المختصة لتستجيب إلى الانفجار المعرفي الذي تتزايد آثاره في العالم كله.

والمبدأ الرابع لأي مشروع قومي مجاوز للترجمة هو ترجمة الأصول المعرفية التي أصبحت أقرب إلى الإطار المرجعي في الثقافة الإنسانية المعاصرة, ولست في حاجة إلى تأكيد وهم عملية حرق المراحل الثقافية, أو البدء بالنتائج دون المقدمات, أو إغفال الأصول الكبرى في ثقافات العالم, فعلى الأصول بنيت الفروع, ولا معنى للنتائج في غيبة المقدمات, فضلاً عن أن للإنسانية تراثها الذي يتمثل في (كتب عظيمة) لا يمكن تجاهلها في حركة الترجمة, وموسوعة عالمية مثل موسوعة الـGreat Books مهمة في هذه الدائرة, خصوصاً أنها تقدم لنا أصول المعرفة الإنسانية من وجهة نظر القائمين عليها, ويمكن أن نبدأ منها, ونكملها بما يؤكد انتسابها للعالم كله, ذلك لأنه حتى هذه الموسوعة العظيمة لم تخل من رواسب تحيّز نزعة المركزية الأوربية, سواء في اختيار كتبها أو التنبيه إلى مكانتها في تاريخ الإنسانية التي تختزل في المركز الأوربي الأمريكي.

والاهتمام بالأصول في تراث الإنسانية لا يعني إغفال المنجزات الجديدة التي تضع القارئ في القلب من حركة الإبداع والفكر العالميين, وذلك على نحو يصل بين هذا القارئ وهموم الثقافة العالمية المعاصرة كلها, لكن بما لا ينسيه همومه النوعية الخاصة, وبما يضيف إلى خبرات هذا القارئ ما يجعل من وعيه وعياً معاصراً بكل معنى الكلمة, وأحسب أن إحدى مشكلاتنا الثقافية في هذا الجانب, ومن ثم إحدى خصائص وضعنا الثقافي, أننا لا نقبل على التيارات المحدثة في العالم إلا بعد انسحابها من بؤرة الصدارة في بلادها الأصلية, ولنأخذ ترجمة البنيوية على سبيل المثال, فنحن لم نبدأ في ترجمتها إلا بعد انحسار الأضواء عنها في موطنها الأصلي فرنسا, وتحوّل الاهتمام عنها منذ 1968.

الاتصال بالتراث الإنساني

وأتصور أن هذا الوضع يمثّل تحديّاً من التحدّيات الخاصة, المقصورة على حركة الترجمة في البلاد النامية التي تنتسب إليها, وذلك بالمقارنة بينها وبين حركات الترجمة في الأقطار المتقدمة, فما حدث من جهود أجيال متتابعة, نشطة في هذه الأقطار قد أدى إلى ترجمة الأصول المطلوبة للتقدم من كل لغات العالم المغايرة, الأمر الذي لم يحدث في ثقافتنا إلى اليوم, تلك الثقافة التي لا تمتلك إلى اليوم, على سبيل المثال, ترجمة للأعمال الكاملة أو حتى الأساسية لفلاسفة العالم الكبار, ابتداء من أفلاطون وانتهاء بفلاسفة التفكيك, وتقصيرها في ترجمة الأصول هو الوجه الأخير من تقصيرها في ترجمة الفروع المعاصرة, والمستجدات الأحدث من معارف الدنيا التي تندفع صوب وعود التقدم التي تحملها الألفية الثالثة, ولا مفر لهذه الثقافة, إذا أرادت أن تكون في مركز الصدارة من العصر, من أن تؤدي مهمة مزدوجة في الترجمة, وتصل ما بين تراث الإنسانية القديم والوسيط ومنجزاتها المعاصرة في الوقت نفسه.

وبداية تحقيق ذلك هي التخطيط الواعي, والعمل الدءوب الذي يجمع بين ذوي الخبرات في كل مجال واتجاه.

والمبدأ السادس الذي لا يمكن إغفاله هو الترجمة عن لغة الأصل مباشرة, والتوقف عن اللجوء إلى اللغة الوسيطة في الترجمة, وذلك لأكثر من سبب, أولها ضمان الدقة الكاملة في التعامل مع الأصل, وقد اعتدنا ترجمة الكتابات الروسية والإىطالية والإسبانية واليونانية, بل الكثير غيرها في لغات العالم المختلفة عن طريق لغة وسيطة, هي اللغة الإنجليزية بالدرجة الأولى, أو اللغة الفرنسية بالدرجة الثانية, ويرجع ذلك, بالطبع, إلى قلة عدد المتخصصين في اللغات غير الشائعة في ثقافتنا, والتي ليس لها هيمنة الإنجليزية أو الفرنسية, ومهما كانت الفائدة الأولية لهذه الترجمات في التعريف الاستهلالي, خصوصاً على مستوى البدايات, فإنها تظل محاطة بالشكوك من حيث قيمتها, أولاً لعدم دقة المترجم الوسيط في أحيان كثيرة, وتصرّفه بالحذف أو الاختصار في أحوال مماثلة, وثانيها أن كل ترجمة هي فعل من أفعال التفسير والتأويل, شأنها في ذلك شأن أداء اللحن الموسيقي الذي يبقى هو هو في (النوتة) الخاصة به, ولكنه يبدو مختلفاً ما بين أوركسترا وآخر,وبالنسبة للترجمة فالامر يتصل بالمترجم نفسه, من حيث تكوينه الفكري وانحيازه الأدبي وميله الأسلوبي, وذلك على نحو تتباين به ترجمة مترجم عن غيره, وتختلف ترجمة العمل نفسه من عصر إلى عصر باختلاف أذواق المترجمين ومناحيهم في الترجمة, أما المعنى الجمعي, فهو يتصل بالثقافة نفسها, ووعيها أو لاوعيها الجمعي الذي يتجلى بكيفية مخصوصة في الأفراد الحاملين لها, والفاعلين فيها.

وغني عن الإبانة أن إنطاق الآخر بلسان الأنا, يعني إخضاع الآخر لنبرة اللسان الخاص بهذه الأنا وطرائقه المتميزة في الأداء, ومن ثم جذبه إلى دائرة إبداعها الثقافي, وتأويله حسب الأبنية الشعورية أو اللاشعورية التي تنطوي عليها ثقافة الأنا, والتي تميزها أو تتميز بها في كل مرحلة من مراحل تاريخها المتغير.

أما المبدأ السابع والأخير, فهو قومية الجهد الذي يجاوز قطراً عربياً بعينه, ويحتوي الأقطار العربية كلها أو جلّها, وترجع أهمية ذلك إلى أن التخطيط لمشروع بهذا الطموح, وعلى هذا القدر من الشمول الذي يوازن بين المعارف الإنسانية في المجالات العلمية والفنية والفكرية والإبداعية, ولا يقتصر على لغة دون لغة, أو يقع في نزعة المركزية الأوربية الأمريكية, لابد له أن يقرن طموحه القطري بنزوع قومي يعين على تحقيق الغاية, ويفيد من الخبرات الثقافية الكثيرة الموزعة على امتداد العالم العربي, والمبعثرة بلا إفادة حقيقية من تجميع جهودها, إن الاستعانة بكل الخبرات العربية المتاحة ضروري في هذا المجال.

على طريق الوحدة الثقافية

وأتصوّر أن مثل هذا الوعي القومي حتى في التخطيط على المستوى القطري يحقق عائداً ثقافياً أكثر ثراء وتنوّعاً, ويؤكد معنى الوحدة الثقافية التي نتحدث عنها من غير أن نحقق الكثير من شروطها, كما أتصوّر أن هذا البعد في الوقت نفسه, خصوصاً إذا أنجز على نحو واع, يمكن أن يكون إسهاماً على طريق تحقيق الاعتماد المتبادل بين الأقطار العربية, وهو أمر بالغ الحيوية في مجالات التنمية ومشكلاتها التي لا تستطيع دولة عربية مواجهتها بمفردها, وألزم ما يكون التعاون العربي في مواجهة هذا النوع من المشكلات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية, وهو لازم بالقطع في مجال الترجمة, خصوصاً حين تغزر الخبرات البشرية في قطر يعاني اقتصادياً, في الوقت الذي تقل في قطر يتمتع بفائض ثروة يمكن الإفادة منها في هذا المنحى القومي.

والاحتمالات متعددة لتحقيق هذا البعد القومي, تبدأ من جامعة الدول العربية التي اهتمت - بواسطة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - بقضايا الترجمة لفترة, فدعت إلى عقد حلقة الترجمة في الوطن العربي التي انعقدت بالكويت في نهاية سنة 1973, وبحثت تنسيق حركة الترجمة في البلاد العربية, وإقامة جهاز تنسيق على صعيد العالم العربي, يتولى وضع خطة قومية للترجمة بالاشتراك مع الأجهزة الوطنية, وبالتنسيق مع المنظمات الدولية والمؤسسات العلمية الأجنبية المعنية بالثقافة العربية, وكان ذلك في المسار الذي أدى إلى نشر خطة قومية للترجمة سنة 1985, وإلى اليوم لم تتحوّل هذه الخطة إلى واقع فعلي, ولم يتم تحديثها, ذلك على الرغم من أن مؤتمر وزراء الثقافة العرب أوصى في دورته التي انعقدت في بيروت سنة 1994 بتحديث هذه الخطة القومية للترجمة, ولكن لايزال هذا التحديث رهين الانتظار, شأنه شأن التوصية بإنشاء مؤسسة عربية للتعريب والترجمة تكمل عمل المؤسسات القادمة, وأتصوّر أن البدء بإنشاء هذه المؤسسة هو الخطوة الأولى لإظهار جديّة القائمين على المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فيما يتصل بمشكلات الترجمة التي نعالجها قومياً بواسطة الخطب الرنّانة والكلمات الحماسية, وليس العمل الفعلي الجاد.

وإلى أن تتحقق هذه الخطوة القومية الضرورية, يمكن للأجهزة الثقافية المعنية بالترجمة في الأقطار العربية أن تضاعف من جهدها, وتصوغ فيما بينها, أو يصوغ كل منها على حدة, مشروعاً متكاملاً يحقق هذا البعد القومي, والخطوة الأولى في إنجازه الفعّال تبدأ بالإفادة من تنـوّع الخـبرات الموزّعة على امتداد الأقطار العربية.

 

جابر عصفور