مساحة ود غالب خلايلي

مساحة ود

الشكل أم المضمون؟

قد يختلف الكثيرون على أهمية هذا الأمر: الشكل أم المضمون، لكن إذا ما استفتينا الآراء الظاهرية لأغلب الناس لحصلنا على نتيجة مفادها أن المضمون هو الأهم.

ولكن هل تنكر يا سيدي دور المظاهر؟ وهل يغيب عن ذاكرتك عطر حسناء أخاذ أو وجه أسيل ساحر؟ إن العين لتعشق الجمال، وإن النفس لتطرب له.. فكثيرا ما يعبر لباس المرء وشكله عن ذوقه وقدرته، ولهذا ترى الكثيرين يتصرفون بطريقة تبرز القدرات المادية وتشعرهم بالتفوق على الآخرين حيث أخفقوا في غير مجال.. فيركبون سيارات رائعة شديدة الغلاء تخطف الأبصار ويلبسون ما لا طاقة لأحد على منافستهم به.. ونجاح هؤلاء مرهون برجحان عقل من يتبارون معه.. فهم سيربحون مع من كان خفيفا.. وسيخسرون مع راجح العقل المفكر.

لقد ذبح الناس سعيا وراء المظاهر، حتى لتراهم ينفقون ويستدينون من أجل المظاهر الخداعة، ولو عانوا كثيرا، فمعاناتهم تضحية أمام مذبح الظهور والبروز على شكل كاذب، ولو أردنا طرح الأمثلة لملأت كتبا، وخلاصتها كذب على النفس وربما على الاخرين وخداع وآلام لا تنتهي.

إن من أطرف وأخطر ما قرأته في مجال الشكل والمضمون، تعاطف الناس مع أصحاب الأشكال الجميلة : فهم يحكمون مباشرة على شكل امرئ ما فيقولون دون أن يعرفوا شيئا عنه: شكله شكل قاتل .. أو حرامي .. إلخ. في كتاب (عقل جديد عالم جديد New Mind New World ) من تأليف روبرت أورنشتاين وبول أيرليش، يطرح المؤلفان فكرة الحكم المسبق على أشياء كثيرة مثل أن المرأة أقل ذكاء من الرجل والأسود أدنى من الأبيض، والوسيم أو الطويل أفضل من غيرهما.. ولإثبات ذلك أجريت تجربة على طلاب جامعة نورث كارولينا، كي يحكموا في قضية فتاة اتهمت بالحصول على عشرة آلاف دولار خداعا.. ووصفت المرأة للمحكمين على أنها فاتنة مرة، ثم متوسطة الجمال مرة أخرى، وغير جذابة في المرة الثالثة، فكان الحكم على الفاتنة هو الأخف (السجن سنة) فيما زاد الحكم نصف سنة أو يزيد في الحالتين الأخريين.. ولا أدري هنا كيف يمكن أن يكون الحكم لو حضرت الفاتنة بنفسها تستعطف المحكمة.. بدلّ ودلال ترى هل تُبرّأ؟ .

لقد تطوع قرابة خمسمائة فتى وفتاة - كما يقول الكتاب - كي يثبتوا أهمية الشكل فقاموا بسرقة السلع من متاجر مركزية في مدينة كبيرة.. وكانت النتيجة أن البائعين أمسكوا بالأشخاص عديمي الهندام وتركوا المهندمين (الحلوين).. وبالمثل يستنتج المؤلفان أن كثيرا من السياسيين غير الأكفاء إنما ينتخبون بسبب وسامتهم.

وخلاصة الأمر: إذا كان حسن الهندام يفتح الأبواب، وإذا كانت العين تعشق الجمال.. فإن المغالاة في المظهر لباسا وكلاما أمر مضن لا يستحق كل هذا العناء، ولا كل هذا الوقت والمال.. فالاعتناء بالمظهر مطلوب ومحبوب، لكن ما أحلى أن يكون المرء بسيطا متواضعا بعيدا عن التقليد والمغالاة.. أما أولئك المقتدرون الذين لا ينافسون فلم ندخل في حرب معهم لا نهاية لها؟ فلنترك لهم عالمهم وليبق لنا عالمنا.. لكل عالمه الجميل الحلو.

حقا إن المرء ليؤخذ بالمظاهر، لكن إلى حين يذوب فيه الثلج.. فكم من مرة خطف الأبصار فيها أناس "مسلفنون" أى (ملفوفون بورق السيلوفان) حتى إذا ما سمعت حديثهم أعرضت عنهم.. لتنشد إلى زاوية مهملة فيها محدث لبق أو عالم متواضع.. لم يسع إلى الأضواء بل سعت إليه.. إذ لا دوام إلا لنداء الروح، ولا صوت فوق صوت العقل والمنطق، ولا انتصار إلا للحقيقة ولو كره الكارهون.

 

غالب خلايلي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات