قراءة نقدية في رواية.. حضرة المحترم

 قراءة نقدية في رواية.. حضرة المحترم

المرأة والحياة في أدب نجيب محفوظ

في واحد من المونولوجات الداخلية التي تنتشر بكثرة في رواية (حضرة المحترم) التي صدرت عام 1975 للكاتب العالمي نجيب محفوظ, يحدث البطل نفسه قائلاً: (المرأة هي الحياة. الموت نفسه يكلل بجلالة الحق بين يديها) .

فما هو رأي وموقف نجيب محفوظ في المرأة إذا حاولنا أن نستخلصه من تسلسل الحبكة الدرامية لرواية (حضرة المحترم). تلك الحبكة التي تسير في خطين رئيسيين يمكن أن يسمى أحدهما بالخط الوظيفي والآخر بالخط الزيجي, أما الأول فهو يتعلق بسعي البطل وراء الترقي الوظيفي وأما الثاني فيتتبع محاولاته الزواج من طبقة اجتماعية أعلى لعل ذلك يكون من شأنه اعطاءه دفعة إلى الأمام على طريق الترقي. ويبدو واضحاً أن خطي الحبكة اللذين يتوازيان هما في الحقيقة قويا الصلة الواحد بالآخر. وهكذا فإن عثمان الذي يتخلى عن المرأتين الوحيدتين اللتين أحبهما حباً حقيقياً (سيدة وأنسية) ويحطم ثالثة (أصيلة) لأنه رأى أن أياً منهن لن تكون ذات نفع في دفع حياته الوظيفية ـ حين ينتهي به الأمر إلى الزواج من بغي فإن الاحباط الدرامي Anticlimax والمفارقة يبدوان واضحين في سلوكه اليائس. وعند هذه النقطة يتقاطع خطا الحبكة.

رواية (حضرة المحترم) تكشف بجلاء وجهة نظر الكاتب العالمي نجيب محفوظ في الحياة. فالقصة مفارقة درامية حول رجل خان قلبه وأعطى ظهره للحب وراح يبحث عن امرأة من الطبقة الاجتماعية العليا لتكون واحدة من درجات السلم التي يصعد فوقها نحو هدفه الأوحد: منصب المدير العام.

فإذا كانت المرأة هي الحياة, فإن الذي يتخلى عنها ويسيء إليها إنما يتخلى عن الحياة ذاتها ويسيء إليها وهكذا يعرض نفسه للمعاملة بالمثل. حتى وإن كان مثل عثمان بيومي يسعى نحو هدف مقدس:(الهدف من الحياة هو الطريق المقدس, طريق المجد, أو تحقيق الالوهية على الأرض وهو يتوقف ليسأل نفسه: أيهما الغاية وأيهما الوسيلة, المرأة أم الدرجة?)

ولكن نسي أنه كان قد حزم أمره منذ وقت غير قليل. فإما العروس التي ترفع إلى العلا وإما العلا الذي يحظى بالعروس الباهرة.

هذا هو الهدف المقدس الذي يضعه عثمان بيومي بطل حضرة المحترم نصب عينيه: العروس الباهرة والعلا إنهما طرفا مقص لا يمكن لاحدهما أن تكون له قيمة دون الآخر. وعلى عكس ما يتمنى فإن عثمان بيومي لا يحظى بأي منهما على خلاف حسين الضاوي بطل القصة القصيرة (كلمة في الليل) في مجموعة (دنيا الله) التي نشرت عام 1963, إن حسين الضاوي, الذي يمكن أن يكون الارهاصة الأولى لشخصية عثمان بيومي, يتشابه معه في الأصل الوضيع وفي سيطرة الطموح على شخصيته بحيث لا يتورع عن التضحية بكل غال ورخيص في سبيل الوصول. ولكن حسين الضاوي ينال بالفعل ما أراد فيتم له الزواج من الطبقة العليا ويحصل على درجة المدير العام, بل إن القصة تبدأ بحفل اقيم بمناسبة تقاعده عن العمل, أي أنه استمتع بكل ما يتيحه المنصب من سطوة وسلطة وفرص وارتوى منه حتى الثمالة, ثم يكتشف في النهاية أنه قد دفع ثمناً فادحاً من أجل الوصول ويبدي ندمه ويتحول إلى شخص آخر.

شخصيات لا أخلاقية

وإذا قارنا عثمان بيومي بمحجوب عبدالدائم بطل رواية (القاهرة 30) (1945), الذي يشاركه نفس الثالوث المدمر: الفقر الطموح واللاانتماء, فسنجد محجوب شخصية لا أخلاقية شعاره في الحياة (طظ), او التحرر من كل شيء, من القيم والمثل والعقائد والمبادئ في التراث الاجتماعي عامة. أما عثمان فيتميز بوعي أخلاقي وضمير يعذبه كلما اقترف إثماً.

وهما معاً, مثل حسين الضاوي, ينحدران من أصول فقيرة ويتميزان بالوصولية وينهزمان في النهاية هزيمة منكرة وهما ايضاً يشتركان في موقفهما السلبي من العمل السياسي وسخريتهما من الثائرين على الفساد والاجتماعي.

إن عثمان بيومي يقبل الوضع القائم ويتحرك داخل أطره وبما يتفق مع معطياته لدفع وجوده الذاتي ولا يتوقف للحظة ليتساءل عن شرعية هذا الوضع القائم. وبينما نشعر أن السخط والحقد هما السمتان المميزتان لمحجوب عبدالدائم نجد أن الأمل الوحيد في حياة عثمان بيومي هو الانتماء للنظام القائم والانخراط في منظومته التي يراها مقدسة, ويتبدى الفارق الكبير بين الشخصيتين في اللغة الصوفية التي يستخدمها عثمان بيومي طوال الوقت في مونولوجه الداخلي, يستخدم محفوظ في هذه الرواية مفردات القاموس الصوفي كي يعبر عن خبرة بعيدة كل البعد عن التجربة الدينية, كأنه يرغب في خلق الإحساس بالمفارقة لدى القارئ والتناقض بين ما يقال وما يحدث.

من هو عثمان بيومي?

منذ البداية يعرف عثمان بيومي طريقه جيداً ويحدد موقعه بدقة. (إنه لا يملك سحر المال, ولا يتمتع بامتيازات الأسر الكبيرة. ولا قوة حزبية تسنده, وليس من الذين يرتضون أن يلعبوا دور البهلوان أو العبدأو القواد. إنه واحد من أبناء الشعب التعيس الذي عليه أن يتزود بكل سلاح ويتحين كل فرصة, ويتوكل على الله, ويستلهم حكمته الأبدية التي قضت على الإنسان بالسقوط في الأرض ليرتفع بعرقه ودمه مرة أخرى إلى السماء).

ولم يكن عثمان بيومي يطمع في وظيفة وزير أو وكيل (أما وظيفة المدير العام فلا تستعصي على أبناء الشعب, هي أملهم المنشود والأخير. وبخاصة الأفذاذ منهم الذين يعدون أنفسهم لذلك المجد العظيم).

هذا القادم من أعماق الفقر المصري, الذي دفن والديه في قبور الصدقة, ومن قبلهما فقد أخاه الوحيد الذي كان شرطياً في مظاهرة, وأخته التي لم يفلح العلاج في مستشفى الحميات في إنقاذ حياتها من براثن التيفود, وأخاه الآخر الذي مات في السجن.

من أين له تلك الثقة في النفس بلا حدود, وهذا الطموح الجارف..?!

إن السر يكمن في أمه, التي كانت تضع فيه آمالاً كباراً. (كان أبوه يعده لأن يكون سائق كارو ولكنه توفي فجأة تاركاً ابنه في السنة الثانية الثانوي, بناء على مشورة شيخ الكتاب الذي توسم فيه الذكاء وتنبأ بأنه سيكون موظف حكومة محترما. وكانت أمه امرأة عاملة, فضاعفت من نشاطها لكي تنفق على دراسته الثانوية مؤملة أن يجعل الله من ابنها كبيراً من الأكابر, أليس الله بقادر على كل شيء).

إن نجيب محفوظ يؤكد على التناقض الحاد بين واقعية الأب وطموحات الأم, فبينما يموت الأب حزينا فإنه ترك ابنه تلميذاً لا حول له, ولم يعلمه قيادة الكارو, نرى الأم لها تطلعاتها التي تتمنى أن تتحقق في ابنها, ولولا وفاة الأم فجأة لكان عثمان أكمل تعليمه في المدارس العليا. ويصر الكاتب على أن يكون موت الأم مأساوياً ومشابهاً لموت بقية أفراد العائلة: ماتت الأم وهي تعمل.. كانت تغسل وفاجأتها نوبة مصران أعور حملت بعده إلى مستشفى قصر العيني لاجراء عملية استئصال المصران, ولكنها قتلت أثناء العملية.

وهناك شخصية نسائية أخرى تلازم عثمان وتذكره بأمه وتلعب دوراً مهماً في حياته, يتحدث عنها محفوظ باحترام شديد. إنها أم حسني صاحبة البيت الذي يقطن فيه عثمان في حارة الحسيني.

تظل أم حسني تعمل بهمة عالية حتى يتجمع لها بعض المال من عملها فتبني به بيتاً تسكن في إحدى شققه ويسكن عثمان في الشقة الثانية.

هذه الرؤية الإيجابية التي تمثل الغالبية العظمى من النساء المصريات المطحونات بين شقي الرحى: الفقر والنظام الاجتماعي المختل, تعكس الاحترام العميق الذي يكنه الكاتب الكبير للمرأة. إن أم حسني تحقق ما لم يستطع أن يحققه والد عثمان ولا عثمان نفسه بعد رحلته الشاقة بين دروب الحياة: السكنى في البيت الملك!

الدور الإيجابي

ونتابع أم حسني في الرواية وهي تلعب أدواراً إيجابية ليس فقط في حياة عثمان وإنما في حياة أفراد آخرين من المحيطين بها. إنها تتحرك برشاقة وثقة بين درجات السلم الاجتماعي وتملك الشجاعة على توجيه النقد لعثمان والتدخل في شئونه.

وهي تمتلك بصيرة نافذة ورؤية واقعية للحياة وتعاطفا إنسانيا مع الحب, فهي التي تبلغ عثمان بخبر تقدم عريس لسيدة (حبه الأول) وتظل تحثه على الارتباط بها وتمهد الجو للقائهما دون جدوى.

وعندما يشعر عثمان أنه لم يعد يحتمل أن يحترق في الحياة وحيداً وانه بحاجة إلى دفء إنساني حقيقي, إلى عروس وأسرة فلايجد سوى أم حسني ليلجأ إليها كي تحقق له بغيته في الزواج من إحدى بنات العائلات. ولا تتردد أم حسني لحظة في السعي حتى تحقق له تلك النهاية وتعرفه إلى ناظرة مدرسة يراها مناسبة تماماً. ولكن البخل يصبح مسيطراً عليه فيرفض الزواج بها.

أما النموذج النسائي الإيجابي الثالث في حياة عثمان, فهي سيدة, حبه الأول, وقربانه الأول على مذبحة الطموح, فتاة سمراء في السادسة عشرة من عمرها, داكنة السمرة من أم مصرية وأب نوبي, قرينة طفولته في حارة الحسني, وزميلته في الكتاب, قبض على أبيها في المعركة التي قبض فيها على أخيه, ولكن بينما كان أخوه في جانب السلطة, أي في جانب الظلم والبغي, كان أبوها في جانب الشعب ولذلك أدخل السجن ومات فيه.وعلى الرغم من حبه لها بعقله أيضاً لأنه يقدر مزاياها واخلاصها, ويشعر بتلقائية بأنها كفيلة بإسعاده, فـإنه يحجم عن الارتباط بها حتى لا تعطل مسيرته وتعرقل تطلعه إلى المنصب الكبير الذي وضع خطة دقيقة للوصول اليه. وعندما يعرض عليه رئيس قسم المحفوظات سعفان بسيوني الزواج من ابنته يقاوم بشدة. إن مثل هذه الزيجة لا تتفق وبنود الخطة المقدسة فالزواج من بنت رجل فقير يعمل بوظيفة محدودة لن يكون فرصة طيبة ولن يمهد الطريق لشيء (لا شيء إلا الذريعة والمتاعب والفقر).

وكان هذا الرفض أهون كثيراً من الموقف الشائن الذي وقفه مع سيدة, حبه الأول, ورفيقة طفولته, فعندما تبلغه أم حسني بخبر تقدم عريس (ترزي بلدي) للزواج بها يكتفي بالتحسر والحزن و(يسلم بمرارة بأنه لن يراها مرة اخرى. ورغم عذابه شعر بارتياح خفي يائس, وبقدر ارتياحه آمن بأن اللعنة حلت به).

وهكذا تغلق صفحة مهمة من حياة رجل تسلطت عليه فكرة الصعود أغلقها بيده ودون أن يدفعه لذلك أي شيء.

ما بقي من القدر

إن عثمان بيومي رجل يصر على أن ينجو بنفسه من محيط البؤس والفقر, وحب سيدة لن ينتشله من الغرق, بل قد يضاعف مأساته, لأنها في جهلها وفقرها في حاجة لمن ينقذها هي.

وينتهي الأمر به إلى أن يلقي نفسه بين أحضان بغي (زنجية) تسمي نفسها (قدرية) تعلمه شرب الخمر لا يربطه بها أي عاطفة, ولكنه يعاملها كم لو كانت جزءاً من قدره (وكان يتأمل الحجرة العارية ويشم رائحة البخور, ويلمح الحشرات ويتخيل الجراثيم المستكنة ويتساءل : أليس هذا الركن الملعون المشتعل بنار الجحيم جزءاً من مملكة الله).

ودون ان يشعر وجد نفسه يغوص في مستنقع قدرية البغي شيئاً فشيئاً, عرضت عليه أولاً أن يحتكرها ليلة كاملة وان يدفع خمسين قرشاً مقابل ذلك.فرضي بعد تردد على أن يكون مرة في الشهر, (قدرية تلعب دوراً ملطفاً في حياته المتوترة ولكنها لاتهيئ رحمة او حناناً او مودة إنسانية, فضلاً عن مضاعفتها لمشاعر الإثم).

وراح يبحث عن فرصة للزواج بإحدى بنات العائلات لا يهم ان كانت أرملة مطلقة أو عانساً ولا يهم الشكل المهم ان تكون سليلة أسرة كبيرة, (وأنه بحاجة إلى دفء إنساني حقيقي, إلى عروس وأسرة لم يعد يحتمل أن يحترق في الحياة وحيداً) الزواج منه يستمد العون ويبدد وحشة القلب وعذابات الوحدة ويرضي ورعه الديني الذي يرى عذوبته إثماً.

وعندما تعرض أم حسني عليه الزواج من ناظرة (أصيلة) يهتز بسرور لا خفاء فيه ولكن الناظرة زوجة صالحة ربما على حين أنه يريد (مصعداً) فما العمل? ويجدها مناسبة تماماً ولكن البخل يصبح مسيطراً عليه فيرفض الزواج بها.

ثم يأتي النموذج النسائي الإيجابي الرابع في حياة عثمان بيومي أنها أنسية رمضان أول فتاة تلحق بالإدارة وبالمحفوظات بالذات (سمراء رشيقة متناسقة القسمات بسيطة الملبس) عمرها 18 سنة حاصلة على بكالوريوس علمي.

بعد فترة تتقدم في طريق الصحة والأناقة ويقيم بينهما علاقة إنسانية مهذبة رقيقة يتعذر تسميتها. فلم يعد يتصور المحفوظات بغير وجودها العطر, تحرك قلبه تجاهها كما لم يتحرك منذ عمر سيدة وجلساتها فوق سلم السبيل الأثري.

تتقدم نحوه خطوة بأن تقدم له هدية في عيد ميلاده فيلتقيان في حديقة الحيوان ومع ذلك لم يعترف لها بحبه ولم يطلب يدها.ويظل فريسة للصراع بين العاطفة متمثلة في أنسية والغريزة متمثلة في أصيلة التي تتجرد من كبريائها وتحفظها وتطارده حتى ينالها ثم يلفظها تماماً بعد ذلك.

ويظل على حذر من أنسية رمضان التي يعترف صراحة بأنه يحبها, ولذلك فعليه أن يخشاها أكثر من أي أمرأة أخرى في الوجود, وهي أيضاً تحبه مما يضاعف من خطورة الأمر (العروس التي لا تدفع إلى الأمام ترجع إلى الوراء). وحتى لا يقوده حبها إلى المأذون كذب عليها وادعى أنه مريض بمرض لا شفاء منه يجعله غير صالح للزواج وشجع زميلاً شاباً لها على الزواج بها.

ولم يكن صادف في حياته من هي أكفأ منها على إسعاده, ولا سيدة نفسها: جميلة وذكية وطاهرة, وقد أحبته بصدق ونقاء, وبات يؤمن بأنه لن يظفر بمثلها مهما ابتسم له الحظ وأنه جزاء عادل على أي حال).

التخبط العاطفي

يمر بعد ذلك بمرحلة من التخبط العاطفي الا أن صلته بقدرية لاتنقطع وعندما يعلم منها أنه لن يكون بوسعه أن يلجأ إلى غرفتها العارية ونبيذها الجهنمي يعرض عليها الزواج فجأة وبلا مقدمات. وكان شاهدا الزواج قوادين ممن كانوا يعملون معها ثم ألزمها بالحجاب باسم الحشمة في الظاهر, وفي الحقيقة خوفاً من أن تقع عليها عين زبون قديم أو حديث واستأجر شقة بحي روض الفرج من ثلاث حجرات اسهما معاً في تأثيثها كل منهما بمبلغ 100 جنيه.

وهكذا بدأت في حياته مرحلة اليأس التام التي تغرق في موجة من الاستسلام تبلغ حد الاستهتار. وبدافع من الاستهتار غير سياسته المعتادة نحو النقود وبدأ ينفق ليستمتع بطيبات الحياة قبل فوات الأوان.

وأخذ يقنع نفسه بأن قدرية هي المرأة الوحيدة التي أحبها حباً حقيقياً, والدليل على ذلك ان علاقتهما استمرت فترة طويلة من عمره, وبدأ يتأهب للقاء ربه ويعد مقبرة لدفنه بعد موته, فكأن كل ما ادخره وبخل على نفسه من أموال لكي يدفع مهر العروس ذات الحسب التي سترفعه إلى المجد بأصالة أسرتها وعراقة منبتها كل هذا ذهب إلى الزواج من (كهلة نصف سوداء في ضخامة بقرة مكتنزة تحمل فوق كاهلها نصف قرن من الابتذال والفحش, ومقبرة يحفظ فيها كرامته وحتى لا يدفن في مقابر الصدقة مثل والديه وأشقائه).

وأخيراً يحين الفصل الأخير في دراما عثمان بيومي والمرأة. إنها الدرجة الأخيرة في سلم صعوده إلى الهاوية. سكرتيرته الحسناء راضية عبد الخالق (25 سنة) رشيقة القوام بصورة ملحوظة, ذات هالة من الشعر الفاحم سودها الحلاق في بساطة وانسياب فأحدقت بجانبي الوجه الأسمر الطويل صانعة له اطاراً حانياً, وعيناها صغيرتان وواضحتان وذكيتان تومضان بجاذبيته, وبروز ثنيتها ـ وربما عد عيباً ـ اضفى على فيها شخصية حلوة.

كانت تعيش مع عمة عانس عجوز في بيت بالسيدة زينب ورغم اعتراض العمة فإن زواجهما تم سراً. وأعيد تأثيث الشقة لتصلح للحياة الجديدة. وكان يمضي في بيت راضية الوقت حتى منتصف الليل ثم يذهب إلى قدرية في روض الفرج بعد ذلك فيجدها غارقة في غيبوبة الإدمان.

وفي قمة إحساسه بالرضا وتهيئة لاستقبال المنصب الكبير الذي عاش يتقرب إليه بعد أن زالت كل العقبات وفي لحظة قراره بإعلان زواجه ومواجهة تجديد حياته وإنجاب الذرية الصالحة يباغته المرض ويمضي الطبيب بإجازة طويلة. ويكتشف أثناء ذلك أن راضية لم تتزوجه إلا طمعاً فيه. وعندما يبلغه نبأ ترقيته أخيراً لدرجة المدير العام. ويستعد لممارسة مهامه وتذوق طعم النجاح وأن يصبح صاحب السعادة, مالك الحجرة الزرقاء, مرجع الفتاوى والأوامر الإدارية, وملهم التوجيهات الرشيدة للإدارة الحكيمة, وقضاء مصالح العباد, وعبدا من عباد الله القادرين على الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, عندئذ يأمره الطبيب بعدم مغادرة الفراش, فيقرر الانتقال الى المستشفى ويفقد حماسه لكل شيء للمنصب والزوجة الشابة, ولايفكر إلا في القبر الجديد.

لقد كتب نجيب محفوظ رواية (حضرة المحترم) ببراعة المهندس المعماري الذي لا تفوته التفاصيل مهما صغرت.

لقد أمضى محفوظ سنوات طويلة من عمره في الوظيفة الحكومية حتى حصل على المعاش. فهل يعكس عثمان بيومي جزءاً من أزمته الشخصية?! وهل تأثر محفوظ في تحديد مصير عثمان بيومي التعس بالثورة النسائية التي كانت قد اندلعت منذ أواخر الستينيات ووصلت أوجها عام 1975, عام المرأة العالمي, ولفتت الأنظار الى الظلم الواقع على المرأة وإلى الخطأ الفادح الذي ترتكبه البشرية في حق نفسها باستمرارها في تجاهل دور المرأة الجوهري والأصيل في إرساء دعائم الحب والسلام على الأرض.

إن عدد الشخصيات النسائية في رواية (حضرة المحترم) يصل إلى ثماني شخصيات تظهر كل منهن جانباً مهما في حياة البطل وتلعب دوراً حيوياً في إلقاء الضوء على شخصيته, ومع ذلك لا نستطيع القول بأن أياً منها قد حظيت بالتركيز عليها أو تحولت الى شخصية حقيقية يمكن أن تعيش بعيداً عن ظلال عثمان بيومي وهواجسه.وهذا نقص جوهري في الرواية, ولعله كان السبب وراء عدم التفات النقاد الى دور المرأة في حياة عثمان بيومي, وبالتالي دورها في حياة أي رجل.

 

إقبال بركة