تعليم الأطفال قبل الأوان حسين بن حميدة

تعليم الأطفال قبل الأوان

ليس أطفالنا خيول سباق نلهب ظهورهم مبكرا بسياط التلقين، ففي أعقاب السباق غالبا ما يأتي الإرهاق.. إنها، وجهة نظر تدعو إلى الإمعان.

تعتبر السنوات الست التي تسبق الحياة المدرسية من أهم مراحل العمر بالنسبة إلى الكائن البشري، إذ فيها يتحدد نمط النمو على مستوى مقومات الشخصية الإنسانية نفسيا وجسميا واجتماعيا، فتبزغ بذور الأصالة الذاتية خلقا وممارسة، وتنبت الاتجاهات السلوكية من تأثير التنشئة في أحضان العائلة فيكون مداه على قدر ما يتوافر في البيت من ظروف تساعد على النمو الطبيعي. وتكون للطفل - تبعا لما يتلقاه - ردود فعل تتناسب - قولا وعملا - مع ما يتعامل به ومع طبيعة العلاقة القائمة في الأسرة، ومدى الدفء الروحي الذي يلفها وينبعث منها، ردود تعبر عما يتمتع به الترابط العائلي من خصوصية أخلاقية وما له من انجذاب يستهوي الناشئ ويستدعيه أن يستوعب أبجديات القواعد السلوكية النابعة من تقاليد المجتمع والمتجاوبة تماما مع الفطرة المسكونة بالمواجد والمتأصلة في كيان الناشئ والمهتدي بها إلى مكارم الأخلاق وإلى شد الروابط وتقوية الأواصر وتمتين عرى المودة.. وبذلك يتحقق الأثر الذي يعتبر أصل التعلم. إذ بحصول بوادر الرغبة في الاستزادة يتعلم الفرد، وبإيجاد الدوافع للتطلع إلى ما يكشف عنه حسه ويتيقظ له خياله يزداد انتباهه حرصا وتواصلا، وشوقه إلحاحا وإمتاعا ومؤانسة، ويستفيد مما يزخر به محيطه من مثيرات ومنبهات للحوافز، فتتوسع دائرة توقه إلى إضافات جديدة تشحذ ذهنه وتدعم كفاءته وتغني مواهبه وتستكين نفسه إلى هداها.

تعامل في حدود الطاقة

هكذا تظل التنشئة الأولى مرهونة بمدى ما يتوافر للأسرة من رصيد مفعم بالإيمان والأصالة الثقافية وبعمق الإحساس الاجتماعي والروحي، ومأمون بحرارة الأواصر التي تجمع أفرادها عقيدة ومبادئ.

كما يمتد الوعي بأهمية مرحلة ما قبل المدرسة إلى كل الهيئات المعنية بالطفولة المبكرة، الوعي الذي يفرض احترام الأصول التي ينبني على أساسها النمو الذهني للطفل، ونمو مقوماته الشخصية - حسا وحركة ووجدانا وارتباطا - بسبب الوعي بما ينبغي أن يقدم للطفل من فرص تفترض التأثير فيه عاجلا فيقبله وينجذب إليه وما ينبغي أن يرجأ مما لا يتجاوب معه فيعرض عنه ويتجافاه، الوعي بمدى النضج الذي من منطلقه يحصل التعامل في حدود الطاقة الميسرة للفهم وللقدرة الإدراكية وللتجاوب المستساغ له. إن سلطة الإشراف - الساهرة على الطفولة - قد أفردت هذه المرحلة ببرامج مدروسة درسا علميا تتناسب - محتوى وغرضا - مع اهتمامات الطفولة المبكرة واقتداراتها وتستجيب لأصول علم نفس الطفل، ولطفرات النضج التي يمر بها تبعا للتطور العمري ولطبيعة تناسق النمو مع مقومات الكائن الإنساني مرحلة مرحلة.

وحضت لذلك كل الهيئات المعنية من رياض ومحاضن إلى إيلاء الأهمية لما جاء في تلك البرامج من أهداف، وإلى تطبيق المحتوى دون مجازفة بالطفل إلى ما يثقل كاهله الناعم ويشل يقظته المتوثبة ويجعله معنيا بأعباء مدرسية لا قبل له في سنه باستيعابها ولا طاقة له بتحملها والتجاوب معها.

حض أهل الاختصاص والدراية بشؤون التربية أن يوفوا بالغرض الذي ضبطته المناهج دون انسياق إلى ممارسات قد تذهل الأولياء الذين يحملون خلفية خاطئة عن مفهوم التكوين الذي يستهدف طفل ما قبل المدرسة، فينشد اهتمامهم إلى ما يجري بالمؤسسة التي ينتمي إليها صغارهم من سباق في قطع الأشواط الدراسية وما يحصلون عليه من زاد معرفي ومهارات كتابية، ومن حذق لآليات حسابية لم يحن بعد أوان ممارستها بالكيفية التي يتلهف إليها الولي وينجذب إليها صاحب المؤسسة منصاعا تبعا لتلك الرغبة وحرصا على حصوله على الفائدة المبتغاة.

إنه أمل خلب يراد به الإشهار والاستقطاب بالاهتمام دون اعتبار للانعكاسات التي تؤدي إليها تلك الممارسات السابقة لأوانها والتي لا تخلو من هضم لجانب من حقوق الطفل في أقدس ما يتميز به من نزوع إلى الحرية والأمان والتمتع بتصريف ملكاته الطبيعية في الحركة وفي الإنعتاق من كابوس التسيير والتوجيه والضبط، مع ما ينبغي احتماله من صبر لإيناسه شيئا فشيئا قواعد تخلصه من ربقة التساهل والإخلاد إلى العبث الفوضوي، إلى التحلي بالانضباط واعتياد الاتزان وبأن لا إفراط ولا تفريط في الممارسة والسلوك.

أحلام ضررها أكثر

هكذا - في البداية - ينبغي أن يكون محكوما على الكبار - أولياء ومربين - تجنب إرهاصات الصغار وخذلانهم فيما جبلوا عليه من عفوية وميل إلى المرح، وإلى اللهو البريء وإلى تلقائية الانبساط والبهجة ومن صدق المشاعر وثناء عن كل مجاملة. الكبار في البداية عليهم أن يلتزموا حدودا لا يجدر التساهل في تجاوزها بتعمد حشو أدمغة الصبية وكأنهم يستبقون الزمن في حرص على تخطي أعتاب السنوات لإحداث طفرات تؤتي أكلها شهادات مبكرة في سن النضارة وعز الفتوة وليكون السابق مبعث فخر العائلة واعتزازها.

إنها أحلام حتى وإن جاد الزمان بها يوما فضرها أكثر من نفعها. ويظل الأصل مراعاة الموازنة بين حاجات الطفل النامية إلى تربة خصبة تعزز مقومات نموه، وبين إمكاناته البيولوجية والنفسية والإقتدارات الذهنية، تلك الموازنة التي تعتبر حجر الزاوية في ضمان النمو السليم المتوازن للناشئ الغض.

ومن نافلة القول أن نهيب بالهيئات المعنية أن تسهم في إعداد دليل يمكن الأسر من الاسترشاد به في كيفية إعداد الطفل للمدرسة وفي مساعدته بصفة عامة على أن يحقق لنفسه نموا طبيعيا منسجما مع سني حياته المبكرة، مع المتابعة الحازمة للهياكل الساهرة على مواطن الرعاية والإيواء ومد المنشطين بالمعينات والوسائل، أو الإشارة إلى التقنية التي تيسر مساعدة الطفل على تحقيق أهداف تناسبه، وممارسة نشاط تستجيب له طاقته دون محاولة (للسطو) على ما لم يحن أوان ممارسته وما ليس له لاستيعابه لا حول ولا طول.

ولعل من شواهد الإثبات التي تؤيد حق الطفل في حياة طفولية تحترم ما جبل عليه من تحرر وانجذاب إلى الحركة وتعتبر ما عدا ذلك خرقا لقانون الطبيعة ومجازفة إلى الدفع به - عندما يجد الجد - إلى التنقل من الأعباء والهرب من تبعات المسئولية وإلى توخي مسالك عدم المبالاة وانتهاج سبل المراوغة والإهمال.. ما يرويه صلاح جاهين فيما يلي وهو مقال منشور بعدد من مجلة الدوحة لسنة 1977 إذ يقول: "تعلمت القراءة والكتابة وعمري أربع سنين، أمي معلمة استقالت لتتفرغ لتربيتي، بدأت تعلمني، وفي شهور قليلة كنت أقرأ وأكتب وأضرب الأعداد وأقسمها. أمي فرحت لكنها جنت علي وندمت بعد ذلك ندما مرا. كان عمري أربع سنين لكني أحمل فوق عنقي دماغا كبيرا كأنه دماغ رجل وهذا ما أضر بي إذ إن حقنة التعليم المبكر ظهرت أعراضها السيئة وأنا في نهاية المرحلة الثانوية: فجأة مللت الدراسة، ما قيمة الدروس وقد تعلمتها قبل الأوان ؟ وبدأت (أزوغ) قفزا فوق أسوار المدرسة لأجلس في أي مكان وأرسم وألعب.

هذا درس قد يستفيد منه غيري:

لا تعلم طفلك مبكرا وقبل سن الدراسة الطبيعية، إنه قد يتفوق في سنوات البداية ثم يخفق في النهاية.

التعليم المبكر مثل الحبوب المنشطة التي تعطى لخيول السباق وبعدها يجيء الإنهاك.

 

حسين بن حميدة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات